
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ إلى آخر السورة.
أي: لا يغمك يا محمد كفر من كفر ولم يؤمن، فإن رجوعه إلى الله فيخبره بسور عمله ويجازيه عليه، وهذا مثل قوله " ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨] ".
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي: يعلم ما تكنه صدورهم من الكفر بالله.
ثم تعالى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً﴾ أي: يمهلهم في الدنيا إمهالاً قليلاً ووقتاً قليلاً.
﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي: يلجئهم إلى الدخول في عذاب النار - نعوذ بالله منها -.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ أي: إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك من خلق السماوات والأرض؟ أقروا بأنه الله، فقل يا محمد عند إقرارهم بذلك: الحمد لله: أي الذي خلق ذلك وتفرج به لأنهم لم يخلقوا شيئاً.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون من يجب له الحم والشكر.
ثم قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي يملكها.
﴿إِنَّ الله هُوَ الغني﴾: أي: عن خلقه. ﴿الحميد﴾ أي المحمود على نعمه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾. أي: ولو أن شجرة الأرض كلها بريت أقلاماً، والبحر لها مداد، ويمدها سبعة أبحر مداداً - أي الأقلام - ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله﴾.

وفي الكلام حذف، والتقدير: يكتب بذلك كلام الله لتكسرت الأقلام وجفت وفرغ المداد ولم تنفذ كلمات الله. ومن رفع " البحر " فعلى الابتداء، أو على موضع أن.
" وما " عملت فيه، أو على موضع " ما "، إذ لم يظهر فيه الإعراب.
قال قتادة: قال المشركون: هذا الكلام يوشك أن ينفد/ فنزلت هذه الآية. وروي أن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ في سبب مجادلة كانت من اليهود له.
قال ابن عباس: " قالت أحبار يهود للنبي ﷺ بالمدينة: يا محمد أرأَيْتَ قَوْلُكَ " وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمُكَ؟ فقالَ النبي ﷺ: " كَلاَّ "، قالوا: ألسْتَ تَتْلُو فِيما جَاءَك أنَّا قَد أوتينَا التَّوراة فيها بيان كل شيء؟ فقال النبي ﷺ:

" فإنَّها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما تكفيكم " فأنزل الله في ذلك: " ولو أنما في الأرض من شجرة " إلى تمام الثلاث الآيات.
وهذا معنى قول عكرمة.
ويروى أن النبي ﷺ ق قال لهم: " وَقَدْ أَتَاكُم اللهُ ما أن عَمِلْتُم بِهِ انْتَفَعْتُم وهو في عِلْمِ الله قَلِيلٌ ".
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ أي: ذو عزة في انتقامه ممن أشرك به وادعى معه إلهاً غيره، ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره خلقه.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي: ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون قليلاً كان أو كثيراً. هذا معنى قول مجاهد.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ﴾ أي: سامع لما يقوله المشركون وغيرهم، ﴿بَصِيرٌ﴾ بأعمال الخلق كلهم.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾. أي يزيد من كل واحد في الآخر، فينقص من أحدهما بمقدار ما زاد في الآخر.

ثم قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ أي: سخرهما لمصالح العباد. ﴿كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي: يجري بإذن الله إلى وقت معلوم، إذا بلغاه كورت الشمس والقمر.
﴿وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي: ذو خبر بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها. والمراد بها الخطاب المشركون.
ثم قال عالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾. أي: هو الخالق الحق لا ما تعبدون. ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي: ما تعبدون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي يضمحل ويفنى.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي﴾ أي: ذو العلو على كل شيء، وكل من دونه متذلل منقاد له، ﴿الكبير﴾ أي: الذي كل شيء يتصاغر له.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله﴾ أي: السفن تجري في البحر بنعمة الله على خلقه. ﴿لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ﴾ أي: من حججه وقدرته فتتعظوا.
وقد قيل: نعمة الله ها هنا الريح التي تجري السفن بها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ أي: إن في جري الفلك في البحر لعلامات وحججاً على قدرة الله وضعف ما تدعون من دونه.
﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ أي: لكم من صبر نفسه عن محارم الله وشكر على نعمة. قال مطرف: إن من أحب عباد الله إليه الصبور الشكور.

وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.
وقال قتادة: إن من أحب عباد الله إليه من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل﴾. أي: وإذا غشي هؤلاء الذين يشركون بالله غيرهم في حال ركوبهم لابحر موج كالظلم، شبه سواد كثرة الماء وتراكب بعضه على بعض بالظلم، وهي الظل جمع ظلة.
وقال الفراء: الظل هنا: السحاب.
﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي: إذا غشيهم الموج فخافوا الغرق فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له لا يشركون به هنا لك شيئاً، ولا يستغيثون بغيره.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر﴾ أي: نجاهم من ذلك الموج والغرق فصاروا في البر.
﴿فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ أي: في قوله وإقراره بربه، وهو مضمر للكفر بعد ذلك، وقال أبن زيد: المقتصد على صلاح من الأمر. وفي الكلام حذف، كأنه قال: ومنهم كافر بربه الذي نجاه من الغرق. ودل على ذلك قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ أي: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كل غدار عنيد. فدل الجحود المذكور على الكفر المحذوف.

وقيل: التقدير: ومنهم جائر لأن الاقتصاد ضده الجور، فدل على ضده، قال معنى ذلك مجاهد والحسن وقتادة والضحاك/.
والختر عند العرب أشد.
ثم قال ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾. أي: اتقوه في قبول طاعته والعمل بمرضاته، ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ يعني: وخافوا يوم القيامة فإنه يوم لا يشفع فيه أحد لأحد إلا بالإيمان والأعمال الصالحة.
﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي: إن مجيء هذا اليوم الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم حق.
﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: لا يخدعنّكم نُزهَتُها ولذاتها فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عذاب الله تعالى ونعيمكم أبداً.
﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور﴾. أي: ولا يخدعكم بالله خادع، فالغرور هو كل ما غر من إنسان أو شيطان. ومن ضم الغين جعله مصدراً.
وقيل: هو أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، قاله أبن جبير.

ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾. أي: يعلم متى تكون، فاتقوا أن تأتيكم بغتة.
﴿وَيُنَزِّلُ الغيث﴾: أي: لا يعلم متى ينزله.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام﴾ أي: لا يُعْلَمُ ذلك غيره.
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ أي: ما تعمل من خير وشر.
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ أي: في أي مكان يلحقها أجلها فتموت فيه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله.
﴿إِنَّ الله عَلَيمٌ﴾ أي: ذو علم بكل الأشياء، ﴿خَبِيرٌ﴾ بما هو كائن وما كان. وقال النبي ﷺ " مفاتح الغَيب خَمْسة. ثم قرأ هذه الآية.. ".