آيات من القرآن الكريم

۞ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۚ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ

أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، أي جهنم طرفة عين كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦). وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول، و «كل» بالرفع. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي يصيحون في جهنم بقولهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها نَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا في الإيمان غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ، وهو ستون سنة- كما قاله ابن عباس- أو أربعون سنة- كما قاله الحسن- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي رسول من الله تعالى أو عقل، أو شيب، أو حمى، أو موت الأقارب، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد: أي رسول كان، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى فَذُوقُوا ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(٣٨) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل، فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (٣٩)، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار، فإن العمر كرأس المال، فمن اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ. وجملة قوله: أَرُونِي بدل اشتمال من «أرأيتم»، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ.
وقرأ أبو عمرو وحمزة، وابن كثير، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (٤٠)، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه

صفحة رقم 281

تعالى، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم غَفُوراً (٤١) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأكرمهم خلقا ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢)، أي تباعدا عن الحق اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا». وَمَكْرَ السَّيِّئِ وهو معطوف على «نفورا»، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه سنة من سنن الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره، فبهذا يتم تهديد المسيء. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقعدوا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم، وشدة اقتدارهم، وعملهم كان دون عملهم، لأنهم لم يكذبوا محمدا، ولا مثل محمد، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى، وما دفع عنهم شدة القوى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً (٤٤) على إهلاكهم واستئصالهم وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من السيئات كما فعل بأولئك الأولين ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من ذوى روح تدب عليها وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.

صفحة رقم 282
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية