
كتابكم قال هذا المعنى قتادةُ وغيره «١».
ويحتملُ أنْ يريد بالآياتِ ما ظَهَرَ على يده صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات.
قُلْتُ: ويحتملُ الجميع من الآيات المتلوّة والمعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ص: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: جملةٌ حاليَّةٌ، ومفعول «تَشْهَدُونَ» : محذوفٌ، أي: أنها آيات اللَّه، أو ما يدلُّ على صحَّتها من كتابكم، أوْ بمثلها من آيات الأنبياء. اهـ.
وقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ: معناه: تَخْلِطُونَ: تَقُولُ: لَبَسْتُ الأَمْرَ بفتح الباءِ: بمعنى خَلَطْتُهُ ومنه قوله تعالى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: ٩].
وفي قوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توقيفٌ علَى العنادِ ظاهرٌ.
وباقى الآية تقدّم بيانه في «سورة البقرة».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
وقوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ... الآية/ أخبر اللَّه سبحانه في هذه الآيةِ أنَّ طائفة من اليهودِ مِنْ أحبارهم ذهَبَتْ إلى خديعة المسلمين بهذا المَنْزَع، قال قتادة وغيره: قال بَعْضُ الأحبار: لنظهر الإيمان بمحمَّد صَدْر النَّهار ثم لنكْفُر به آخر النهار، فسيقول المُسْلِمُون عنْد ذلك: ما بَالُ هؤلاءِ كَانُوا مَعَنا ثم انصرفوا عَنَّا، ما ذاك إِلاَّ لأنهم انكشفت لهم حقيقةٌ في الأمر، فيشكُّون، ولعلَّهم يَرْجِعُون عن الإِيمان «٢» بمحمَّد، قال الإِمام الفَخْر «٣» : وفي إِخبار اللَّه تعالى عن تواطئهم على هذه الحِيلَةِ من الفائدة وجوه:
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠٨) برقم (٧٢٢٠) بنحوه، وذكره الماوردي (١/ ٤٠١)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣١٥)، وابن عطية (١/ ٤٥٣)، وابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣٧٣).
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٨٤).

الأولُ: أنَّ هذه الحِيلَةَ كَانَتْ مخفيَّةً فيما بينهم، فلما أَخْبَرَ بها عنهم، كان إخباراً بمغيَّب، فيكون مُعْجِزاً.
الثاني: أنه تعالى، لما أطْلَعَ المؤمنينَ على تواطئهم على هذه الحيلة، لَمْ يحصل لهذه الحيلة أثرٌ في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإِعلام، لأمكن تأثيرها في قَلْب من ضَعُفَ إِيمانه.
الثالث: أنَّ القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة، صار ذلكَ رَادِعاً لهم عن الإِقدام على أمثالها من الحِيَلِ والتَّلْبِيسِ اهـ.
وذكر تعالى عن هذه الطائفةِ مِنْ أَهْل الكتابِ أنهم قالوا: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا خلافَ أن هذا القول هو مِنْ كلام الطائفةِ، واختلف النَّاسُ في قوله تعالى:
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، فقال مجاهد وغيره مِنْ أهل التأويل: الكلامُ كلُّه من قول الطائفة لأتْباعهم «١».
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضٌ بَيْن الكلامَيْن قال ع «٢» : والكلامُ على هذا التأويل يحتملُ معانِيَ:
أحدها: ولا تصدِّقوا وتؤْمنوا إلاَّ لمن جاء بِمِثْلِ دينِكُمْ حذاراً أنْ يؤتى أحدٌ من النبوَّة والكرامة مِثْلَ ما أوتيتم، وحِذَاراً أنْ يحاجُّوكم بتصديقِكُمْ إيَّاهم عنْدَ ربِّكم، إذا لم تستمرُّوا عليه، وهذا القولُ على هذا المعنى ثمرةُ الحَسَدِ والكُفْر، مع المعرفة بصحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ الكلام أنْ يكون معناه: ولا تُؤْمنوا بمحمَّد، وتُقِرُّوا بنبوَّته إذ قد علمتم صحَّتها إلا لليهود الّذين هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ: صفَةٌ لحالِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمعنى: تستَّروا بإقراركم أن قَدْ أوتيَ مِثْلَ ما أوتيتم، أو فإنهم (يعنون العربَ) يحاجُّونكم بالإقرار عند ربِّكم.
وقرأ ابنُ كَثيرٍ وحْده مِنْ بَيْنِ السبعة: «آنْ يُؤتى» بالمد: على جهة الاستفهام الَّذي هو تقريرٌ «٣»، وفسر أبو عليٍّ قراءة ابن كثيرٍ على أنَّ الكلام كلّه من قول الطائفة إلّا
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٤).
(٣) قال الأزهري: ومن قرأ بالمد فهو استفهام معناه الإنكار، وذلك أن أحبار اليهود قالوا لذويهم: أيؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ أي: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. -

الاعتراض الذي هو: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لا يختلفُ أنَّه من قول الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلا يجوزُ مع الاستفهام أنْ يحمَلَ: «آن يؤتى» على ما قبله مِنَ الفَعْلِ لأن الاستفهامَ قاطعٌ، فيجوزُ أنْ تكونَ «أَنْ» في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وخبرُهُ محذوفٌ، تقديره:
تُصدِّقون أو تعترفُون أو تذكِّرونه لغيركم، ونحو هذا ممَّا يدلُّ عليه الكلام.
قال ع «١» : ويكونُ «يحاجُّوكم» على هذا معطوفاً على: «أنْ يؤتى». قال أبو عَلِيٍّ: ويجوز أنْ يكون موضع «أنْ» نَصْباً، فيكونُ المعنَى: أتشيعونَ أو تَذكُرُون أنْ يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٧٦]، فعلى كلا الوجهَيْن/ معنَى الآية توبيخٌ من الأحبارِ للأْتباعِ على تصديقهم بأنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم نَبِيٌّ مبعوثٌ.
قال ع «٢» : ويكون قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ في تأويل نصْب «أنْ» بمعنى:
أو تريدونَ أنْ يحاجُّوكم.
وقال السُّدِّيُّ وغيره: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية: هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله لأمَّته «٣».
وحكَى الزَّجَّاج «٤» وغيره أنَّ المعنى: قُلْ إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أوتيتم.
ومعنى الآية على قول السدِّيِّ: أيْ: لم يعط أحدٌ مثْلَ حظِّكم، وإلاَّ فليحاجَّكم مَنِ ادعى سوى ذلك، أو يكون المعنى: أو يحاجُّونكم على معنى الازدراء باليَهُود كأنه قال:
أو هَلْ لهم أنْ يحاجُّوكم، أو يخاصمُوكُمْ فيما وهبَكُم اللَّه، وفضَّلكم به، وقال قتادةُ والرَّبيع: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله للطائفة.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٥).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٣١٢) برقم (٧٢٤٨)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٥٦)، والسيوطي (٢/ ٧٦)، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(٤) «معاني القرآن» (١/ ٤٣٠).