آيات من القرآن الكريم

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ

فَالْغِرْبِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَشَدَّ مِنْ مَعْنَى أَسْوَدَ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ غَرابِيبُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سُودٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، كَمَا يَقُولُونَ: أَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَحْمَرُ قَانٍ، وَلَا يَقُولُونَ: غِرْبِيبٌ أَسَوْدُ وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥]، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى أَن يكون غربيبا تَابِعًا لِأَسْوَدَ نَظَرًا وَالْآيَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ، وَدَعْوَى كَوْنِ غَرابِيبُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سُودٌ تَكَلُّفٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَرَضُ التَّوْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
[٢٨]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٨]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.
مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧]، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعْنًى آخَرَ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ هُنَا سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ.
وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ النَّاسِ مِنْهُ اخْتِلَافٌ عَامٌّ وَهُوَ أَلْوَانُ أَصْنَافِ الْبَشَرِ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ حَسَبَ الِاصْطِلَاحِ الْجُغْرَافِيِّ. وَلِلْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِأَلْوَانِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٢٢].
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخْتَلِفَ أَلْوَانُهُ بَعْضٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَجْمُوعُ الْمُخْتَلِفَاتِ كُلُّهُ هُوَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَهُوَ نَظْمٌ دَقِيقٌ دَعَا إِلَيْهِ الْإِيجَازُ.
وَجِيءَ فِي جُمْلَةِ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧] ومِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بِالِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيجَادِ اخْتِلَافًا دَائِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ تَوَلُّدِ النَّسْلِ.

صفحة رقم 303

كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَذلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَمْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدِ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الِاسْتِنْتَاجِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفَةِ أَلْوَانُهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، فَجُمْلَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ. وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ دَلَّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ فِي أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مُخْتَلِفُونَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨].
وَأُوثِرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الدَّلَالَةِ تَخَلُّصًا لِلتَّنْوِيهِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِيَنْتَقِلَ إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: ٢٩] الْآيَةَ...
فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، أَوْ كَذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١] : كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَهُوَ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيُسْتَأْنَفُ مَا بَعْدَهُ.
وَأَمَّا جَعْلُ كَذلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يُنَاسِبُ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِضَعْفِهِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا يَخْشَاهُ الْجُهَّالُ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَإِنَّ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ عَدَمِ الْعِلْمِ فَالْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْمُشْرِكُونَ جَاهِلُونَ نُفِيَتْ عَنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي مَرَاتِبِ الْخَشْيَةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَتَقْدِيمُ مَفْعُولِ يَخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْمَحْصُورَ فِيهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ هُمُ الْعُلَمَاءُ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَلَى سُنَّةِ تَأْخِيرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَبِالشَّرِيعَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ تَقْوَى الْخَشْيَةُ فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِعُلُومٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ مَعْرِفَةً عَلَى

صفحة رقم 304
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية