
بالحكمة؛ لأنه يسبق في إهلاك نسفه، ويعينه على ذلك بمعونته إياه، ومن يسعى في إهلاك نفسه، فهو غير حكيم.
فأما اللَّه - سبحانه - حيث خلقهم وأنشأهم وأعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والمعاداة غير خارج فعله عن الحكمة؛ لما ذكرنا أنه لا يلحقه الضرر ولا النقصان بما علم ويكون منهم من الخلاف له والعصيان والمعاداة، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب لكم مثلًا.
من مثل خلقكم، يقول - واللَّه أعلم -: يبين لكم مثلا من أنفسكم: ما لو تفكرتم وتأملتم، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون اللَّه، أو تسميتكم الأصنام باللَّه.
ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه:
أحدها: قوله: (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ)، أي: لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم فيما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك؛ فكيف زعمتم أن اللَّه قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته؟!
والثاني يقول: هل ترضون أن يكون ما ملكت أيمانكم شركاءكم فيما تملكون من الأموال؟! فإذا لم ترضوا به، فكيف زعمتم أن اللَّه يرضى أن يشرك مماليكه في ملكه وسلطانه؟!.
أو يقول: فإن لم ترضوا لأنفسكم إشراك ما ملكت أيمانكم في ملككم، ولم تسووا مماليككم بأنفسكم في - ذلك، فكيف رضيتم ذلك لله، وسويتم نفسه ومماليكه، وعدلتم به من دونه؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).
أي: تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه.
وبعضهم يقولون: تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت، كما تخافون أن يرثكم الأحرار من أوليائكم، وهو قول مقاتل لكن الميراث ليس من الآية في شيء، والأول أشبه.

وفي قوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) دلالة أن العبد لا يكون له حقيقة الملك في الأشياء كالأحرار؛ لأنه أخبر أنهم ليسوا هم بسواء في الشرك فيما رزق السادات وملكوا، على العلم أنهم يشتركون جميعًا في المنافع؛ دل أنهم يملكون منافع الأشياء ويشتركون مع الأحرار فيها، ولا يملكون حقيقة الإملاك، وكذلك يدل قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ...)، أنه لما نفى عنه القدرة على شيء - واللَّه أعلم - يكون تأويل قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يغنهم اللَّه من فضله بالمنافع، لا بحقيقة ملك الأشياء، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
أي نبينها.
(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
أي: لقوم ينتفعون بعقولهم.
والثاني: قوله: (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)، أي: نفرق واحدة بعد واحدة، على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، والتفصيل يخرج على وجهين:
أحد هما: التبيين.
والثاني: التفريق في الذكر، فصلت آياته: بينت، وفصلت: فرقت واحدة بعد واحدة، فإن قال لنا قائل في هذه الآيات التي ذكرت: ما يدل على إيجاب البعث؟ قيل: في هذه الآيات، التي ذكرت دفع الشبه التي لها أنكروا البعث؛ لأنهم رأوا البعث ممتنعًا بالشبهة التي اعترضت لهم؛ ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي لها رأوا البعث ممتنعًا، حيث أراهم بدء خلقهم وقيام السماء والأرض بالذي ذكر.
ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم، أو بما ذكرنا: أن خلق الخلق بلا عاقبة تجعل لهم للفناء خاصة خارج عن الحكمة؛ لوجوه: أحدها: ما ذكرنا أن بناء البناء في الشاهد للنقض والإفناء خاصة بلا منفعة تتأمل في العاقبة سفه خارج عن الحكمة؛ فعلى ذلك خلق الخلق للفناء خاصة بلا عاقبة يكون خارجًا عن الحكمة.
والثاني: أنه لو لم يجعل البعث ودارًا أخرى؛ ليفرق بين العدو والولي مع ما قد سوى بينهما في هذه الدار، وفي الحكمة أن يفرق ولا يسوي بينهما؛ فلو لم يكن دار أخرى فيها