
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطرمكية
قوله تعالى ذكره: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ النشور﴾.
أي: الشكر الكامل والثناء الجميل لله الذي ابتدع خلق السماوات والأرض وابتدأهما.
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر حتى اختصم أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها.
ثم قال: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ أي: أرسلهم إلى من يشاء من خلقه وفيما شاء وبما شاء من أمره ونهيه، والرسل هم ها هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت صلى الله عليهم وسلم.
ومعنى ﴿أولي أَجْنِحَةٍ﴾ أي: أصحاب أجنحة، منهم من له اثنان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، أربعة من كل جانب، وهو قوله/: ﴿مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾، قاله قتادة وغيره. صفحة رقم 5947

وإنما تتصرف هذه الأعداد لعلتين، وذلك أنه معدول عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة، والثانية أنه عدل في حال النكرة. وقيل: العلة الثانية أنه صفة.
ثم قال تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ أي: يزيد في خلق الملائكة وفي عدد أجنحتها وغير ذلك ما يشاء.
وقال الزهري: هو حُسْنُ الموت. فيكون ﴿وَرُبَاعَ﴾ وقفاً كافياً على القول الأول، وتماماً على القول الثاني.
وقال قتادة: هو مَلاحَةٌ في العينين.
وروي عن ابن شهاب أنه قال: " سأل رسول الله جبريل ﷺ أن يتراءَى لَهُ في صُورَته، فقال له جبريل: لا تُطيقُ ذلك، إِنِّي أحبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَخَرَجَ رسول الله إلى المصلّى فأتاهُ جبريل على صورته فَغَشِيَ على رسول الله ﷺ حين رآه. ثم أفاق وجبريل ﷺ مُسْنِدُهُ واضِعٌ إِحْدَى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول

الله: سبحان الله ما كنت أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا. فقال جبريل ﷺ: فكيف لو رأيْتَ إِسْرَافِيل ﷺ، إنَّ لهُ لاثني عشر جناحاً منها جناح في المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش لعلى كاهليه وأنه ليتضاءل الأحيان من عظمة حتى يعود مثل الوَصَعِ - وَالوَصَعُ عُصْفُورٌ صَغيرٌ - حتى ما يحمِلُ عرْشَهُ إلاّ عظمَته " ذكر هذا الحديث علي بن سعيد.
وقال ابن عباس في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ [النبأ: ٣٨]: إنّ الرّوح ملك يقوم وحده صفاً مثل جميع ملائكة السماوات، له ألف وجه، في كل وجه ألف لسان، كل لسان يسبّح الله بثنتين وسبعين لغة، ليس منها لغة تشبه الأخرى، لو أن الله تعالى أَسْمَعَ صوته أهل الأرض لخرجت أرواحهم من أجسامهم من شدّة صوته، ولو سُلِّطَ على السماوات السبع والأرضين السبع لأدخلهنّ في فيه من أحد شدقيه، يذكر الله في كل يوم مرتين فإذا ذكر الله خرج من فيه من النور قطع كأمثال الجبال العظام، لولا أن الملائكة الذين من حول العرش يذكرون الله لا حترقوا من ذلك النور الذي يخرج من فيه، موضع قدميه مسيرة سبعة آلاف سنة، له ألف جناح، فإذا كان يوم القيامة قام هو

وحده صفاً وقامت الملائكة صفاً واحداً فيكون مثل صفوفهم.
وقد روى مالك أن النبي ﷺ قال: " إنَّ اللهَ أَذِنَ لي أنْ أتحدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ الملائِكَةِ: إنّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ ليَخْفِقُ الطَّيْرُ سبعِينَ عاماً ".
ثم قال: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: يقدر على ما يشاء من الزيادة في الخلق والنقص منه وعلى غير ذلك من الأشياء كلها.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ أي: ما يعطي الله للناس من خي فلا ممسك له، وما يحبس من ذلك فلا مرسل له من بعده، له الأمر ومفاتيح الخير بيده يفعل ما يشاء. وقيل: هو في المطر يرسله متى يشاء.
وقيل: هو في الدعاء.
ثم قال: ﴿العزيز﴾ أي: في نقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبسه رحمته عنه.
﴿الحكيم﴾ في تدبيره خلقه. وقيل: الرحمة هنا الغيث.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ هذا خطاب للمشركين، أي: اذكروا تفضُّلَ الله عليكم وتدبّروا أنه لا يرزقكم من السماء والأرض أحد غيره فيجب لكم ألاّ تعبدوا غيره. ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود غيره، يرزقكم المطر من السماء والنبات من الأرض. ومن رفع " غير " جعله نَعْتاً لخالقٍ " على الموضع.

وقد ذكر اليزيدي أنه على التقديم والتأخير، وأن المعنى: هل غَيْرُ الله من خالق. ويجوز أن يرفع " غير " بفعله فيكون تقدير الكلام: هل من خالق إلاّ الله. فلما جعلت " غير " موضع إلاّ، رفعت كإعراب الاسم الذي بعد إلاّ.
ومن خفض جعله نَعْتاً ل " خالقٍ " على اللفظ. ويجوز النصب على الاستثناء.
ثم قال: ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: فمن أي وجه تصرفون عن خالقكم ورازقكم، أي: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث.
قال حميد الطّويل: قلت للحَسَنِ: من خلق الشّر؟ فقال: سبحان الله/ هل من خالق غير الله. قال: خلق الخير والشّر.

ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ هذا تسلية للنبي ﷺ، أي: إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرةِ الأمم من قبلهم في تكذيبهم الرُّسُلَ.
قال قتادة: يُعزِّي نبيّه ﷺ كما تسعمون.
ثم قال: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي: يرجع أمرك وأمرهم فيجازيهم على فعلهم.
ثم قال: ﴿يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: إن وعدَ الله لكم بالعذاب على كفركم حق فلا يعرّنكُمْ ما أنتم فيه من العيش والمال في الدنيا، أي: لا يخدعنكم ذلك.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾ أي: لا يخدعنّكم بالله الشيطان فيُعَنِّيكم بأن لا حساب ولا عقاب ولا بعث، فيحملكم ذلك على الإصرار على الكفرة، قاله ابن عباس وقتادة.
وقال ابن جبير: الغرور الحياة الدنيا ونعيمها، يشتغل الإنسان بها عن عمل الآخرة حتى يقول: ﴿يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]. وقُرِئَ " الغُرورُ " بالضمّ على أنه جمغ غارّ، كما يقال جالس وجُلوس فيكون معناه كمعنى الأول.

وقيل: هو جمغ غرّ وغَرّ مصدر.
وقيل: هو مصدر، وفيه بُعْدٌ لأن الفعل مُتعدٍّ ولم يأتِ في مصدر المتعدّي فعومل إلاّ في أشياء مسموعة مثل لزمته لزوماً ونهكه المرض نهوكاً.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ أي: إن الشيطان الذي نهيتكم ألاّ يخدعكم ويغرّكم لكم عدو.
﴿فاتخذوه عَدُوّاً﴾ أي: أنزلوه منزلة العدو لكم واحذروه ولا تطيعوه، فإنما يدعو من أطاعه وهم حزبه.
﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ أي: من المخلّدين في نار جهنّم.
ويقال: السعير: الطبقة السادسة من جهنم لأنها سبع طباق، وطبقة تحت طبقة، لكل طبقة باب، كما قال: لها سبعة أبواب. فكل باب تحت الباب الذي فوقه أعاذنا الله منها.
وعدو هنا بمعنى معاد، فيجوز تثنيته وجمعه وتأنيثه، فإن جعلته بمعنى النسب لم تجمع ولم تثن ولم يؤنث.
وعلى هذا قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ [الشعراء: ٧٧].
ثم قال تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ يعني عذاب النار.

ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية، أي: آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا بطاعته. ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ أي: ست على ذنوبهم. ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾: الجنة، قاله قتادة وغيره.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ [فَرَآهُ حَسَناً﴾ مَنْ: رُفِعَ بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أفمن زين له سوء عمله] فرآه حسناً ذهبت نفسك عليهم حسرات.
والمعنى: أن الله نهى نبيه ﷺ أن يغتمّ بمن كفر به وألاّ يحزن عليهم، وهذا مثل قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] أي: قاتلها.
وقال الأصمعي في قول النبي ﷺ: " أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُ قُلُوباً وَأَبْخَعُ طَاعَةً " إنّ معنى " أبخع ": أنصح، قال: وباخع نفسك من هذا، كأ، هـ من شدّة نصحه لهم قاتل نفسه.

قيل: التقدير في خبر الابتداء: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً كمن هداه الله، ودلّ على هذا المحذوف قوله بعد ذلك: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
ويدل على المحذوف في القول الأول: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾. فلا يحسن الوقف على هذين القولين على " حسناً "، وتقف على القول الثاني على ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
ولا تقف على القول الأول إلاّ على ﴿حَسَرَاتٍ﴾. والمعنى زين له الشيطان سوء عمله فأراه إياه حسناً.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ أي: ذو علم بعملهم ومحصيه عليهم ومجازيهم به.
ثم قال تعالى: ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ أي: الله الذي أرسل الرياح فتجمع سحاباً وتجيء به وتخرجه، قاله أبو عبيدة.
ثم قال تعالى: ﴿فَسُقْنَاهُ﴾ أي نسوقه.
﴿إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أي: مجدب لا نبات فيه. ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: فنحيي به الأرض بعد جدوبها وننبت فيها الزرع بعد المَحْلِ.
﴿كَذَلِكَ النشور﴾ أي: كذلك ينشر الله الموتى بعد ابتلائهم في قبورهم فيحييهم.
روى أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن