آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ

وسلم تسلم. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن «ذلِكَ» الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ» في صفاته «الْكَبِيرُ ٣٠» السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين ٧/ ٦٣ من سورة الحج في ج ٣
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ» عليكم أيها الناس «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» العجيبة الدالة على كمال قدرته «إِنَّ فِي ذلِكَ» السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها «لَآياتٍ» بديعات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على أوامره وتحمل ابتلائه «شَكُورٍ ٣١» لنعمائه في سرانه وضرائه، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وإنما ذكر الله تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة الله وعظيم نعمته على خلقه. قال تعالى «وَإِذا غَشِيَهُمْ» الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر «مَوْجٌ كَالظُّلَلِ» بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد الله عليه، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه الله من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى

صفحة رقم 490

«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ» غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد «كَفُورٍ ٣٢» جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه، راجع الآية ٣٢ من سورة فاطر في ج ١. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول الله الناس إلا أربعة، إذ قال صلّى الله عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة. وهم عكرمة هذا وعبد الله ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن أبي صرح، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا لله ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص لله الواحد فما ينجيني في البر غيره، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه لا يصح، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى (مقتصدا) بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب الله فتيلا «وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا لله ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية ١٨ من سورة عبس المارة ج ١، وهذا مما وعد

صفحة رقم 491

الله به عباده «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ» أيها الناس هذه «الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ٣٣» الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية ٥ من سورة فاطر في ج ١ في هذا البحث، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ بالله فيندم من حيث لا ينفعه الندم والله تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم.
مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى والله تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء الله والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية ١٠٢ من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة،

صفحة رقم 492

لأن الله تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب الله تعالى، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية. وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية، فقلت له من أين عرفت هذا؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء الله، فقال لا بد من كونه، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها والله على كل شيء قدير، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن الله تعالى يغير الأحوال، فقال آمنت بالله وصدقت. وإن ما يعدّه أهل هذا العصر من العلوم المحدثة بزعمهم قد تكون قديمة لأنهم لم يطلعوا على كل ما اطلع عليه الأوائل من العلوم فمن ينظر إلى فنّ الهندسة وصنع الأبنية القديمة والأصباغ والنقوش والتصوير والتصبير يعلم أن الأواخر لم يبلغوا بعد ما بلغه الأوائل لأنهم حتى الآن عن معرفته عاجزون وهناك تحنيط الأموات لم يقفوا على أجزاء تركيبه ومرض السرطان لم يقفوا على توقيفه مما يدل على أن جل الأشياء قديمة والناس يتأسون بآثارهم ويقتفون مآثرهم فما عثروا عليه برعوا. به وما لم يعثروا عليه فسيعثرون عليه بعد لأن الدنيا لم تكمل بعد راجع الآية ٢٤ من سورة يونس المارة «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» من خير أو شر «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» في سهل أو جبل في قرية أو بادية في بحر أو نهر ولا تدري بأي أرض تدفن ولا كيفية موتها هل بحرق أو تردي أو غرق أو افتراس أو غير ذلك، وهذان الأمران وأمر الساعة لم يتطرق إليها بحث ما بوسائل معرفتها من أهل العلوم العصرية البتة ولما يتطرق والله أعلم. لأن نهاية عقول العالمين فيها عضال وغاية سعي الساعين فيها ضلال ولهذا فإن كل ما بذله ويبذله البشر لمعرفة هذه الأمور الخمسة على الحقيقة غايته العجز لأن ما اختص الله به لنفسه لم يطلع عليه عباده،

صفحة رقم 493
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية