عمرها زهاء خمسين عاما، فآمنت قبيلتها بالإسلام، وكانت سببا في إسلام خالد بن الوليد البطل الشهير.
هذه هي الأسباب الخاصة بالزواج من أمهات المؤمنين، أما الأسباب العامة فتتلخص في أن المصاهرة من أقوى عوامل التالف والتناصر، ونشر دعوة الإسلام في مبدأ أمرها بحاجة إلى الأعوان، وكان المؤمنون يرون أن أعظم شرف مصاهرتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقربهم منه، كما أن تشريعات الإسلام الخاصة بالنساء تحتاج معرفتها إلى نسوة يبلغن الأحكام إلى المسلمات، فكانت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يقمن بهذه المهمة.
وأما أسباب تعدد الزوجات لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي كثيرة، منها: إصابة المرأة بالعقم أو بالمرض الفتاك، المعدي أو المزمن، ومنها: قلة الرجال أحيانا كما يحدث عقب الحروب، ومنها: الترغيب في كثرة النسل لتقوية الإسلام، ومنها تفاقم الرغبة الجنسية أحيانا عند بعض الرجال.
آداب دخول البيت النبوي وحجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
الإعراب:
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غَيْرَ منصوب على الحال من واو تَدْخُلُوا.
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ وصلتها: في موضع رفع اسم كانَ وكذلك قوله تعالى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا لأنه عطف عليه.
البلاغة:
لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الإضافة للتشريف.
فَادْخُلُوا فَانْتَشِرُوا بينهما طباق، وكذا بين تُبْدُوا تُخْفُوهُ.
فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بينهما طباق السلب.
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عليم وشهيد على وزن فعيل للمبالغة.
المفردات اللغوية:
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إلا وقت أن يؤذن لكم في الدخول بالكلام أو الإشارة، أو إلا مأذونا لكم. إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن، لأنه متضمن معنى (يدعى) للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن بالدخول، لقوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين نضجه أو وقته وإدراكه. وأنىّ: هو مصدر: أنى يأني، أي أدرك وحان نضجه.
فَانْتَشِرُوا تفرقوا ولا تمكثوا. مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي مستمعين لحديث أهل البيت أو لبعضكم بعضا. إِنَّ ذلِكُمْ المكث أو اللبث. كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله فيما لا يعنيه. فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم. وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك بيان الحق وهو الأمر بخروجكم.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي سألتم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم. مَتاعاً شيئا محتاجا إليه ينتفع به.
فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية المريبة. وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم. أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه.
كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنبا عظيما.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ من التحدث بزواجهن بعده. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعلم ذلك، فيجازيكم عليه. قال البيضاوي: وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل، ومبالغة في الوعيد.
لا جُناحَ لا إثم. وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء. وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية.
سبب النزول: نزول الآية (٥٣) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا:
أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتى باب امرأة عرّس بها، فإذا عندها قوم، فانطلق، ثم رجع، وقد خرجوا، فدخل، فأرخى بيني وبينه سترا، فذكرته لأبي طلحة، فقال: لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء، فنزلت آية الحجاب.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في قعب، فمرّ عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت أصبعه أصبعي، فقال: أوّه لو أطاع فيكنّ، ما رأتكنّ عين، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية البخاري: أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأطال الجلوس، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب.
وفي رواية: «بقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا».
قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب.
قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا: قال البيضاوي: الآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيدخلون ويقعدون، منتظرين لإدراكه، مخصوصة بهم وبأمثالهم، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام، ولا اللبث بعد الطعام لمهمّ. أخرج عبد بن حميد عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه في الثقلاء، ومن ثم قيل: هي آية الثقلاء.
وقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ:
أخرج ابن زيد قال: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا يقول: لو قد توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجت فلانة من بعده، فنزلت: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن زيد أيضا عن ابن عباس قال: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده، قال سفيان: ذكروا أنها عائشة. وأخرج عن السدّي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فأنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله: إنها ابنة عمي، والله ما قلت منكرا، ولا قالت لي، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
قد عرفت ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي؟ لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا، توبة من كلمته.
والخلاصة: رويت روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات قال فيها أبو بكر بن العربي: إنها ضعيفة كلها ما عدا الذي ذكرنا- أي
رواية أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس- وما عدا الذي روي أن عمر قال: قلت:
يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.
وقد كان سبب نزول أدب الطعام والجلوس وليمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند زواجه بزينب، وسبب نزول الحجاب بسبب القعود في بيت زينب.
المناسبة:
بعد بيان حال النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أمته بأنه المبشر المنذر الداعي إلى الله تعالى، أبان الله تعالى حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكما أن دخولهم الدين كان بدعوته، كذلك لا يكون دخول بيته إلا بدعوته، إرشادا إلى الأدب معه واحترامه وتوفير راحته في بيته، ثم تعظيمه بين الناس بالأمر بعد هذه الآيات بالصلاة والسلام عليه.
ولا يقتصر الأدب معه على الدخول إلى بيته، بل يشمل الخروج منه بعد انتهاء الحاجة من استفتاء أو تناول طعام، فذلك حق وأدب، ثم ذكر الله أدبا آخر، وهو طلب شيء من الحوائج من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مع وجود حجاب أو ستر أو حائل. ومناسبة هذا لما قبله أنه لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى استعارة بعض الحوائج، بيّن أن ذلك غير ممنوع منه، وإنما يجب أن يكون السؤال والطلب من وراء حجاب.
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات آدابا عامة في الدخول إلى البيوت والخروج منها، والحجاب وعدم الاختلاط وتحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وزواج نسائه من بعده.
وهي مما وافق الوحي فيها وتنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة ٢/ ١٢٥]. وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل
عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تمالأن عليه: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك.
وآية الحجاب هذه- كما ذكر قتادة والواقدي- نزلت في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، وقد صدّرت الآية بأدب اجتماعي يدفع الحرج عن النبي، فقال تعالى:
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ربّا وبمحمد رسولا إياكم أن تدخلوا بيتا من بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل الأحوال إلا في حال كونكم مصحوبين بالإذن بأن دعيتم إلى وليمة طعام، غير منتظرين وقت نضجه واستوائه، فإذا تم النضج وتوافر الإعداد فادخلوا حينئذ.
وهذا قوله تعالى:
٢- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إذا دعاكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا تناولتم الطعام الذي دعيتم إليه فتفرقوا ولا تمكثوا فيه من أجل تبادل أطراف الحديث والتحدث في شؤون الدنيا.
وهذا دليل على حظر المؤمنين من دخول منازل النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن، وعدم ارتقاب نضج الطعام، وعلى حرمة التطفل، وعلى عدم البقاء في البيوت بعد الأكل، للاشتغال بلهو الحديث مع بعضكم أو مع أهل البيت، فذلك أمر غير مرغوب فيه، ونوع من الثقل غير محمود لأن أهل البيت بحاجة إلى التفرغ لتنظيف الأواني والراحة من عناء إعداد الطعام، لذا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما
رواه أحمد والشيخان والترمذي عن عقبة بن عامر: «إياكم والدخول على النساء».
وعلل تعالى طلب مغادرة البيوت بعد الطعام بقوله:
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي إن بقاءكم واشتغالكم بالحديث والدخول قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي- وإيذاؤه حرام- ويشق عليه، لمنعه من قضاء بعض حاجته، ولما فيه من المضايقة لأهل البيت، ولكن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، والله لا يترك بيان الحق وهو الأمر بالخروج ومنعهم من البقاء والمكث. وهذا أدب عام لا يقتصر على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل سائر المؤمنين. ويحرم اللبث إذا كان فيه إيذاء لصاحب البيت.
وقد نصت آيات سورة النور [٢٧- ٣١] على بيوت المؤمنين وآية الأحزاب [٥٩] في حجاب نسائهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ.
٣- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير إذن ودون انتظار إدراك الطعام، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا طلبتم منهن شيئا ينتفع به، من ماعون وغيره، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر، وحائل مانع من النظر.
وسبب النهي عن ذلك، والأمر بالحجاب كما قال تعالى:
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي إن هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الدخول بالإذن، والخروج عقب الطعام دون الاستئناس بالحديث، والحجاب أطهر وأطيب للنفس، وأبعد عن الريبة والتهمة والفتنة، وأكثر طمأنينة للقلوب من الهواجس والوساوس الشيطانية.
ولما علّم الله المؤمنين أدب الدخول إلى البيوت وصون الأذن والعين من النظر المحرّم، أكده بما يحملهم على محافظته، فقال:
٤- وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي ما صح وما ينبغي لكم أن تكونوا سببا في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تفعلوا فعلا يضايقه ويكرهه، كالمكث في منزله والاشتغال بالحديث، فكل ما منعتم عنه مؤذ، فامتنعوا عنه، فإنه صلّى الله عليه وسلّم حريص على ما فيه إسعادكم وخيركم في الدنيا والآخرة، ومن أشد أنواع الأذى ومما هو حرام عليكم أن تتزوجوا أبدا بنسائه بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، تعظيما له، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولأنه ذنب عظيم كما قال تعالى:
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونكاح أزواجه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. وفي هذا تعظيم الأمر، وتشديد فيه وتوعد عليه، ثم أكد ذلك بالبعد عن الإيذاء في الباطن والظاهر فقال:
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه، فإن الله عليم علما تاما دقيقا به، يعلم ما تكنّه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، ولا تخفى عليه خافية: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر ٤٠/ ١٩] وهو مجاز كل إنسان بحسب ذلك العلم.
ثم استثنى الله تعالى من حكم حجاب أزواج النبي على الأجانب المحارم ونساء المؤمنين والأرقاء، فقال:
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ترك الحجاب أمام آبائهن
وأجدادهن، سواء من جهة النسب أم من جهة الرضاع، أو أبنائهن من النسب أو الرضاع، أو إخوانهن الأشقاء أو لأب أو لأم، أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو أمام النساء المؤمنات القريبات أو البعيدات، أو الأرقاء من الذكور والإناث، إبعادا للحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ثم ختمت الآية بما ينبه على زيادة الحذر والتقوى، فقال تعالى فيما معناه:
واخشين الله في السرّ والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبنه، فإنه يجازي على كل عمل من خير أو شر لأنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة كل شيء، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي.
ونساء المؤمنين كنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، بدليل آية النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ.. [٣١].
وأما السبب في عدم ذكر العم والخال في هاتين الآيتين فهو- كما ذكر عكرمة والشعبي- لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، أو لأن العم والخال بمنزلة الوالدين، وقد يسمى العم أبا، كما قال تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة ٢/ ١٣٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الأحكام التالية:
١- الأدب في أمر الطعام والجلوس، فلا يجوز دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا
بالإذن، والدخول حرام إلا لأجل الأكل ونحوه، وظاهر الآية حرمة مكث المدعو بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت.
ودخل في النهي سائر بيوت المؤمنين، فلا يجوز دخولها إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار الطعام.
٢- يجب التفرق والخروج من البيت والانتشار في أرض الله تعالى بعد تناول الطعام، وانتهاء المقصود من الأكل ونحوه، لقوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا والمراد من الأمر: إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل، بدليل أن الدخول من غير إذن حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح، وعاد التحريم إلى أصله.
٣- قوله تعالى: بُيُوتَ النَّبِيِّ دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه إضافة ملك. وأما الإضافة في قوله تعالى:
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب ٣٣/ ٣٤] فهي إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والإذن إنما يكون للمالك.
وأما سكنى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيوته في حياته وبعد موته من غير تملك، فهو حق لهن على الصحيح فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين
قال فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر وعثمان وغيرهما: «لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي، فهو صدقة»
ويدل لذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن، وعدم الإرث دليل على أنها لم تكن ملكا لهن، وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزيد إلى أصل المال، فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعهم نفعه.
٤- قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا خص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول «١».
٥- في قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا دليل آخر في غير إلزام الخروج بعد انتهاء الأكل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه قال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
٦- قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ دليل على أن المكث في المنزل بعد الطعام للاستئناس بالحديث أمر غير مرغوب فيه، وأدب يجب التزامه.
٧- وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره دليل على ألا حياء في معرفة أحكام الدين وبيان الشرع.
جاء في الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأت الماء».
٨- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً الصواب في المتاع كما قال القرطبي: أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
٩- فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، فلا يجوز كشف شيء من جسدها إلا لحاجة
كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيّن كون الجواب عندها. قال القاضي عياض: فرض الحجاب بما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة.
١٠- استدل بعض العلماء من الأخذ عن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها، وهو رأي المالكية والحنابلة في قبول شهادته، ولا تقبل شهادته في رأي الحنفية والشافعية.
١١- إن الحجاب وسيلة ناجعة في طهارة القلب من هواجس السوء وخواطر المعصية، سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والتحصن. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته.
١٢- قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ دليل على تعليل الأحكام، ثم إن بيان العلة وتأكيد إيرادها يقوي دلالة الأحكام الشرعية على المطلوب. وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدثهم نفوسهم بإيذائه إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها.
١٣- يحرم التزوج بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مفارقتهن بطلاق أو موت، تعظيما للنبي، ولكونهن أمهات المؤمنين، والمسلم لا يتزوج أمه.
واختلف العلماء في وجوب العدة عليهن بالموت، فقيل: عليهن العدة لأن العدة عبادة، وقيل: لا عدة عليهن لأنها مدة تربّص (انتظار) لا ينتظر بها إباحة الزواج، قال القرطبي: وهو الصحيح
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت بعد نفقة عيالي» وروي «أهلي»
وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة
والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه صلّى الله عليه وسلّم لهن بمنزلة المغيب في حق غيره لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا، بخلاف سائر الناس لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر: «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي، فإنه باق إلى يوم القيامة».
وأما النساء اللاتي فارقهن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الدخول، فالصحيح جواز نكاحهن لغيره، كالكلبية التي تزوجها عكرمة بن أبي جهل، وقيل: تزوجها الأشعث بن قيس الكندي، وقيل: إنه مهاجر بن أبي أمية.
١٤- إن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو نكاح أزواجه من الذنوب الكبائر، ولا ذنب أعظم منه.
١٥- الله تعالى عالم بكل ما بدا وما خفي، وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض انقضى، ولا مستقبل آت، فهو سبحانه يعلم ما يخفيه الإنسان من المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيه عليها. والتذييل بهذه الآية توبيخ ووعيد لمن يضمر السوء في مخاطبة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأزواج المؤمنين أيضا.
١٦- استثنى الله تعالى من فرضية الحجاب على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقارب المحارم من النسب أو الرضاع، وهم الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء المؤمنات، وهو رأي ابن عباس ومجاهد، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكافرات.
ويرى بعضهم أن المراد منهن النساء القريبات، وتكون إضافتهن إليهن