آيات من القرآن الكريم

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

٩- إذ أثبت العقل ودلّت آيات القرآن والكون وحدانية الله، فكيف يصحّ للبشر الانصراف عن هذا الظاهر، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟! ١٠- إثبات التوحيد يستتبع إثبات الرسالة وصدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الظاهرة، وأعلاها وأخلدها القرآن العظيم.
وإذا كذب بعض الناس قديما وحديثا رسول الله، فقد كذب الكفار عبر التاريخ أنبياءهم، وتلك ظاهرة عامة، وما على الرسول وأتباعه إلا التّأسّي بمن سبق في الصبر، والنهاية الحتمية المصيرية إلى الله، فيجازي الجميع بما يستحقون.
تقرير الحشر والتحذير من الشيطان وجزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٥ الى ٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
الإعراب:
الَّذِينَ كَفَرُوا.. الَّذِينَ: إما بدل مجرور من أَصْحابِ وإما بدل منصوب من حِزْبَهُ وإما بدل مرفوع من ضمير لِيَكُونُوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، خبره: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
حَسَراتٍ إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر. وقرئ بالإمالة مع فتحة الراء وإمالتها، فمن قرأ بفتح الراء أتى بها على الأصل، ومن أمال فلأن الألف بدل عن الياء، ثم أتبع الراء إمالة الهمزة، والإتباع للمجانسة كثير في كلام العرب.

صفحة رقم 227

البلاغة:
يُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بينهما مقابلة وهي كالطباق إلا أنها تكون في أكثر من شيئين.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه، أي كمن لم يزين له سوء عمله؟ ودلّ على المحذوف بقية الآية: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. وفَمَنْ مبتدأ، وخبره:
كمن هداه الله.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ثم قال: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إطناب بتكرار الفعل.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان.
السَّعِيرِ كَبِيرٌ سجع مؤثر على السمع.
المفردات اللغوية:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء أو الحشر والعقاب لا خلف فيه.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تلهينكم ويذهلنكم التمتع بها عن الإيمان بالحشر وعن طلب الآخرة والسعي لها. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان، بأن يمنيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بطاعة الله، ولا تطيعوه في المعاصي، واحذروه في كل الأحوال. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يدعو أصحابه وأتباعه المتحزبين له، والمطيعين له، إلى المعاصي والكفر، لأجل أن يكونوا من أهل النار الشديدة، لعداوته لآدم وذريته. وهذا تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة أشياعه إلى اتّباع الهوى والركون إلى الدنيا.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاء الشيطان، ووعد لمن خالفه بالإيمان والعمل الصالح بمغفرة الذنوب والأجر الكبير وهو الجنة.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي من غلب وهمه على عقله، فرأى عمله السيء صوابا، والباطل حقا، والقبيح حسنا، كمن لم يزين له؟ حذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ

صفحة رقم 228

مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي عليه وهو المزين له، والمعنى: فلا تهلك نفسك باغتمامك على غيّهم وكفرهم وإصرارهم على التكذيب. والحسرة: همّ النفس على فوات أمر، أي التلهف عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه لأنه لا تخفى عليه خافية من أفعالهم وأقوالهم.
سبب النزول: نزول الآية (٨) :
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ:
أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت.
المناسبة:
بعد بيان الأصل الأول وهو التوحيد، والأصل الثاني وهو الرسالة، ذكر الله تعالى الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، والحساب والعقاب، وقرر أنه حق لا شك فيه، وحذر من وسواس الشيطان في تشكيك الناس بالإيمان به، ثم صنّف الناس إزاءه صنفين: حزب الشيطان الذين لهم العذاب الشديد، وحزب الرحمن الذين لهم المغفرة والأجر الكبير وهو الجنة. ثم أبان قضية جوهرية وهي أن الضلال والهدى بيد الله حسبما يعلم من استعداد النفوس للأول أو الثاني.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يا أيها البشر جميعا إن وعد الله بالبعث والجزاء حقّ ثابت مؤكد

صفحة رقم 229

لا شك فيه، والمعاد كائن لا محالة، فلا تتلهوا بزخارف الدنيا ونعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان بالله، فيجعلكم تعيشون في الأوهام والآمال المعسولة، قائلا لكم: إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم، لسعة رحمته، فتنزلقوا في المعاصي، وتسرفوا في المخالفات، فإنه غرّار كذّاب أفّاك.
وهذه الآية كآية آخر سورة لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
ثم بيّن الله تعالى علّة عدم الاغترار بالشيطان وهي عداوة إبليس لابن آدم، فقال:
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي إن عداوة الشيطان لكم عداوة قديمة عامة ظاهرة، فعادوه أنتم أشدّ العداوة، وخالفوه وكذّبوه فيما يغركم به، بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى.
ثم ذكر الله تعالى أغراض الشيطان ومقاصده الخبيثة فقال:
إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب النار الشديد الدائم.
جاء في حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «١» بابن آدم وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ».
ثم ذكر تعالى جزاء حزب الشيطان وحزب الرحمن فقال:
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي إن الذين كفروا بالله ورسوله وأنكروا البعث، واتبعوا وساوس الشيطان، لهم عذاب شديد في نار جهنم لأنهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمن.

(١) اللمة: الخطرة التي تقع في القلب.

صفحة رقم 230

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من اتّباع الأوامر واجتناب النواهي ومخالفة الشيطان وهوى النفس، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة، بسبب الإيمان والعمل الصالح وعمل الخير.
ثم بيّن تعالى الفرق بين الصنفين، فليس من عمل سيّئا كالذي عمل صالحا، فقال:
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي كيف يتساوى المسيء والمحسن، وهل يكون أولئك الكفار الفجار الذين بتزيين الشيطان وتحسين القبيح يعملون أعمالا سيّئة من كفر ووثنية وعصيان، معتقدين أنهم يحسنون صنعا، كالذين كانوا على الهدى، ويعلمون أنهم على الحق؟! والمراد بمن زين له سوء عمله: كفار قريش وأمثالهم.
وسبب ذلك ما قال تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التامّ، وتبعا لعلمه باستعداد النفوس للخير والشّر.
ثم سلّى تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرار قومه على الكفر، فقال:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ أي لا تغتم ولا تأسف ولا تهلك نفسك على عدم إيمانهم، وإصرارهم على الكفر، واستمرارهم على الضلال، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم، وعليم بما يصنعون من المنكرات والقبائح لا تخفى عليه خافية، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد كاف.
وزجر بليغ إن أدركوا أبعاده ومراميه.

صفحة رقم 231

ونظير الآية كثير، منها قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- بعد إيضاح الدّليل على إثبات البعث والحشر ذكر الله تعالى مبدأ عاما في الاعتقاد: وهو أن البعث والثواب والعقاب حق لا مرية فيه، ولا بدّ من حصوله.
٢- وفي ضوء هذا المنظور الأخروي في عقيدة الإسلام الراسخة، على الإنسان ألا تلهيه الدنيا وزخارفها عن العمل للآخرة، وألا يغترّ بوساوس الشيطان، فإنه أفّاك كذّاب، قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذّاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر ٨٩/ ٢٤].
٣- إن عداوة الشيطان للإنسان عامة قديمة، فيجب الحذر منه، ومعاداته وعدم إطاعته، ودليل عداوته: إخراجه أبانا آدم من الجنة، وإصراره على إضلال الإنسان وضمانه ذلك في قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء ٤/ ١١٩]، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ [الأعراف ٧/ ١٦- ١٧].
٤- إن هدف الشيطان الدّال على عداوته للإنسان أيضا دعوة حزبه أي أشياعه وأتباعه ليكونوا معه في نار جهنم الشديدة الاستعار.
٥- هناك فرق واضح بين المسيء والمحسن، فلا يسوّى بين من زيّن له

صفحة رقم 232
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية