
من المعرفة والعبادة والمكان لا يتجاوزها، فهم درجات في طاعة الله تعالى، وإننا لنحن الصافون صفوفا في مواقف العبادة.
أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلّون متبددين، فأنزل الله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصفّوا.
ثم أورد الله تعالى ما كان يقوله المشركون قبل البعثة النبوية إذا عيّروا بالجهل فهم كانوا يقولون: لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكفر به، فجاءهم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المجيد، فكفروا به، فسوف يرون عاقبة كفرهم. وهذا وعيد محض، وتهديد على كفرهم بالله ورسوله وقرآنه، لأنهم تمنوا أمرا، فلما جاءهم الله به، كفروا واستهواهم الحسد.
مناصرة الرسل عليهم السّلام
سبق القضاء الإلهي الحاسم، وتقرّر فصل الأمر بأن الله ناصر رسله المرسلين، وكذلك جنده المؤمنين في الغالب، إذا نصروا دين الله تعالى، واستقاموا على أمره، وابتعدوا عن نهيه، وكلّ ما يؤدي لسخطه وغضبه. ونصر أهل الحق والإيمان يقابله هزيمة أهل الكفر والعصيان، والضلال والخذلان، وسيجد كل فريق عاقبته، ونتيجة طريقته، وهذا حق وعدل، وإقرار لما يستوجبه فعل كل إنسان من خير أو شر، وإيمان أو كفر، وإعلان هذا القرار: إعذار وبعد عن أي لوم أو عتاب، قال الله تعالى مبينا هذا الحكم الأزلي الثابت:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)

[الصافات: ٣٧/ ١٧١- ١٨٢].
آنس الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولياءه بأن القضاء قد سبق، وأن الوعد بالنصر والظفر لرسل الله الكرام على من جحد برسالتهم قد فرغ منه، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ففي الدنيا تكون الغلبة والقهر للرسل العباد: بأسر أعدائهم وتقتيلهم وتشريدهم، أو بإجلائهم، أو بتغلب الحجة والبرهان عليهم ونحو ذلك.
وفي الآخرة بالظفر بالجنة والنجاة من النار. وهذا الحكم مقرّر في الغالب، وإن كان النادر هو العكس. وجند الله: حزبه والمجاهدون في سبيله لإعلاء كلمة الله، وهم الرسل وأتباعهم. والنصر مشروط بنصرة دين الله وشرعه، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والعمل بالقرآن والسنة النبوية، لقول الله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٣٠/ ٤٧].
وسبق الكلمة: هو في الأزل بأن رسل الله إلى أرضه وجنود الله هم المنصورون على من ناوأهم، المظفّرون بإرادتهم، المستوجبون الفلاح في الدارين.
فأعرض عنهم أيها النبي، واصبر على أذاهم لك، إلى مدة معلومة عند الله تعالى، فإنا سنجعل لك النصر في النهاية. وهذا وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمر له بموادعة أو مهادنة المشركين إلى أمد معلوم. والحين أو الأمد: إما يوم بدر، ورجحه الطبري، أو موتهم، أو يوم القيامة.
ووعد آخر للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد لهم، مفاده: أمهل هؤلاء المشركين، وانظر ماذا يحل بهم من العذاب بمخالفتك وتكذيبك، كالأسر والقتل. وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به من العقاب ويرون عقبى طريقتهم، وما وعدناك به من النصر وانتشار الإسلام، وكرّر الله تعالى هذا للتأكيد.

ثم وبّخ الله تعالى المشركين على مطالبتهم بتعجيل أو استعجال العذاب، فكيف يجرءون على استعجال عذاب الله الشديد؟ إنهم يستعجلونه لتكذيبهم وكفرهم بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجّله لنا، فنزلت هذه الآية: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فإن نزل العذاب بساحتهم، أي بفنائهم أو موضعهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، لإهلاكهم ودمارهم، وتعبير النزول بالساحة تستعمله العرب فيما يرد على الإنسان من خير أو شر. وسوء الصباح: يستعمل أيضا عند العرب في ورود الغارات والرزايا ونحو ذلك.
ثم كرر الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر، يحين فيه هلاكهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب. وإعادة الأمر بالتولي أو الإعراض عن المشركين تحقيق لتأنيس النبي والعناية به.
وتنزيها لله ربك أيها الرسول تنزيها مطلقا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات، فالله هو رب العزة المطلقة، والمراد بالعزة هنا: أنه ربّ العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين. والتحية من الله على المرسلين. وتوفير الثناء الحسن الجميل آخر الدهر، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته، والحمد التام والشكر الكامل لله في الأولى والآخرة في كل حال، فهو سبحانه رب الثقلين: الإنس والجن، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.
أخرج ابن سعد وابن مردويه عن أنس عن أبي طلحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سلّمتم على المرسلين، فسلّموا علي، فإنما أنا بشر من المرسلين».
والعزة في هذه الآية: ليست هي صفة الله تعالى، والتي من حلف بها كان ذلك يمينا، وإنما المراد بها عزته التي خلق بين عباده، فمن حلف بالعزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين، فليس ذلك بيمين.