أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: ١٠٨] فهو الماكر في الحقيقة وهذا معنى وَمَكَرَ اللَّهُ عند بعض، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشأ يقول:
فديتك قد جبلت على هواكا | ونفسي لا تنازعني سواكا |
أحبك لا ببعضي بل بكلي | وإن لم يبق حبك لي حراكا |
ويقبح من- سواك الفعل- عندي | وتفعله فيحسن منك ذاكا |
من كان مسرورا بمقتل مالك | فليأت نسوتنا «بوجه نهار» |
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين، أحدها أن التقدير وَلا تُؤْمِنُوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى- وبأن يحاجوكم- ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى- بأو- على وزان وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] وهو أبلغ.
والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح، وأتى بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ معترضا بين الفعل ومتعلقه، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام أو زيادة التصلب فيه.
ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف: صفحة رقم 192
٨] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي، والمراد من التابعين المتصلب منهم، وإلا وقع ما فروا منه، وثانيها أن المراد وَلا تُؤْمِنُوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع، وهم فيه أرغب وأطمع، وعند هذا تم الكلام، ثم قيل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى إلخ على هذا معللا لمحذوف أي- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم.
وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد، وإنما أتى- بأو- تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة، وأما- أو- فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا.
ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير- أن يؤتى- بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا، وعن الزمخشري أن أَنْ يُؤْتى إلخ من جملة المقول كأنه قيل: قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله- كأنه قيل- قل: إن الهدى هدى الله، وقل- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم، وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني، ويجعل أن يؤتى خبر إِنَّ وهُدَى اللَّهِ بدل من اسمها- وأو- بمعنى حتى على أنها غاية سببية، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام، ورابعها أن يكون وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ إلخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ أمرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا وقرينة الإضمار أن وَلا تُؤْمِنُوا إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن، وحمل- أو- على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون، وقرئ- أن يؤتى- بكسر همزة إن على أنها نافية- أي قولوا لهم ما يؤتى- وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة- فأو- بمعنى حتى، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق انتهى.
«وأقول» ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أَنْ يُؤْتى إلخ هو قول قتادة، والربيع، والجبائي لكنهم لم يجعلوا- أو- بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي.
وابن جريج إلا أنهم قدروا- لا- بين أن ويؤتى، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن- لا- ليست مما تحذف هاهنا، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة، والمعنى إن الهدى كراهة- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين، ولا يخفى
أنه معنى متوعر، وليس بشيء، ومثله ما قاله قوم من أن أَنْ يُؤْتى إلخ تفسير للهدى، وأن المؤتى هو الشرع وأن أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أوتيتم، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال: والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان، وجعل قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة- ولا يخفى ما فيه- واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك- إن اليهود قالوا: إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون- ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الجمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم، والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع إذا المراد به غير أتباعهم.
واستشكل ابن المنير قطع أَنْ يُؤْتى عن لا تُؤْمِنُوا على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق، ثم قال: ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك- وفيه تأمل- فتأمل وتدبر، فقد قال الواحدي: إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة، والمراد من الفضل الإسلام- قاله ابن جريج- وقال غيره: النبوة وقيل: الحجج التي أوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، وقيل: نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ رحمة، وقيل: واسع القدرة يفعل ما يشاء عَلِيمٌ بمصالح العبادة، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قال الحسن: هي النبوة، وقال ابن جريج: الإسلام والقرآن، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
والباء بعد الاختصاص يكثر... دخولها على الذي قد قصروا
وعكسه مستعمل وجيد... ذكره الحبر الإمام السيد
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جبير: يعني الوافر.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ شروع في بيان نوع آخر من معايبهم، وتَأْمَنْهُ من أمنته بمعنى ائتمنته والباء، قيل: بمعنى على، وقيل: بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم- قنطار من الكلام فيه- يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه.
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده، وقيل: المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وروي هذا عن عكرمة، والدينار- لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياء لوقوعه بعد كسرة، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا: ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال: إنما سمي الدينار دينارا لأنه- دين ونار- ومعناه أن من
أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على- مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار- وقرئ يُؤَدِّهِ بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ بالكسر من غير ياء، وبالإسكان إجراء للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً استثناء من أعم الأحوال، أو الأوقات أي لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك، أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح، والسدي بالملازمة والاجتماع معه، والحسن بالملازمة والتقاضي، والجمهور على ضم دال- دمت- فهو عندهم كقلت، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة، والمضارع على اللغة الأولى يدوم كيقوم، وعلى الثانية يدام كيخاف ذلِكَ أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى: لا يُؤَدِّهِ.
بِأَنَّهُمْ قالُوا ضمير الجمع عائد على مِنْ في مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم.
أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي إنهم كاذبون، وقال الكلبي: قالت اليهود:
الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم،
وأخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير قال: «لما نزلت «ومن أهل الكتاب» إلى قوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»
والجار والمجرور متعلق بيقولون، والمراد يفترون، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره بَلى جواب لقولهم ليس علينا في الأميين سبيل، وإيجاب لما نفوه، والمعنى بَلى عليهم في الأميين سبيل.
مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها بَلى حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومَنْ إما موصولة أو شرطية، وأَوْفى فيه ثلاث لغات: إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها، والضمير في- عهده- عائد على مَنْ وقيل: يعود على اللَّهِ فهو على الأول مصدر مضاف لفاعله، وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله، أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على مَنْ من الجملة الثانية، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان الْمُتَّقِينَ من أَوْفى وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرؤوس الآي، ورجح الأول بقوة الربط فيه، وقال ابن هشام: الظاهر أنه لا عموم وأن الْمُتَّقِينَ مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله، ويدل عليه فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه، وقوله: الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير بِعَهْدِهِ إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا
أخرج الستة، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ» إلخ.
وأخرج البخاري، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وأخرج أحمد، وابن جرير- واللفظ له- عن عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: الجنة قال: فإني أشهدك إني قد تركتها» فنزلت،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع. ولبابة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف. وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.
والمراد- يشترون- يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى، وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، والأيمان- الأيمان الكاذبة، وبالثمن القليل- الأعواض النزرة، أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم- قاله الجبائي- أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون ذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل- انظر إليّ- يريد ارحمني، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أو لا غير واضحة بخلاف لمعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: ٦٤] مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر.
والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة- قاله القاضي- وقال الجبائي: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول، وقيل: إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يحرفونه- قاله مجاهد- وقيل: أصل- اللّي- الفتل من قولك: لويت يده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت «ملية» | وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا |
فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد، وقريب منه ما قيل: إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب، والألسنة- جمع لسان. وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث، ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن، ومن ذكره جمعه على ألسنة، وعن الفراء أنه قال: اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي والباء صلة، أو للآلة، أو للظرفية، أو للملابسة، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب، وقرأ أهل المدينة- يلوون- بالتشديد فهو على حد لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المنافقون: ٥] وعن مجاهد وابن كثير- يلون- على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا.
نعم قرئ- يلؤون- بالهمز في الشواذ وهو يؤيده، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير، وأما جعله من- الولي- بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه- باللي- أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين.
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ولكنه من قبل أنفسهم وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف، أو المشابه نازل من عند الله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى، والواو- للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر، وفي جملة وَيَقُولُونَ إلخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف منه عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.
والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إلى نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه، ونفي صفحة رقم 197
الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العبادة مخلوقة لهم لا لله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ، وقيل: يَعْلَمُونَ ما عليهم في ذلك من العقاب، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود، وهم كعب بن الأشرف، ومالك، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون: إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول
وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم: «ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين»
وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال.
وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال التواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل إن يكون قولا عن اجتهاد، أو ناشئا عن عدم استقراء تام، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض، فإنها أربعة أناجيل: الأول إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين- وإنجيله باللغة السريانية- كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدد إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين- وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة- وعدد إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا- كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك- وعدد إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح- كتب إنجيله بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة- وعدد إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا. وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال: إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له:
أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح: يا سيدي اذكرني في ملكوتك فقال:
حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس. ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر، وأغفل هذه القصة مرقس، ويوحنا، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع: إن ابن الإنسان لم
يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيي وخالفه أصحابه، وقالوا بل قال: إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا، ولا شك أن هذا تناقض، أحدهما يقول جاء رحمة للعالمين، والآخر يقول: جاء نقمة على الخلائق أجمعين، ومن ذلك أن متى قال: قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبطا إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال: مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له خير له أن لا يولد، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماء وغسل يديه وقال: أنا بريء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر، وأكذب يوحنا ذلك فقال: لما حمل يسوع إليه قال لليهود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخيرهم:
وإذا كان في الأنابيب حيف | وقع الطيش في صدور الصعاد |
وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت،
وأخرج ابن أبي حاتم قال: «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال: ما كان لبشر» إلخ، والمعنى ما يصح، وقيل: ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.
والجار خبر مقدم- لكان- والمنسبك من أَنْ والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن- بثم- تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة، وقد تقدم معناها، والعباد- جمع عبد قال القاضي: وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال: هؤلاء عبيد زيد ولا يقال: عباده، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين لِي صفحة رقم 199
ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بلفظ عِباداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا- كما قال الجبائي- فإن التجاوز متحقق فيهما حتما، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ إثبات لما نفي سابقا، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل: ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل: يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم،
وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحكيم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس- وهي أقوال متقاربة، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح.
وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا- كلحياني- لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة، وقيل: إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ الباء السببية متعلقة- بكونوا- أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل: متعلقة- بربانيين- لأن فيه معنى الفعل، وقيل بمحذوف وقع صفة له- والدراسة- التكرار يقال: درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير بِما كُنْتُمْ للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم، والثاني لمن دونهم، وقيل: لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه- وفيه بعد بعيد- وإن أشعر به كلام بعض السلف.
وقرأ نافع، وابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس بمعناه، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً قرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول، وَلا أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً فهو كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناء على
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة، والمسيح، وعزير عليهم السلام فلما قيل له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له: ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي»
وعلى هذا يكون المقصود- من عدم الأمر- النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ، بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل: والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على لكِنْ وكذا الحالية أيضا.
وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على- بشر- وجوز
عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضا في قوله تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك؟» بناء على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا، والقول- بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة- في غاية السقوط كما لا يخفى.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- أي اذكر وقت ذلك- واختار السمين كونه معمولا «لأقررتم» الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب أَأَقْرَرْتُمْ بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ كما نقله الطبرسي بعيد.
واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية
وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم- وإلى هذا ذهب ابن عباس- فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤون «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم» إلخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس: إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر، وغيره أن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ خطأ من الكتاب- وأن الآية كما قرأ عبد الله- وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- وقيل: المراد
أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه
وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها- وهي قراءة أبي بن كعب- أيضا، وقيل: المراد- وإذ أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين- أي ميثاقا غليظا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف أداه التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكما لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون وكانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟ وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل به لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: لَما آتَيْتُكُمْ إلخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله تعالى عليه وسلم- على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته- لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له
صلى الله تعالى عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان- كما عليه البعض- ويؤيد القول- بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به- ما
أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وأنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني»
وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلّى الله عليه وسلم.
هذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه.
ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول: قال غير واحد: اللام في لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة الفتح والتخفيف- وهي قراءة الجمهور- موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب: بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء- إن- وغيرها لكنها غلبت في- إن- بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط- كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك- ولو قلت أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب- وخالفه الفراء فيه- فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور- وخالف فيه بعض النحاة، قال: يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود: إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلبا غلطه فيه فالمسألة خلافية، وما- شرطية في موضع نصب- بآتيت- والمفعول الثاني ضمير المخاطب، ومِنْ بيان- لما- واعترض بأن حمل مِنْ على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي جنى الداني.
ومن الناس من قال: إن مِنْ تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درّك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي: يجوز ان تكون مِنْ تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، ولَتُؤْمِنُنَّ جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادّا مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول لا محل له، والثاني له محل، والقول: بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة- كما مر- وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر إما مقدر أو جملة لَتُؤْمِنُنَّ مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في بِهِ إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا دفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير بِهِ راجعا للرسول مع ملاحظة مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ القائم مقام الضمير العائد على ما اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في
خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في الروض الانف، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال- لأن آتيناكم، وجاءكم- إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد- بما آتيناكم- القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم عى ذلك التقدير. وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجئ إذ ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضيا. والثاني مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظا، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا- أي جاءكم به- مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر.
وقرأ حمزة- لما آتيتكم- بكسر اللام على أن ما مصدرية- واللام- جارّة أجلية متعلقة- بلتؤمنن- أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه، ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسبما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف. وجوز أن تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضا. والجار متعلق- بأخذ- وروي عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ- لما آتيتكم- بالتشديد. وفيها احتمالان: الأول أن تكون ظرفية بمعنى حين- كما قاله الجمهور- خلافا لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم- كما ذهب إليه الزمخشري- أي- لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته- وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها- أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق- وكذا وقع في تفسير الزجاج، و «مآل» معناها التعليل، الثاني أن أصلها من «ما» فأبدلت النون ميما لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في البحر.
وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، ومِنْ إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل: وهو الأصح- لا تضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف- واللام إما زائدة، أو موطئة بناء على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع- آتيناكم- على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون- آتيتكم- على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة- فافهم ذاك- فبعيد أن تظفر بمثله يداك قالَ أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد أَأَقْرَرْتُمْ بذلك المذكور وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم على حدّ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ [المائدة: ٤١].
وقيل: معناه هل أخذتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي على الأمم- والإصر- بكسر الهمزة العهد كما قال ابن عباس،