
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٢ الى ٣٤]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
قوله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يسلّم) بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله:
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «١» وأشباه ذلك.
وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ...
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يعني مرجعها. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ نعمّرهم ونمهلهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم، ونردّهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية.
قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «٢» الآية، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال (عليه السلام) : كلّا قد عنيت. قالوا: ألست تتلوا فيما جاءك: إنّا قد أوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. قالوا:
يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «٣» فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
أي بريت
(٢) سورة الإسراء: ٨٥.
(٣) سورة البقرة: ٢٦٩.

أقلاما وَالْبَحْرُ بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبد الله وبحر يَمُدُّهُ أي يزيده وينصب عليه مِنْ بَعْدِهِ من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ وفي هذه الآية اختصار تقديرها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم.
قوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ يعني إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «١» أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. ذلِكَ الذي ذكرت لتعلموا: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ برحمة الله، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على أمر الله شَكُورٍ على نعمه. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب (والظّلل) جمع ظلّه شبّه الموج بها في كثرتها وارتفاعها- كقول النّابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال | على حافاته فلق الدنان. |
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر.
الكلبي: مُقْتَصِدٌ في القول من الكفّار لأنّ بعضهم أشدّ قولا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن
(٢) تفسير الطبري: ٢١/ ١٠٢ مورد الآية.

زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار كَفُورٍ جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنّك لو رأيت أبا عمير | ملأت يديك من غدر وختر «١» |
بضم الغين ومعناه لا تغتروا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «مفاتيح الغيب خمسة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية» [١٨٥] «٢».
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنّ رجلا قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أوتيت علما كثيرا أو علما حسنا [أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم] «٣» ثمّ تلا رسول الله هذه الآية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله: خَبِيرٌ فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلّا الله تبارك وتعالى «٤».
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ يهوديا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إن شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟
قال: لا يحول عليّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس:
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٢٤ و ٢/ ١٢٢، وصحيح البخاري: ٥/ ١٩٣ وكذلك ٦/ ٢١.
(٣) زيادة عن تفسير الطبري. [.....]
(٤) تفسير الطبري: ٢١/ ١٠٥، ح ٢١٤٦٨.

صدق الله وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغ عشرا حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرج ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أبيّ بن كعب، إلّا أنّ من ذكّر قال: لأنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذكّر، وأحتج بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا الأرض ابقل ابقالها «١» |