
الآية ٢٨ من آل عمران في ج ٣ إن شاء الله «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالمطر «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» ١٩ من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة. ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ» أي أصلكم آدم عليه السلام «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ» أيها الناس من ذلك الأصل الواحد «بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» ٢٠ في الأرض فتلأونها كثرة
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» من جنسها «أَزْواجاً» مثلكم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» من غير سابق معرفة ولا قرابة، ولولا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع (عند الاختلاف) بغير ما اعتاد عليه الآخر، وقل أن يمكن تغيير الطبع، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في الآيتين «لَآياتٍ» عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ٢١ فيها فيؤمنون بمنشئها «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها، مما تفرع عنها وتداخل فيها «وَأَلْوانِكُمْ» الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية، مع أنكم من أصل واحد «لَآياتٍ» كافيات للإيمان بالله والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه، إذ لو اتفقت الأصوات والصور

لوقع اليأس بين الناس، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة «لِلْعالِمِينَ» ٢٢ بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات الله، قال تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الآية ٤٤ من العنكبوت الآتية، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد، والأولى أولى، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك، وهو من أجل النعم على الخلق، ولا نعمة من نعم الله إلا وهي جليلة، ولكن منها ما هو أجل «إِنَّ فِي ذلِكَ» التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية ٦٢ من الفرقان ج ١، «لَآياتٍ» بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ٢٣ سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً» بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة للنبات «لَآياتٍ» دالات على إحياء البشر بعد موته «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٢٤ قدرة الله ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين، إذ لا فرق عند الله بين الإحياءين، كما لا فرق عنده بين الإماتتين، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ» تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية ١٠ من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية ٥ من سورة الرعد في ٣ «وَالْأَرْضُ» على الهواء والماء بلا مرتكز ولا
صفحة رقم 443
ما سك فهي والسماء قائمتان «بِأَمْرِهِ» لهما بقوله جل قوله كونا كذلك، فكانتا حالا بين الكاف والنون، دون مهلة أو تراخ، راجع الآية ١١ من سورة فصلت المارة، «ثُمَّ» أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره، ذلك وإنه «إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ» المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام «إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» ٢٥ منها أحياء كحالتكم الدنيوية
كاملين غير ناقصين، لأن الله تعالى يعيد للأعرج رجله، وللأقطع يده، وللأعور عينه، حتى القلفة، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها، ودعاؤكم وخروجكم بأمره. قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ٢٦ منقادون مطيعون له لا لغيره، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من شيء «ثُمَّ يُعِيدُهُ» كما خلقه بلا واسطة «وَهُوَ» أمر الإعادة «أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه، أي أن أهون بمعنى هين، إذ لا شيء على الله بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» ٢٧ في كل شيء العليم بكل شيء.
مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله «هَلْ لَكُمْ» أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء «مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم

بربكم من هذه الحيثية؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي «فَأَنْتُمْ فِيهِ» أي الرزق الكائن لكم «سَواءٌ» مع عبيدكم، كلا، بل لكم خاصة. وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي. وهل «تَخافُونَهُمْ» أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها «كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من سورة الصافات «كَذلِكَ» مثل هذا التفصيل الواضح «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونبينها ونمثلها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٢٨ هذه الأمثال فيتدبرونها، ويتعظون بها، ويعون مغزاها، وينتبهون لمعناها.
ونظير هذه الآية الآية ٧٤ من سورة النحل المارة فراجعها. واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بشركهم ذلك «أَهْواءَهُمْ» في ضروب الإشراك «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ٢٩ أي أن الذين يخذلهم الله لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا، ولهذا قال «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الذي خلق الناس عليه، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل، ولهذا أمر الله تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه، لأنه هو أصل الأديان التي جبل الله خلقه الطائعين على التمسك فيه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم قال، قرأوا إن شئتم (فطرة الله) الآية، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (أي مستوبة لم يذهب من بدنها شيء) هل تحسون بها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا (فطرة الله) الآية، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه الله على البشر حين خاطبهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية ١٧٢ من الأعراف في ج ١، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار، وإن عبد غير الله في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان، راجع الآية ١٠٤ من سورة الأنبياء المارة، والآية ٣٠ من الأعراف ج ١. واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم. أي حولتهم عنه، على أنهم لو تركوا وشأنهم لا بد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه
صفحة رقم 446