آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

قلنا: إن هذه الآية نزلة تطيباً لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، لما حدَّثَتْ سيدنا رسول الله في

صفحة رقم 12029

أمر الأحكام، وأنها تنزل وتتوجَّه في الغالب إلى الرجال، ويبدو أنها حدَّثَتْ رسول الله في أمر النساء، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات.. إلخ.
ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام، ثم الإيمان، فأيّهما يسبق الآخر؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ... ﴾ [الحجرات: ١٤].
فالإسلام أنْ تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر، أكان أداؤك لها عن إيمان أو عن غير إيمان؟ لأن الإسلام تلقِّي حكم، أما الإيمان فأنْ تؤمن بمَنْ حكم، وتُصدِّق مَنْ بلَّغك هذا الحكم، وعليه فالإيمان سابق للإسلام.
لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام، وهم غير مؤمنين بها، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدي أعمال الإسلام فتحلُو لك، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق.
لذلك، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ... ﴾ [الحجرات: ١٤] وقالوا الحمد لله؛ لأن (لَمَّا) لا تدخل إلا على ما يمكن أنْ يجيء، كأن تقول: لَمَّا يثمر بستاننا، وثد أثمرتْ البساتين، والمعنى: أنه سيثمر فيما بعد.
قالوا: لأن هناك كثيراً من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركتَ حلاوتها، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وطلب منه أنْ يبيت عنده، أو: أنْ يضيفه، فسأله إبراهيم

صفحة رقم 12030

عليه السلام عن دينه فقال: إنه مجوسي، فردَّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له: يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة، وأنا أَسَعُه طوال عمره وهو كافر بي؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته، فقال الرجل: ألم تنهرني منذ قليل، فماذا حدث؟ فقال: لقد عاتبني ربي فيك، فقال الرجل: نِعْم الربّ ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، أشهد ألاَّ إله إلا الله.
وقد اشتملتْ هذه الآية على عشر صفات، بدأت بالمسلمين والمسلمات، وانتهت بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عُميس في هذه الصفات العَشْر التي جمعتْ الرجال والنساء، واشتملت على كل أنواع التكليف، وهي برقية تدلُّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل، وهذه هي الأصول.
ومعنى ﴿والقانتين... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرُّع كما نفهم من قوله تعالى ﴿والمتصدقين والمتصدقات... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرُّف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثاً أو هبة من زوجها أو من غيره، فلا ولايةَ عليها من أحد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة، وهذه من مَيْزات المرأة في الإسلام، حيث كانت قبل الإسلام، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها، والصدقة تشمل الزكاة؛ لأن الله قال فيها: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا... ﴾ [التوبة: ٦٠].

صفحة رقم 12031

فالصدقة هي العنوان الأعم، ومعناها أنك صدَّقْتَ الحق سبحانه حين استأمنك على خير، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها، فكأنك تُحقِّق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة؟ قال تصدَّقْتُ به كله، فقال له: «وماذا أبقيتَ لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فلما سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: تصدَّقْتُ بنصفه، ولله عندي نصفه.
فكلٌّ منهما تصرَّف في ماله تصرُّفاً منطقياً يناسبه.
وإنْ كانت الزكاة يُراد بها نماء المال وطهارته، فالصدقة عطاء لا يُرَاد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة، فكأن المتصدِّق يريد أنْ يبرَّ، وأنْ يعترف لله المعطي بالفضل؛ لأن الله مكَّنه من مال لم يُمكِّن منه الضعيف، ولا غير القادر.
ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم ﴿والصائمين والصائمات... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] والصوم أخذ حُكْماً فريداً من بين أحكام التكاليف كلها، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف (كادر خاص) في الجزاء إلا الصوم، فليس له (كادر) محدد، لذلك قال عنه الحق سبحانه: «إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» يعني: قرار عالٍ فوق الجميع، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة؟

صفحة رقم 12032

قالوا: لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشراً أبداً، فمن الممكن مثلاً في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر، فيقول له: ليس في الكون إلا أنت، أنت النافع وأنت الضار، وهناك من قال عن نفسه: أنا الزعيم الأوحيد، كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله.
لكن، هل قال بشر لبشر: أنا أصوم شهراً، أو يوماً تقرُّباً إليك؟ لا.. لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم؛ لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك، أكلتَ أم لم تأكل؟
ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به «يعني: جزاؤه خارج المقرر كما قلنا.
ومن عظمة تكليف الصوم أيضاً أن الله تعالى أحلَّ لنا أشياء، وحرَّم علينا أشياء أخرى تحريماً أبدياً، فالذي تحمَّل التكليف أَلِفَ الحلال ولم يألف ما حُرِّم عليه، ورسختْ هذه العقيدة في نفسه، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبداً، فلم يأْتِ على باله مرة مثلاً أنْ يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له، فأراد الله تعالى أنْ يديم لذَّة التكليف على البشر، ففرضَ الصومَ الذي يُحرِّم عليك اليوم ما كان مُحلَّلاً لك بالأمس ومألوفاً حتى صار عادة.
إذن: هناك فَرْق بين دوام العادة ولذة العبادة، وتأمل مثلاً يوم الفطر، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم، وأنت حر تفطر أو لا تفطر، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى

صفحة رقم 12033

العبادة، وجعله تكليفاً أنْ تفطر قبل الخروج للصلاة.
ثم يقول تعالى: ﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] جاءتْ مسألة حِفْظ الفروج بعد ذكر الصيام؛ لأن الصيام امتناعٌ عن شهوتَيْ البطن والفرج، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل.
قُلْنا: إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها الممثِّلة لجنس النساء، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكَّر، ومرة للمؤنث، لكنه راعي في ذلك سَتْر المرأة، وهنا أيضاً يُراعي هذه المسألة، فيقول: ﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] حينما تكلم عن المذكَّر قال ﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] ولم يقُلْ: والحافظات فروجهن؛ لأن أمر النساء ينبغي أنْ يُسْتر وأنْ يُصَان.
ثم يقول سبحانه ﴿والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات... ﴾ [الأحزاب: ٣٥] ويعود إلى مسألة السَّتْر مرة أخرى في قوله: ﴿أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: ٣٥] فقال (لهم) على سبيل التغليب، وسَتْر المرأة في الرجل، وهذه مسألة مقصودة يُراد بها شرف للمرأة، وصيانة لها، لا إهمالها كما يدَّعي البعض، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة: معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة، ونقصد بذلك سَتْرها وصيانتها لا إهمالها، أو التقليل من شأنها.

صفحة رقم 12034

فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابةً عن المرأة المسلمة، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر، أراد أنْ يبني حول المرأة سياجاً من الستر في كل شيء حتى في التكاليف.
ونلحظ على سياق الآية هنا أيضاً أنه قدَّم المغفرة على الأجر؛ لأن القاعدة كما قُلْنا: إن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، والحق سبحانه يُعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نَفْعها على المكلَّف نفسه، ’فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة.
أما الحق سبحانه فغنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، واقرأ الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً».
إذن: نحن المستفيدون من التكاليف، ففيها صلاحُنَا في الدنيا، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة.
لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم: ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... ﴾ [الشعراء: ١٠٩] كأنه يقول: الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أنْ آخذَ عليه أجراً؛ لأنني أؤدي لكم خدمة، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجري عالٍ لا يقدر عليه المكلَّف ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله... ﴾ [يونس: ٧٢] فهو

صفحة رقم 12035

وحده القادر على أنْ يجازيني بما أستحق.
ووَصْف الأجر بأنه عظيم يدلُّ على كِبَر في الحجم، ونَفَاسة في الصفات، وامتداد في الزمن، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء، وأيُّ أجر عظيم من أجر الله لعباده في الآخرة؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى... ﴾.

صفحة رقم 12036
تفسير الشعراوي
عرض الكتاب
المؤلف
محمد متولي الشعراوي
الناشر
مطابع أخبار اليوم
سنة النشر
1991
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية