آيات من القرآن الكريم

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ

ولما أتم سبحانه ما أراد من آيات داود عليه السلام وختمها بالحديد، اتبعه ابنه سليمان عليه السلام لمشاركته له في الإنابة، وبدأ من آياته بما هو من أسباب تكوينه سبحانه للحديد فقال: ﴿ولسليمان﴾ أي عوضاً من الخيل التي عقرها لله ﴿الريح﴾ أي مسخرة على قراءة شعبة، والتقدير على قراءة الجماعة: سخرناها له حال كونها ﴿غدوها شهر﴾ أي تحمله وتذهب به وبجميع عسكره بالغداة وهي من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر كان يغدو من إيليا فيقبل بإصطخر ﴿ورواحها﴾ أي من الظهر إلى آخر النهار ﴿شهر﴾ أي مسيرته، فهذه آية سماوية دالة على أنه كما رفع بساط سليمان عليه السلام بما حصل من جنوده وآلاتهم ثم وضعه قادر على أن يضع ما يشاء من السماء فيهلك من تقع عليه، وهذا كما سخر الله الريح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة الأحزاب فكانت تهد خيامهم وتكفأ طعامهم وتضرب وجوههم بالحجارة والتراب وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله بها، وكما حملت شخصين من أصحابة رضي الله

صفحة رقم 462

تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما في جبلي طي، وتحمل من أراد الله من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى.
ولما ذكر الريح، أتبعها ما هي من أسباب تكوينه فقال: ﴿وأسلنا له﴾ أي بعظمتنا ﴿عين القطر﴾ أي النحاس أذبناه له حتى صار كأنه عين ماء، وذلك دال على أنه تعالى يفعل في الأرض ما يشاء، فلو أراد لأسالها كلها فهلك من عليها، ولو أراد لجعل بدل الإسالة الخسف والإزالة.
ولما ذكر الريح والنحاس الذي لا يذاب عادة إلا بالنار، ذكر ما أغلب عناصرة النار، وهو في الخفة والإقدار على الطيران كالريح فقال: ﴿ومن﴾ أي وسخرنا له من ﴿الجن﴾ أي الذين سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم ﴿من يعمل﴾ ولما كان قد أمكنه الله منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره قال: ﴿بين يديه﴾ ولما كان ظن ظان أن لهم استبداداً بأعمالهم نفاه بقوله: ﴿بإذن ربه﴾ أي بتمكين المحسن إليه له ولهم بما يريد فعله.

صفحة رقم 463

ولما قرر سبحانه أن ذلك بإرادته فهو في الحقيقة بأمره، زاد ذلك تقريراً بقوله عاطفاً على ما تقديره: فمن عمل بأمرنا أثبناه جنات النعيم: ﴿ومن يزغ﴾ أي يمل، من زاغ يزيغ ويزوغ ﴿منهم﴾ مجاوزاً وعادلاً ﴿عن أمرنا﴾ أي عن الذي أمرناه به من طاعة سليمان أي أمره الذي هو من أمرنا ﴿نذقه﴾ أي بما لنا من العظمة التي أمكنا سليمان عليه السلام بها مما أمكناه فيه من ذلك ﴿من عذاب السعير *﴾ أي في الدنيا مجازاً وفي الآخؤة حقيقة، وهذا كما أمكن الله نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك العفريت فخنقه وهو بربطه حتى يتلعب به صبيان المدينة، ثم تركه تأدباً مع أخيه سليمان عليهما الصلاة والسلام فيما سأل الله تعالى فيه، وأما الأعمال التي تدور عليها إقامة الدين فأغناه الله فيها عن الجن بالملائكة الكرام، وسلط جمعاً من صحابته رضي الله عنهم على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان ومنهم أبي بن كعب رضي الله عنه قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال: لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه لما جعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقة المسلمين فأتاه شيطان منهم يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل فضبطه به فالتفّت يداه

صفحة رقم 464

عليه وقال له: يا عدو الله، فشكا إليه الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين وأنهم كانت لهم المدينة، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجهم منها وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ومنهم بريدة رضي الله عنه، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين صارع الشيطان فصرعه عمر، ومنهم عمار بن ياسر رضي الله عنه قاتل الشيطان فصرعه عمار، وأدمى أنف الشيطان بحجر، ولذلك وغيره كان يقول أبو هريرة: عمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرها كلها البهيقي في الدلائل، وذكرت تخريج أكثرها في كتابي مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وأما عين القطر فهي ما تضمنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبياً عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً» الحديث، فشمل ذلك من روضة اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك، وروى الترمذي وقال: حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يارب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال ثلاثاً أو نحو

صفحة رقم 465

ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» وللطبراني بإسناد حسن والبيهقي في الزهد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن إسرافيل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمفاتيح خزائن الأرض وقال: إن الله أمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة، فإن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام أن تواضع، فقال نبياً عبداً»
رواه ابن حبان في صحيحه مختصراً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله في الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أوتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس» وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح» الأرض هذا ما يتعلق بالأرض، وقد زيد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء

صفحة رقم 466

تارة بشق القمر، وتارة برجم النجوم، وتارة باختراق السماوات، وتارة بحبس المطر وتارة بإرساله - إلى غير ذلك مما أكرمه الله به.
ولما أخبر تعالى أنه سخر له الجن، ذكر حالهم في أعمالهم، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما بما يشاء فقال تعالى: ﴿يعملون له﴾ أي في أي وقت شاء ﴿ما يشاء﴾ أي عمله ﴿عن محاريب﴾ أي أبنية شريفة من قصور ومساكن وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت، وكان مما عملوه له بين المقدس جدرانه بالحجارة العجيبة البديعة والرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمدة بأساطين المها الأبيض الصافي مرصعاً سقوفه وجدرانه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر وسائر الطيب، وبسط أرضه بألواح الفيروزج حتى كان أبهى بيت على وجه الأرض ﴿وتماثيل﴾ أي صوراً حساناً على تلك الأبنية فيها أسرار غريبة كما ذكروا أنهم صنعوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين في أعلاه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعين، وإذا قعد أظله النسران، ولم تكن التصاوير ممنوعة.

صفحة رقم 467

ولما ذكر القصور وزينتها، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن فقال: ﴿وجفان﴾ أي صحاف وقصاع يؤكل فيها ﴿كالجواب﴾ جمع جابية، وهي الحوض الكبير الذي يجبى إليه الماء، أي يجمع قيل: كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل.
ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم، ذكر ما يطبخ فيه طعامها فقال: ﴿وقدور راسيات﴾ أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال. ولما ذكر المساكن وما تبعها، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن تبعه لا يلهيهم ذلك عن العبادة فقال: ﴿اعملوا﴾ أي وقلنا لهم: تمتعوا واعملوا، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال: ﴿آل داود﴾ أي كل ما يقرب إلى الله ﴿شكراً﴾ أي لأجل الشكر له سبحانه، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين، أو على تقدير: اشكروا شكراً، لأن «اعملوا» فيه معنى «اشكروا» من حيث أن العمل للمنعم شكر له، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم معناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً - على طريق المشاكلة ﴿وقليل﴾

صفحة رقم 468

أي قلنا ذلك والحال أنه قليل.
ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها مبالغة في الشكر أليق، اسقط مظهرها فقال: ﴿من عبادي الشكور *﴾ أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه يطلق الشكر كثير، وأقل ذلك حال الاضطرار.

صفحة رقم 469
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي
الناشر
دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء
22
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية