آيات من القرآن الكريم

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ

وأَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] لِأَنَّ الْوَقْتَ مُعَرِّفٌ كَالسَّبَبِ وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ تَجْرِي الشَّمْسُ وَقْتَ اسْتِقْرَارِهَا أَيْ كُلَّمَا اسْتَقَرَّتْ زَمَانًا أُمِرَتْ بِالْجَرْيِ فَجَرَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بمعنى إلى أي إلى مُسْتَقَرٍّ لَهَا وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ اللَّامَ تُذْكَرُ لِلْوَقْتِ وَلِلْوَقْتِ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ يُقَالُ سِرْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي إِلَى مُسْتَقَرٍّ لَهَا وَعَلَى هَذَا فَفِي ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَهُ تَسْتَقِرُّ وَلَا يَبْقَى لَهَا حَرَكَةٌ الثَّانِي:
السُّنَّةُ الثَّالِثُ: اللَّيْلُ أَيْ تَجْرِي إِلَى اللَّيْلِ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرَّ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ بَلْ هُوَ لِلْمَكَانِ وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَغَايَةُ انْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ أَيْ تَجْرِي إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَتَرْجِعُ الثَّانِي: هُوَ غَايَةُ مَشَارِقِهَا فَإِنَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَهَا مَشْرِقٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْمُقَنْطَرَاتِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الِارْتِفَاعِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَارِقِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الِارْتِفَاعِ الثَّالِثُ: هُوَ وُصُولُهَا إِلَى بَيْتِهَا فِي الِابْتِدَاءِ الرَّابِعُ: هُوَ الدَّائِرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا حَرَكَتُهَا حَيْثُ لَا تَمِيلُ عَنْ مِنْطَقَةِ الْبُرُوجِ عَلَى مُرُورِ الشَّمْسِ وَسَنَذْكُرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لِمُسْتَقَرٍّ لَها أَيْ تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا. فَإِنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا الشَّمْسُ فِي فَلَكٍ وَالْفَلَكُ يَدُورُ فَيُدِيرُ الشَّمْسَ/ فَالشَّمْسُ تَجْرِي مَجْرَى مُسْتَقَرِّهَا، وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرِّهَا أَيْ لِأَمْرٍ لَوْ وَجَدَهَا لَاسْتَقَرَّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْأَوْضَاعِ الْمُمْكِنَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ليس لإرادتها وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، فَإِنْ قِيلَ عَدَّدْتَ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ وَمَا ذَكَرْتَ الْمُخْتَارَ، فَمَا الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَكَ؟ نَقُولُ الْمُخْتَارُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُسْتَقَرِّ الْمَكَانُ أَيْ تَجْرِي لِبُلُوغِ مُسْتَقَرِّهَا وَهُوَ غَايَةُ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَالْمَجْرَى الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ وَالزَّمَانَ وَهُوَ السَّنَّةُ وَاللَّيْلَ فَهُوَ أَتَمُّ فَائِدَةً، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَرْيِ الشَّمْسِ أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيُ تَقْدِيرُ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إلى المستقر أي لمستقر لها وذلك الْمُسْتَقَرُّ تَقْدِيرُ اللَّهِ وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ وَهُوَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ يَغْلِبُ، وَالْعَلِيمُ كَامِلُ الْعِلْمِ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَنْفَعِ وَعَلِمَ الْأَنْفَعَ فَأَجْرَاهَا عَلَى ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الشَّمْسَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ كُلَّ يَوْمٍ تَمُرُّ عَلَى مُسَامَتَةِ شَيْءٍ لَمْ تَمُرَّ مِنْ أَمْسِهَا عَلَى تِلْكَ الْمُسَامَتَةِ، وَلَوْ قَدَّرَ اللَّهُ مُرُورَهَا عَلَى مُسَامَتَةٍ وَاحِدَةٍ لَاحْتَرَقَتِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مُسَامِتَةٌ لِمَمَرِّهَا وَبَقِيَ الْمَجْمُوعُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْأَمَاكِنِ الْأُخَرِ فَقَدَّرَ اللَّهُ لَهَا بُعْدًا لِتَجَمُّعِ الرُّطُوبَاتِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَالْأَشْجَارِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ ثُمَّ قَدَّرَ قُرْبَهَا بِتَدْرِيجٍ لتخريج النَّبَاتُ وَالثِّمَارُ مِنَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ وَتَنْضُجُ وَتُجَفَّفُ، ثُمَّ تَبْعُدُ لِئَلَّا يَحْتَرِقَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَأَغْصَانُ الْأَشْجَارِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ طُلُوعًا وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ غُرُوبًا لِئَلَّا تَكِلَّ الْقُوَى وَالْأَبْصَارُ بِالسَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَلَا يَخْرُبُ الْعَالَمُ بِتَرْكِ الْعِمَارَةِ بِسَبَبِ الظُّلْمَةِ الدَّائِمَةِ، الثَّالِثُ: جَعَلَ سَيْرَهَا أَبْطَأَ مِنْ سَيْرِ الْقَمَرِ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ زُحَلَ لِأَنَّهَا كَامِلَةُ النُّورِ فَلَوْ كَانَتْ بَطِيئَةَ السَّيْرِ لَدَامَتْ زَمَانًا كَثِيرًا فِي مُسَامَتَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَتَحْرِقُهُ، وَلَوْ كانت سريعة السير لما حصل لَهَا لُبْثٌ بِقَدْرِ مَا يُنْضِجُ الثِّمَارَ فِي بقعة واحدة. ثم قال تعالى:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٩]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَفْظٍ يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَمَرَ لَمْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ مَنَازِلَ فَالْمَعْنَى أَنَّا قَدَّرْنَا سَيْرَهُ مَنَازِلَ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ ذَا مَنَازِلَ لِأَنَّ ذَا الشَّيْءِ قَرِيبٌ مِنَ الشَّيْءِ وَلِهَذَا جَازَ قَوْلُ الْقَائِلِ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ لِأَنَّ ذَا الشَّيْءِ كَالْقَائِمِ بِهِ الشَّيْءُ فَأَتَوْا بِلَفْظِ الْوَصْفِ.

صفحة رقم 277
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية