آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا).
والزيغ أصل معناه في اللغة: الميل عن الاستقامة. والتزايغ التمايل، ورجل زائغ: أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. والمعنى على هذا: أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق وعدم أخذ بالمنهج المستقيم، لَا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن؛ لأنه بُغيتُهم، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، وعدم استقامة تفكيرهم، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل؛ فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في

صفحة رقم 1111

النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، وتفسد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، وأولئك لأنهم لَا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه، ولذا قال سبحانه: (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلبًا لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا: ما نعيم الجنة وما جحيمها؟ و (أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...).
وكيف يخلق الله العالم؟ وهكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول؛ ولذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال: (وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى والرغبة في تضليل الناس وإثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، والرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لَا تتحقق الفتنة إلا بها.
والتأويل في أصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأَوْل أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه علما أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود؛ ولذلك أطلق التأويل على التفسير ومعرفة ما يخفى من الحقائق وإرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه؛ وإما بمعرفة المآل والنتيجة عملا، كما في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣).
والتأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، وكأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، وقد يفسرون تفسيرات

صفحة رقم 1112

المقصود منها تشويه الحقائق وتضلل العقول، وقد قصدوا في الأمرين الضلال. وإن الله سبحانه وتعالى قد بين بعد ذلك أن صرفة المآل عند الله تعالى وحده، وصرفة المعنى قد يدركها الراسخون، فقال سبحانه:
(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) في هذا النص الكريم قراءتان: إحداهما بالوقف عند لفظ الجلالة، والابتداء بقوله تعالى في استئناف للقول: (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). وهذه القراءة يستفاد منها أن معرفة التأويل والعلم به هي لله وحده، وعلى هذا يكون التأويل بمعنى معرفة مآل ما اشتمل عليه القرآن من أخبار اليوم الآخر وغيره من مغيبات عن الحس. والقراءة الثانية بالوصل من غير وقف، بعطف الراسخين في العلم على لفظ الجلالة؛ ومعنى هذا أن العلم بالتأويل عند الله، ويعرفه الراسخون في العلم من غير زيغ مع استقامة المنهاج، ووضوح الغاية، والتأويل هنا بمعنى التفسير وتعرُّف المراد علما.
وإذا كانت قراءات القرآن سنة متبعة وكل قراءة هي بذاتها قرآن متلو مبين، فمجموع القراءتين يشير إلى أن التأويل قسمان، أحدهما: علم بالمآل والغاية، وهذا لَا يعلمه إلا الله، كما أشارت القراءة الأولى، والقسم الثاني من التأويل علم بالتفسير والمراد من الألفاظ، وهذا يعلمه الله، وقد يعرفه الراسخون في العلم، وهم في الحالين يقولون آمنا، أي صدقنا وأذعنَّا، كل من عند ربنا، فهم مفوضون مؤمنون مذعنون في حال علمهم وجهلهم، مصدقون بأن المحكم والمتشابه من عند الله. فمعنى (كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) أي كل واحد منهما يجب الإيمان به من غير تشكيك. وهذا هو الفرق بين الزيغ، واستقامة الفكر، فالمستقيم المفكر المؤمن يتقدم الإيمان على طلب التأويل، أما الآخر فيطلب التأويل ليلقي بالريب والشك.

صفحة رقم 1113

وإن هذا المنهاج المستقيم الذي يطالب به الإسلام هو منهاج أهل العقول الراجحة المستقيمة، وهم الثابتون في تفكيرهم وإيمانهم، الذين لَا تعبث بإيمانهم الأهواء، لأنه إيمان عميق، وسماهم العلي الحكيم: " الراسخين " في العلم، من الرسوخ وهو الثبات والتمكن، فالراسخ في العلم المؤمن الثابت الإيمان المتحقق الذي لَا تعرض له شبهة إلا أزالها بنور بصيرته، إذ الشبهة كالظلمة يبددها الضوء الساطع. وقد بين سبحانه أن أولئك هم الذين يتذكرون القرآن، ويتدبرون معانيه، ويدركون مراميه، وهم ذوو الألباب حقا وصدقا، ولذلك ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ) أي ما يدرك الحقائق الدينية ويعتبر بها، ويتذكر ما في القرآن من عبر ومواعظ وهداية إلا أصحاب العقول الراجحة التي لا تخضع للهوى والشهوة. وفي التعبير عن إدراك الحقائق الدينية والمعاني القرآنية وتفويض الأمور إلى الله تعالى فيما يعلم ويجهل بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ) إشارة إلى أن المعاني الدينية في فطرة كل إنسان، ولكن يطمسها الهوى عند بعض الناس فلا يتذكرون، وتتكشف هذه الفطرة عند الذين لم تسيطر عليهم الأهواء فيتذكرون، والله أعلم بالأنفس.
هذه آية المحكم والمتشابه تكلمنا في معانيها التي تفهم من ألفاظها، ولكن بعض العلماء يتكلمون في موضوع هذه الآيات المتشابهة؛ وقبل أن نخوض في ذكر بعض ما قالوا نقرر أن الذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها أن الآيات المتشابهة لَا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها، وإنه لَا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى من غير أن يبينها، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...)، ولا شكَّ أنَّ مِنْ أوَّلِ بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية، ولو تصور أحد أن من آيات القرآن التي تشتمل على أحكام

صفحة رقم 1114

تكليفية لم يبينه النبي - ﷺ - لكان معنى ذلك أن الرسول الكريم لم يبلغ رسالة ربه، وهذا مستحيل. لذلك نقول جازمين: إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول لأنه لم يطلع على موضوعه فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها، بل لاشتباه عند من لَا يعلم، واشتباه من لَا يعلم لَا يجعل آية في القرآن متشابهة.
وأكثر العلماء يقولون إن آيات الصفات التي توهم التشبيه هي من المتشابه كقوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، وقوله تعالى: (كُلُّ شيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ...)، وقوله تعالى: (الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فقالوا إن السلف يفوضون فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، والخلف يؤولون، فيقولون: إن اليد هي القدرة، والاستواء الاستيلاء، والوجه هو الذات؛ وهكذا يعتبرون تلك الآيات من المتشابه. وقد وجد من العلماء من لم يعدوا آيات الصفات من المتشابه إنما المتشابه عند أكثرهم هو ما يكون خاصا بالغيب الذي لَا نعلمه، ولم يعلمه لنا، كحقيقة الروح، وما يكون من نعيم اليوم الآخر، والعقاب والثواب فيه؛ من حيث إنه لَا يعرف ماله إلا الله تعالى، وما أخبره الله تعالى إن هو إلا تقريب، ففي الجنة ما لَا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر. وهؤلاء الذين نفوا أن آيات الصفات من المتشابه، لهم ثلاثة مناهج:
المنهاج الأول: منهاج ابن حزم؛ فهو يقول إن آيات الصفات لَا تشابه فيها، فهي كلها أسماء للذات العلية؛ فاليد كناية عن الذات، والوجه كذلك، والاستواء فعل للذات العلية.. وهكذا، وقصَر المتشابه على الحروف التي تبدأ بها السور، والأقسام التي يقسم بها الله تعالى.
والثاني: منهاج للغزالي ذكره في بعض كتبه، وهو " إلجام العوام عن علم الكلام "، وقد ذكر فيه أن بعض هذه الألفاظ التي توهم التشبيه هي استعمال مجازي مشهور، وليس تأويلا؛ فإنه يقال: وضع الأمير يده على المدينة،

صفحة رقم 1115

فيفهم كل عربي أن معنى ذلك أنه استولى عليها وسيطر، ويكون من هذا القبيل: (يد الله فوق أيديهم). فعبارات الغزالي في هذا الكتاب تفيد أن هذه العبارات مجاز عربي مشهور لَا يحتاج إلى تأويل، ولكن يجب بعد هذا الفهم الظاهر التفويض وأن نقول: (آمَنَّا بهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا).
المنهاج الثالث: منهاج ابن تيمية، وهو يرى أن هذه الآيات ظاهرة في معانيها، فهو يقول: إن لله يدا ولكن ليست كأيدينا، ووجها ولكن ليس كوجوهنا وإن هذه معان حقيقية، ويقول إن ذلك هو مذهب السلف، وهو في هذا تابع لطائفة من الحنابلة ادعوا أن ذلك منهاج الإمام أحمد. ولكن رد عليهم ابن الجوزي، وأنكر أن يكون ذلك مذهب أحمد فقال: " رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لَا يصلح، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فأثبتوا له سبحانه صورة ووجها زائدا على الذات؛ وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني " ثم يقول: " يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل! ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر اليد الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيَّات، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم " ثم يقول " لا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح ما ليس فيه ".
* * *

صفحة رقم 1116

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)
* * *
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. وقد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا) ويقولون أيضاً: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) وكأنهم إذ يعلنون الإيمان والإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه ويبقيه بإبعادهم عن الزيغ والاضطراب في العقيدة.
وقال بعض المفسرين: إن هذا كلام جديد، وهو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء، والمعنى على الحالين: ربنا أي يا خالقنا والعليم بنفوسنا والقيوم على أمورِنا (لا تُزِغْ قلُوبَنَا): لَا تبتلينا بابتلاء واختبار تَزيغ معه قلوبنا، وتضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم والمنهاج الحق. والزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الأهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ؛ وهذا كقوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...).
وروت أم سَلَمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول - ﷺ -: " يا مقلب القلوب ثبت

صفحة رقم 1117

قلبي على دينك " فقالت له يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ فقال: " يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ " (١).
(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) هذا بقية الدعاء والضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، وهي من تعليم الله سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، وقد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، وهو أول أبواب الرحمة، والأصل لكل رحمة؛ فبعد أن علمنا الضراعة بأن لَا تميل قلوبنا، وجهِّنا لطلب الأثر كذَلك وهو الرحمة، ورحمة الله تفضُّل وإنعام على العبد؛ لأنه وما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصرف المالك في ملكه، وليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كلمة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا والقرار والاطمئنان فيها، والنعيم في الآخرة. والتعبير بقوله تعالى: (مِن لَّدُنكَ) أي من عندك، وَلَدُن لَا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. والمعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. وقد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، ووصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين: (إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها " إنَّ " التي للتوكيد، ومنها تأكيد الضميو بقوله " أنت " ومنها القصر، أي لَا يهب أحد سواك، وذلك بتعريف الطرفين، ومنها التعبير بصيغة المبالغة، وهي: الوهاب، وإنه سبحانه قد انفرد بالرحمة وهبة الرحمة لمن يشاء، وإن رحمته وسعت كل شيء.
* * *
________
(١) رواه الترمذي: الدعوات (٣٤٤٤) عن شهر بن حوشب رضي الله عنه، وأحمد: مسند الأنصار (٢٥٤٥٧).

صفحة رقم 1118
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية