
إثبات الوحدانية من واقع البشر
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
المفردات اللغوية:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ جعل لكم أيها المشركون مثلا كائنا منتزعا من أحوال أنفسكم التي هي أقرب الأمور إليكم. والمثل: الصفة الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من مماليككم وعبيدكم. مِنْ شُرَكاءَ لكم. فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فتكونون أنتم وهم فيه سواء في إمكان التصرف فيه، يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم.
ومن الأولى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ للابتداء، والثانية: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة: مِنْ شُرَكاءَ مزيدة لتأكيد الاستفهام المقصود به النفي.
تَخافُونَهُمْ أي تخافون أن يستقلوا بالتصرف فيه. كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. والمعنى: ليس مماليككم شركاء لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض مماليك الله شركاء له؟! كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل نبين الآيات بالتمثيل الموضح للمعاني.
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون، يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال. ظَلَمُوا بالإشراك. بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يردعهم شيء. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي فمن يقدر على هدايته؟ والمعنى:
لا أحد يهديهم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم من آفاتها، أي: وليس لهم منقذ من قدرة الله.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبّيك اللهم

لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فأنزل الله:
هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ.
التفسير والبيان:
من أسلوب القرآن المتميز تصوير المعنويات بصور المحسوسات، وضرب الأمثال الواقعية تقريبا للأذهان، وإمعانا في الإقناع، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا يقولون:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
والقصد من هذا المثل إثبات الوحدانية، وهدم الشرك والوثنية، فقال تعالى:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ أي جعل الله لكم مثلا تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم، ومنتزع من أحوالكم ومشاعركم التي تسيطر عليكم، وقريبة منكم قربا ملازما، لإثبات وحدانية الله تعالى، والإقلاع عما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام.
ذلك المثل: هو هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء في أموالكم؟
وهؤلاء الشركاء هم عبيدكم يساوونكم في التصرف فيها، وأنتم وهم في المال سواء، تخافون أن يقاسموكم الأموال؟! وإذا كنتم تأنفون من ذلك، ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه، وتجعلون عبيده شركاء له؟! والمعنى المقصود: أن أحدكم يأنف من ذلك أي بأن يساويه عبده في التصرف

في أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد الأشباه من خلقه؟! وهذا كقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ [النحل ١٦/ ٦٢] أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات لله، وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى، ظل وجهه مسودا وهو كظيم، فهم يأنفون من البنات وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر.
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي مثل ذلك التفصيل والتبيان في إلزام الخصم الحجة القوية، نفصل الآيات ونوضحها لقوم يستعملون عقولهم ويتأملون فيما يقال لهم ويذكر من الأدلة المنطقية والحجج الإقناعية.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولكن هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم اتبعوا أهواءهم جهلا منهم، ولم يحكّموا عقولهم، في عبادتهم الأنداد بغير مستند من عقل أو نقل، وساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة.
فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي إذا كان أمر هؤلاء الناس المشركين كذلك، فلا أحد يهديهم ويوفقهم إلى الحق، بعد أن اختاروا الكفر، وفقدوا الاستعداد للإيمان، وصار الشرك طبعا لهم، وخلقوا ميالين بالفطرة إليه، والله عالم بهم وبشأنهم قبل خلقهم، فصاروا معتمدين على أنفسهم، ولا ناصر لهم ينقذهم من بأس الله ولا مجير لهم من عذابه وشديد انتقامه إذا أحدق بهم لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الشركة بين المتفاوتين في الدرجة أو الطبقة مرفوضة في واقع الأمر