
قال السدي: كانوا يعبدون الملائكة.
قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً﴾ إلى قوله: ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾.
أي: أم شهد هؤلاء القائلون: إن الملائكة بنات (الله)، خلق الله الملائكة إناثاً. هذا كله على التقرير والتوبيخ.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله﴾ أي: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ليقولن ولد الله، وهو جعلهم الملائكة بنات الله.
ثم قال: ﴿أَصْطَفَى البنات على البنين﴾ هذا أيضاً توبيخ لهم، والمعنى عند الزجاج: سلهم هل اصطفى البنات على البنين.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾. هذا أيضاً تقريع وتوبيخ ومعناه: بئس الحكم تحكمون أيها القوم، أن يكون لله البنات ولكم البنون، فأنتم لا ترضون البنات

لأنفسكم فتجعلون لله ما لا ترضون به لأنفسكم.
ثم قال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي: تتدبرون ما تقولون فتعرفون خطأه فتنتهون عنه.
﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي: حجة ظاهرة على ما تقولون.
قال قتادة: " سلطان مبين " عُذْرٌ بَيِّنٌ.
﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بما قلتم من الإفك إن كنتم صادقين فيما قلتم.
ثم قال: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾.
قال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه جل ثناؤه وإبليس أخوان.
وكذلك قال الضحاك.
وقال غيرهما: الجِنَّة هنا الملائكة، جعلهم كفار قريش بنات الله جل عن ذلك وتعالى، وهو قول مجاهد والسدي.
وروي أن أبا بكر قال لقريش: من أمهاتهن؟ فقالوا: سَرَوَاتُ الجِنِّ.

وقال قتادة: قالت اليهود: إن الله جل ذكره تزوج إلى الجنة فخرج بينهم الملائكة. فسميت الملائكة جِنة لأنهم لا يُرَون.
وقال السدي: سموا بذلك لأنهم على الجنان.
[ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي: ولقد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا لمُشْهِدُون الحساب والنار ومعذبون].
ثم قال: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي: تنزيهاص له وبراءة عما يقولون ويتفرون.
ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم لرحمته، فإنهم لا يحضرون العذاب.
ثم قال (تعالى): ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ أي: فإنكم أيها المشركون وما تعبدون من الآلهة ما أنتم على ما تعبدون من ذلك بفاتنين، أي: بمضلين من أحد إلا من هو صالِ الجحيم، أي: من سبق له في علم الله أنه يضل فيدخل النار.
وقيل: " عليه " في قوله " ما أنتم عليه " بمعنى له. هذا كله معنى قول ابن عباس والحسن/ وقتادة والسدي وابن زيد.

والتقدير عند جميعهم: لستم تضلون أحداً إلا من سبق في علم الله أنه من أهل الشقاء وأهل النار.
وفي هذه الآية رد على القدرية لأن الضلال والهدى كل بمشيئة الله وقضائه، خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للشقاء فالشياطين لا تضل إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي.
فأما من تقدم له في علم الله الهدى فإنه تعالى يحول بينهم وبينه فلا يصلون إلى إضلاله.
قال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يُعْصَى لم يخلق إبليس وإنه لبَيِّنٌ في كتاب لله في آية علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾.
وقوله: " صال الجحيم " أصله صالي بالياء، ولكن كتب على لفظ الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، فإن وقف عليه واقف، فمن القراء من يكره مخالفة الشواذ فيقف بغير ياء.

ومذهب سلام ويعقوب: أن يقف عليه بالياء/ على الأصل، لأن العلة التي من أجلها حذفت الياء قد زالت بالوقف.
وقرأ الحسن: " صال الجحيم ". على أن يرده على معنى " من " فيجمع بالواو والنون، وتحذف النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين في الوصل. ولا تجوز هذه القراءة على غير هذه الأشياء. ذكر بعض النحويين: أن يكون قرأه على القلب كأنه رد لام الفعل، وهي الياء في الواحد قبل اللام، فصار الإعراب (في اللام)، فضمت ثم حذفت الياء، وهذا بعيد.

ثم قال تعالى: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾.
التقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام، ثم حذفت من.
ولا يجوز هذا عند البصريين لأنه حذف موصول وترك صلته.
والتقدير عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام.
وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملائكة، أي قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا ملك له مقام معلوم في السماء.
ثم قال تعالى حكاية عن قول الملائكة: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون﴾ روت عائشة رضي الله عنهـ أن النبي ﷺ قال: " مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلاَّ عََلَيْهِ (مَلَكٌ) سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ ".
فالمعنى أنهم قالوا: وإنا لنحن الصافون لله بعبادته.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ أي: المصلون له.
قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: ما من السماوات سماء إلا وما فيها موضع شبر، إلا وعليه جبهة ملك، أو قدماه، ثم قرأ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾.

ومعنى الكلام من أوله: أن الملائكة استعظمت فعل من يعبدها وتعجبت من ذلك وتبرأت منه فقالت: " وما منا إلا له مقام معلوم ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون﴾ ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ " فكيف يُعْبَدُ من هو على هذه الحال
ثم قال (تعالى): ﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي: قالت قريش قبل مبعث النبي ﷺ لو أن عندنا ذكراً من الأولين، أي: كتاباً من السماء فيه ذكر الأمم الماضية كالتوراة والإنجيل، فلما جاءهم ذلك كفروا به.
ثم قال: ﴿لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ (أي): الذين أخلصوا لله الطاعة. هذا على قراءة من كسر اللام.
ومن فتحها فمعناه: لكنا عباد الله الذين أخلصهم الله وأختارهم لطاعته.
قال قتادة: قالت هذه الأمة ذلك قبل مبعث النبي ﷺ، فلما جاءهم الكتاب والنبي كفروا به.

قال الضحاك: هذا قول مشركي أهل مكة، فلما جاءهم ذِكْرُ الأولين والآخرين كفروا به، فسوف يعلمون، (أي: يعلمون) ما لهم من العقاب على كفرهم. فالهاء في " به " تعود على القرآن وهو الذكر. وقيل: على محمد ﷺ.
ثم قال (تعالى ذكره): ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ أي: سبق القضاء في أم الكتاب ووجب القول من الله أن المرسلين هم المنصورون على من ناوأهم بالحجج والغلبة قاله قتادة والسدي.
وقال الفراء: لهم المنصورون بالشفاعة.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ أي: حزب الله هم الغالبون حزب الشيطان بالحجج والغلبة والظفر.