
من التذكر إذا أراد التذكر، وجاءتهم الرسل تنذرهم من عقاب الله إن أصروا على الكفر، فكان أمامهم فرصتان: مدة العمر، وإرسال الرسل.
٤- إن دار الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يقبل فيها تصحيح الإيمان، ولا تنفع فيها التوبة، فذلك كله محله دار الدنيا، لذا يقال للكفار: ذوقوا عذاب جهنم لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم، فما للظالمين من ناصر ولا مانع من عذاب الله تعالى.
٥- الله تعالى عالم بكل أمر خفي أو ظاهر في الدنيا والآخرة، ومطلع على أعمال العباد، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا لم يعملوا صالحا، كما قال:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام ٦/ ٢٨] وهذا تقرير لدوامهم في العذاب.
وسبب سعة علمه بالغيب: أنه عالم في الماضي والمستقبل بمضمرات الصدور، وأنه جعل الناس خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، للانتفاع بكنوز الأرض، وشكر الله بالتوحيد والطاعة.
٦- من كفر فعليه جزاء كفره وهو العقاب والعذاب.
٧- إذا استمر الكفار على كفرهم لم يستفيدوا إلا أمرين: المقت، أي البغض والغضب من الله تعالى، والخسارة، أي الهلاك والضلال. فهل من معتبر منهم في الدنيا قبل فوات الأوان؟
مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)

الإعراب:
أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ.
إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ جملة سادّة مسد الجوابين: جواب القسم وجواب الشرط.
البلاغة:
أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ استفهام إنكاري للتوبيخ.
حَلِيماً غَفُوراً من صيغ المبالغة.
غُرُوراً غَفُوراً توافق فواصل.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون من غير الله، وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعالى أَرُونِي أخبروني شِرْكٌ شركة مع الله فِي السَّماواتِ أي في خلقها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذنا شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، أي لهم معي شركة بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي ما يعد الكافرون. ولمّا تقرر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع غُرُوراً باطلا.
يُمْسِكُ يحفظ أَنْ تَزُولا كراهة أن تضطرب وتنتقل من أماكنها، من الزوال، والمعنى: يمنعهما من الزوال وَلَئِنْ اللام لام القسم إِنْ أَمْسَكَهُما ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله، أي سواه، أو من بعد الزوال، ومن الأولى: زائدة، والثانية: للابتداء والمعنى الأصح: لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما لو فرض زوالهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في تأخير عقاب الكفار، وفي إمساكه السموات والأرض.

المناسبة:
بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين وتهديد كل من كفر بالله، ذكر تعالى ما يدعو للتوحيد ويبطل الإشراك، مناقشا المشركين في أبسط مقومات عبادة الإله: وهو الخلق والإبداع، وأن هذه الآلهة المزعومة عاجزة عن ذلك.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ قل أيها النبي للمشركين: أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله وتتخذونهم آلهة من الأصنام والأوثان، هل خلقوا شيئا من الأرض، حتى يستحقوا الألوهية؟
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وهل لهم شركة مع الله في خلق السموات أو في ملكها أو في التصرف فيها، حتى يستحقوا بذلك الشركة في الألوهية؟
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ أي وهل أنزلنا عليهم كتابا يقرر ما يقولونه من الشرك والكفر، يكون لهم حجة فيما يدعون؟
بَلْ، إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي كلها غرور وباطل وزور، كما يعد الرؤساء والقادة أتباعهم بمواعيد يغرونهم بها، وهي أباطيل تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده.
وبعد بيان ضعف الأصنام وعجزها عن أي شيء، أبان تعالى ما يؤهله للعبادة، ويجعله أهلا للعظمة، فقال مبينا قدرته وبديع صنعه:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنع زوال

السموات والأرض واضطرابها، وانتقالها من أماكنها، وهذا يشير إلى نظام الجاذبية، وأن الأرض كرة تسبح في الفضاء، كغيرها من الشمس والقمر والكواكب الأخرى السيارة التي تجري في مدارات خاصة بها، كما قال عز وجل:
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [فاطر ٣٥/ ٤١] وقال سبحانه:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم ٣٠/ ٢٥].
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي لو قدّر إشرافهما على الزوال، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما، ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، يمهل عقاب المشركين، ويغفر لمن تاب منهم ما أجرم في الماضي، فهو يحلم فيؤخّر ويؤجّل، ولا يعجّل، ويستر آخرين ويغفر، ويظل ممسكا السموات والأرض، بالرغم من أنه يرى عباده، وهم يكفرون به ويعصونه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- يتحدى الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله، أعبدوهم لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض، أم خلقوا من الأرض شيئا؟! أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة؟! وقوله شُرَكاءَكُمُ: إنما أضاف الشركاء إليهم، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال: شُرَكاءَكُمُ أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال: شركاءكم في النار، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨] قال الرازي: وهو قريب، ويحتمل أن يقال: هو بعيد، لاتفاق المفسرين على الأول.