آيات من القرآن الكريم

وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة أهل القرية، وإهلاك الله له بالصيحة بسبب تكذيبهم المرسلين، ذكر هنا الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية، في إخراج الزروع والثمار، وتعاقب الليل والنهار، وفي الشمس والقمر يجرينا بقدرة الواحد القهار، ثم ذكر شبهات المشركين حول البعث وردَّ عليها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة.
اللغَة: ﴿وَآيَةٌ﴾ علامة لأنها دالة على وجود الله قال أبو العتاهية:
فيا عجباً كيف يُعصى الإِلهُ... أمْ كيف يجْده الجاحِدُ؟
وللهِ في كل تحريكةٍ... وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيءٍ له آيةً... تدل على أنه وا حد
﴿الأزواج﴾ الأصناف والأنواع ﴿نَسْلَخُ﴾ السَّلخ: الكشط والنزع قال تعالى ﴿فانسلخ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٧٥] ويقال سلخ الجزار جلدة الشاة أي نزل الجلد عن اللحم ﴿كالعرجون﴾ من الانعراج وهو الانعطاف، والعرجون: عود عذق النخلة الذي فيه عناقيد الرطب قال الجوهري: هو أصل العذق الذي

صفحة رقم 11

يعوجُّ وتقتطع منه الشماريخ فيبقى على النخل ياسباً ﴿المشحون﴾ المملوء الموقر الثقيلة ﴿صَرِيخَ﴾ مغيث ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ يختصمون في أمورهم غافلين عما حولهم ﴿الأجداث﴾ جمع جدث وهو القبر ﴿يَنسِلُونَ﴾ يسرعون في الخروج، يقال: عسل الذئبُ ونسل أي أسرع في المشي.
التفسِير: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض الياسبة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون﴾ أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة شفي بلدان كثيرة ﴿لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ ؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ «ما» بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا﴾ أين تنزَّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، والمختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء ﴿مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعملون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى
﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: ٤٩] ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ أي وعلامةً أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن

صفحة رقم 12

الأصل هو الظلام والنور عارض، فإذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ أي وآيةً أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقت تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم قال ابن كثير: وفي قوله تعالى ﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش..» الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرىء (لا مستقر لها) أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإله العزيز في ملكه، العليم بخلقه ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعادها، فإذا كان في آخر ليلة دقَّ واستقوس ﴿حتى عَادَ كالعرجون القديم﴾ أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءْ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها ﴿وَلاَ اليل سَابِقُ النهار﴾ أي

صفحة رقم 13

ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، وغير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر كما قال قتادة: «لكل حدٍّ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه» حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى
﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ [القيامة: ٩] فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون﴾ أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا آباءهم الأقدمين وهم ذرية آدم في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين قال في التسهيل: وإنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصة البلدان، وإنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر ﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ﴾ ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم ﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ﴾ أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ﴾ أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم.. بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخوناص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة ويعرفون معنى قوله تعالى ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ فسبحان الله القدير الرحيم!! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ

صفحة رقم 14

تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبرنا هنا عن تعاميهم عن الحق، وأعراضهم عن الهدى والإيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات والمعنى وإذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى ﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ قال القرطبي: والجواب محذوب والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ﴾ فاكتفى بهذا عن ذلك ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات والواضحة الدالة على صدق الرسول كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء قال أبو السعود: وإضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناقطة ببدائع صنع وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾ أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أنفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للإبتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه
﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة فقال ﴿وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً؟ قال تعالى ردّاً عليهم ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ﴾ أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم قال ابن كثير: وهذه والله أعلم نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ

صفحة رقم 15

في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي فلا يستطيع بعضه أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك وفي الحديث: «لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه أي يصلحه بالطين فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه لا يطعمها» ثم تكون هناك نفخة ثانية وهي «نفخة الصَّعق» التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي «نفخة البعث والنشور» التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ أي ونفخ في الصور فإذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي قال الطبري: ﴿يَنسِلُونَ﴾ يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي ﴿قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا﴾ ؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذين أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون ﴿مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون﴾ أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإذا هم مجموعون في موقف الحساب ﴿فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي ففي هذا اليوم يوم القيامة لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإنما يُجازى كلٌ بعمله قال أبو السعود: هذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.
. ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين فقال ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم يوم الجزاء مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهم من أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ

صفحة رقم 16

وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان والوارقة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ أي لهم في الجنة، فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكة ﴿وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ [الزخرف: ٧١] ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليه نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير والتفخيم والتعظيم ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ﴾ أي آية عظيمة باهرة على قدرة الله.
٢ - الطباق بين الموت والإحياء ﴿الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ وبين الليل والنهار.
٣ - الاستعارة التصريحية ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ شبَّه إزالة ضوء النهار وانكشاف ظلمة اللليل بسلخ الجلد عن الشاة، واستعار اسم السلخ للإِزالة والإِخراج واشتق منه نسخ بمعنى نخرج منه النهار بطريق الاستعارة التصريحية، وهذا من بليغ الاستعارة، وبين الليل والنهار طباق.
٤ - التشبيه المرسل المجمل ﴿حتى عَادَ كالعرجون القديم﴾ وجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء: الرقة، والانحناء، والصفرة، ولما لم يذكر سمي مجملاً.
٥ - تقديم المسند إليه لتقوية الحركم المنفي ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر﴾ فإنه أبلغ من أن يقول (لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر) وأكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها فإِنَّ قولك «أنت لا تكذب» بتقديم المسند إليه أبلغ من قولك «لا تكذب» فإِنه أشدُّ لنفي الكذب من العبارة الثانية فتدبر أسرار القرآن.
٦ - تنزيل غير العاقل منزلة العاقل ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ بدل يسبح، فقد عبر عن الشمس والقمر والكواكب بضمير جمع المذكر، والذي سوَّغ ذلك وصفهم بالسباحة لأنها من صفات العقلاء.
٧ - الاستعارة اللطيفة ﴿مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾ المرقد هنا عبارة عن الممات، فشبهوا حال موتهم بحال نومهم لأنها أشبه الأشياء بها وأبلغ من قوله: من بعثنا من مماتنا.
٨ - الإِيجاز بالحذف ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن﴾ أي تقول لهم الملائكة هذا ما وعدكم به الرحمن.

صفحة رقم 17

٩ - الطباق ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا﴾ والاستفهام الذي يراد منه التهكم ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ﴾.
١٠ - السجع غير المتكلف في ختام الآيات الكريمة مثل ﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون﴾ ﴿وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ ومثل ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ و ﴿حتى عَادَ كالعرجون القديم﴾ وهو من المحسنات البديعية.

صفحة رقم 18
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية