٧٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ الآية. أكثر أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في اليهود (١).
قال عكرمة (٢): إن جماعة من علمائهم (٣) كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من شأن محمد - ﷺ -، وبدَّلُوه، وكتبوا غيره بأيديهم من عندهم، فيما ادَّعوه أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، وحلفوا أنه من عند الله؛ لئلا تفوتهم الرِّشَى (٤) والمآكل.
ودليل هذا: قوله في سورة البقرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ (٥) الآية.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢١، ٦/ ٥٢٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦١ ب، "أسباب النزول" للمؤلف (١١٢)، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٦، "زاد المسير" ١/ ٤١١.
(٣) هم: أبو رافع، وكنانة بن أبي الحُقَيق، وكعب بن الأشرف، وحُيي بن أخطب. كما في المراجع السابقة.
(٤) الرِّشى بكسر الراء، وبضمها: جمع رَشْوة بفتح الراء وبضمها وبكسرها: وهي الجُعْل الذي يُتوصل به إلى الحاجة، وأصلها من الرِّشاء، وهو: الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، والمصدر: الرَّشْوُ. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٢/ ٢٢٦، "اللسان" ٣/ ١٦٤٨ (رشا).
(٥) سورة البقرة: ١٧٤. وهذه الآية نزلت في اليهود. انظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٨٩.
وقال ابن عباس في رواية باذان (١): نزلت في رجلين اختصما إلى النبي - ﷺ - في ضَيْعَةٍ، فَهَمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف، فنزلت هذه الآية، فَنَكَلَ المدَّعَى عليه عن اليمين، وأقر للمدَّعِي بحقه، ودفعه إليه (٢).
(٢) ورد عن ابن جربج أثر قريب من هذا القول أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٢٢: (قال [يعني أن جريج]: قال آخرون..) ثم ذكره. وملخصه: أن الأشعث بن قيس اختصم مع رجل في أرض، فطلب الرسول - ﷺ - من الرجل البيِّنة، فقال: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث، قال: فلك يمينه فقام الأشعث ليحلف، فأنزل الله هذه الآية، فنكل الأشعثُ، وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق. فردَّ إليه أرضه، وزاده من نفسه زيادة كثيرة.. قال الشيخ أحمد شاكر: (هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدَّثه به، فهو ضعيف الإسناد). المرجع السابق. وورد في نزول هذه الآية أسباب أخرى، أصح من هذا الأثر، فقد ورد أنها نزلت في السبب التالي: (قال رسول الله - ﷺ -: "من حلف يمين صبر؛ ليقتطع بها مال امريء مسلم، لقيَ الله وهو عليه غضبان". فأنزل الله تصديق ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ...﴾ إلى آخر الآية. قال فدخل الأشعث بن قيس، وقال: فيَّ أنزِلَت، كانت لي بئر في أرض ابن عمِّ لي، قال النبي - ﷺ -: "بيِّنَتك أو يمينه". فقلت إذًا يحلفُ يا رسول الله! فقال النبي - ﷺ - من حلف على يمين صبر..). إلى آخره.
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ...﴾، واللفظ له، انظر: "فتح الباري" ٨/ ٢١٢. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (١٣٨) كتاب الإيمان، باب: (وعيد من اقتطع حق مسلم). وأبو داود في "السنن" (٣٢٤٣) كتاب الأيمان والنذور، باب: (فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا). والترمذي في "السنن" (٢٦٦٩) كتاب التفسير، باب: (ومن سورة آل عمران). وابن ماجه في "السنن" (٢٣٢٢) كتاب الأحكام، باب: (البيِّنة على المدعي). وأحمد في "المسند" ٥/ ٢١١، ٢١٢ وانظر: "المسند" شرح شاكر =
ومعنى ﴿يَشْتَرُونَ﴾: يستبدلون (١). وذكرنا هذا في قوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾. جاز (٣) أن يكون (٤) إسماع الله جلَّ وعز أولياءَهُ كلامَهُ بغير سفير، خصوصيةً يَخُصُّ بها أولياءَه، فهو لا [يكلم هؤلاء أصلا. ويكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة.
(١) في (ب): يسترون: يستدلون.
(٢) في (ج): (واشتروا). سورة البقرة: ١٦.
(٣) في (ب): (فإما).
(٤) من قوله: (أن يكون) إلى (لم ينقض ذلك) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٣٤ نقل بعض عباراته بالنص، وتصرف في بعض عباراته بالزيادة والاختصار.
وجائز أن يكون معنى] (١) ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ أي: لا يكلمهم بكلامٍ يَسُرُّهم. ونفى الكلامَ أصلًا لأنه يتضمن (٢) معنى الغضب؛ كما يقال: (فلان لا يكلم فلانًا)، تأويله: أنه غضبان عليه، وإنْ كلمه بكلام سوء، لم ينقض ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾. أراد: نظر الرحمة؛ كما يقال: (نظر فلان لفلان)، و (نظر الأمير لرعيته): إذا رحمهم، وبهذا فسره ابن عباس، فقال (٣): يريد: لا (٤) يرحمهم.
وروى جعفر بن سليمان الضُّبَعِي (٥) عن أبي عِمْران (٦) الجَوْني (٧)، أنه قال (٨): ما نظر الله عز وجل إلى شيء إلاَّ رَحِمَه، ولو قضى أن ينظر إلى أهل النار لرحِمَهُم؛ ولكن قضى أن لا ينظرَ إليهم. ومضى الكلام في معنى تزكية الله.
(٢) في (ج): (يضمن).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في (ب): (ولا).
(٥) هو: أبو سليمان الحرشي البصري. قال عنه ابن حجر: (صدوق زاهد، لكنه كان يَتَشيَّع)، وعَدَّه من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين، توفي سنة (١٧٨ هـ). انظر الجرح والتعديل: ٢/ ٤٨١، "ميزان الاعتدال" ١/ ٤٠٨، "تقريب التهذيب" (٩٤٢).
(٦) في (ج): (أبي عمر).
(٧) في (ب): الجرني. وهو: أبو عمران، عبد الملك بن حبيب، البصري، الأزدي، الجَوْني. ثقةٌ، من التابعين، توفي سنة (١٢٨هـ) وقيل: بعدها. انظر: "الأنساب" ٢/ ١٢٥، "تقريب التهذيب" (٤١٧٢).
(٨) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٣ أ، وقد أورده بسنده عنه.