
يا داود، إن أنين المذنبين أحبّ إلى من صراخ العابدين! ويقال، كان داود يقول. اللهم لا تغفر للخاطئين، غيرة منه وصلابة في الدين...
فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفر لداود فيما بينهم.
ويقال لمّا تاب الله عليه، واجتمع الإنس والجنّ والطير بمجلسه، ورفع صوته، وأداره فى حنكه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك! فأوحى الله إليه هذه وحشة الزّلة، وتلك كانت أنس الطاعة.. فكان داود يبكى وينوح ويصيح والطير والجبال معه.
ويقال ليس كلّ من صاح وراءه معنى «١»، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير...
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً». ألان له الحديد، وجعل ذلك معجزة له، وجعل فيه توسعة رزقه، ليجد في ذلك مكسبا، ليقطع طمعه عن أمته في ارتفاقه بهم ليبارك لهم في اتّباعه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
أي آتينا سليمان الريح أي سخّر ناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر وبالرواح مسيرة شهر.
وفي القصة أنه لا حظ يوما ملكه، فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح: استو، فقالت الريح: استو أنت، فما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا بك، فلما ملت ملت.
«وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ»
(٢) هذا تنبيه لمن يتصدر منزلة الإمامة: ألا يرتفق، وألا يطلب عوضا، وألا يطمع في الذين يتبعونه.

أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطين مسخّرة له، يعملون ما يشاء من الأشياء التي ذكرها سبحانه.
قوله جل ذكره: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «١».
أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله: «شُكْراً» منصوب لأنه مفعول له.
ويقال شكرا منصوب لأنه مفعول به مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» «٢».
وقد مضى طرف من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السّمن فوق ما تعطى من العلف فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثاله وأضرابه. وإذا كان الناس يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء.
والشاكر يشكر على البذل، والشكور على المنع «٣»... فكيف بالبذل؟
والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه وماله، والشاكر ببعض هذه.
ويقال فى «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» قليل من يأخذ النعمة منى ولا يحملها على الأسباب فلا يشكر الوسائط ويشكرنى. والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويجدون الخير من قبله ثم يتقلدون المنّة من غير الله، ويشكرون غير الله.
قوله جل ذكره: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ».
(٢) آية ٤ سورة المؤمنين.
(٣) وردت العبارة في الرسالة هكذا: الشاكر يشكر عند البذل والشكور عند المطل (الرسالة ص ٨٩).