آيات من القرآن الكريم

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ

كما أخبركم محمد «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (٦٧) قط كما زعم مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم، وقولهم إنا أولاد إبراهيم لا يعني أنه كان على ما هم عليه تنزه وتبرأ منه، وإنما يعنون أنهم أولاد إسماعيل من جهة النسب فقط. تفيد هذه الآية إثبات دعوى المسلمين بأن إبراهيم كان مسلما لذكره في القرآن ومنع اليهود والنصارى من ادعائهما كونه كان منهما لعدم ذكره في كتبهم، فالمكابرة بعد هذا النص القاطع لا قيمة لها ومن العبث أن يبحث في أمر محكوم ببطلانه، لأن أصدق أنباء التاريخ ما جاء بالوحي المقدس، وأن الانتساب إلى إبراهيم يوجب اتباع شريعته، وإلا فهو زور يجب الانكفاف عنه، ولهذا لما أثار أهل الكتابين دعوة الانتساب إلى إبراهيم وكان المشركون قبلهم ادعوا هذه الدعوة فأنزل الله ما يكذبهم كلهم ويصدق دعوى المسلمين بقوله «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» في زمانه وماتوا على دينه «وَهذَا النَّبِيُّ» حفيده محمد الذي اقتفى أثره في العبادة قبل نزول الوحي إليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا» به بعد نبوته ورسالته من أمته أيضا هم أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين المخالفين لدينه ودين حفيده «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (٦٨) أجمع الذين يخلصون إيمانهم وأعمالهم، ومن كان الله وليه فقد فاز، وعليهم أن لا يتوجهوا بحاجاتهم في الدنيا والآخرة إلا إليه
وهو أولى بإجابتهم فيها، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي ولاة من المؤمنين، وان وليّي أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم تلا هذه الآية. ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال تعالى «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» عن الإسلام، أي أنهم لم يقتصروا على عدولهم عن الحق وإعراضهم عن قبول الحجة بل أحبوا إضلالكم أيضا «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لرسوخ الإيمان بالمؤمنين «وَما يَشْعُرُونَ ٦٩» أن هذا وبال عليهم لما فيه من الإثم فوق ما هم عليه من الوبال «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (٧٠) أنها مصدقة لما في كتبكم وتعترفون أنها حق إذا تركتم التعسف ورجعتم إلى الإنصاف
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ت (٢١)

صفحة رقم 353

الذي تكتبونه بما يخالف ما أنزل الله عليكم وتغيرون به كلام ربكم «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ» الذي فيها «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٧١) أنه محرم عليكم، ذلك لأن طمر الحق ووضع الباطل محله كفر في جميع الكتب السماوية «وَقالَتْ طائِفَةٌ» أخرى من هؤلاء اليهود المعدودين «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا» أظهروا الإيمان «بِالَّذِي» بالكتاب الذي «أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «وَجْهَ النَّهارِ أوله وحينما تواجهون المؤمنين به «وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» وهذا يدل على أن استعمال كلمة وجه بمعنى الأول، وعليه قول الربيع بن زياد:

من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقيل في الوجه نفسه:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عودت المزايا تعودا
«لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (٧٢) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى، فلم يفلحوا، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادىء الرأي، يكفروا به، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم، ليشككوا الناس فيه، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم. تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه الله عنهم. ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء، فقال «وَلا تُؤْمِنُوا» أيها المؤمنون «إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» وانقاد لأوامر شريعتكم، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب، فإنهم لا يودّ و

صفحة رقم 354

إلا ظاهرا، وإنهم يبطنون لكم الشر، وإياكم والميل إليهم، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع. وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم، وليس بنافعهم ذلك، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم، فالحذر كل الحذر منهم. ثم التفت إلى رسوله فقال «قُلْ» يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم «إِنَّ الْهُدى» الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو «هُدَى اللَّهِ» فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى الله، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه، ولا تصدقوا أبدا «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» من الكتاب والهدى والدين، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» بأن دينهم هو الواجب التقيد به، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله الله ناسخا لما تقدمه مما يخالفه، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى. وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة. ويا سيد الرسل «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده إنعاما منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» على من يريد أن يوسع عليه، لأن خزانته لا تنفد، وعطاءه غير محدود، وهو «عَلِيمٌ» (٧٣) بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته. وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام. وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه الله عنهم، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها الله على يد رسولكم موسى، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند الله كما يقوله محمد، لأن دينكم

صفحة رقم 355

أقدم الأديان وأصحها (إِنَّ الْهُدى) إلخ اعتراضية أيضا، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر.
وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه الله عن اليهود عند قوله (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش (أَنْ يُؤْتى) بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم. وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة، والآية ١٠٨ من المائدة الآتيتين، هذا والله أعلم، وهو الذي «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من خلقه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (٧٤) الذي لا يوازيه فضل. تشير هذه الآية إلى أن فضل الله ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه الله لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته. قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم الله به من أداء الأمانة «وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» بالمطالبة والإلحاح «ذلِكَ» عدم أدائه الأمانة ناشىء عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة، فكذّبهم الله بقوله «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥) أنه كذب، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته. قالوا نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد

صفحة رقم 356

مخاصمة وبيّنة. وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين في ج ٢ فراجعها ولبحثها صلة آخر سورة الأحزاب الآتية. قال تعالى «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ» الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان «وَاتَّقى» الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به، والتقوى التي هي أساس الدين «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (٧٦) روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» قلله الله تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند الله تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل، راجع الآيتين ١٨٨/ ٢٨٢ من سورة البقرة المارة، والآيتين ٢٨/ ٧٢ من سورة الأحزاب الآتية، ولهذا قد وجه الله تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات الله بالثمن البخس وكتم ما أنزل الله فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب الله عليهم من العذاب «لا خَلاقَ» حظ ولا نصيب «لَهُمْ فِي» منافع ونعيم وفضل «الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ» بما يسرّهم فيها «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» نظر رحمة وعطف «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب وأوساخ العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٧٧» لا تطيقه قواهم. يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.

صفحة رقم 357

مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن منصور أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان. قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى هذه الآية. ولفظ المسلم هنا ليس بقيد ولا شرط في هذا الحديث والذي بعده لأن اللفظ عام فيشمل هذا الحديث كل أحد. ورويا عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وعهد الله يشمل جميع العهود والمواثيق والوعود سواء كانت بين الرجل وربه أو بين الرجل وغيره، راجع الآية ٣٤ من الإسراء في ج ١ فيما يتعلق بالعهود والمعاهدات.
ورويا عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها حق امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها ثلاث مرات، قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل (أي إزاره) والمان (أي فيما أعطى) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. وللنسائى المانّ بما أعطى والمسيل إزاره، إلخ. وروى مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب النار، فقالوا يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال وإن كان قضيبا من أراك وكلمة بعد العصر في الحديث السابق مثل كلمة المسلم في غيره ليست بقيد ولا شر فسواء كانت اليمين بعد العصر والمحلوف له مسلما أو كانت في أي وقت كان والمحلوف له كتابيا أو مجوسيا فهو يمين يستحق صاحبها الوعيد المذكور. ولا يخفى أن اليم على نية المحلف لا على نية الحالف، ألا فليتيقظ المتيقظون، ولينتبه الغافلون

صفحة رقم 358

فإن الله لا يخفى عليه شيء وإنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم. قال تعالى «وَإِنَّ مِنْهُمْ» اليهود «لَفَرِيقاً يَلْوُونَ» يفتلون ويصرفون «أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» التوراة عن المعنى المراد فيها إلى غيره وهو ضرب من ضروب التبديل والتحريف لكتاب الله ويفعلون ذلك «لِتَحْسَبُوهُ» أيها الناس وهو محرف مبدل «مِنَ الْكِتابِ» الذي أنزله الله عليهم والله تعالى يقول لكم أنه مغير «وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» والله يقول لكم أنه مبدل محرف «وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وكررت هذه الجملة في لفظ متحد لقصد التأكيد وهو مطلوب هنا لا سيما في هذه المواقع لما فيها من نسبة ما لم يكن للحضرة الإلهية «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» خلافا لما هو في علمه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٧٨» أنه كذب ليس من الكتاب ولا من عند الله، وكررت الجملة الأخيرة أيضا بعين ما هو في الآية ٧٥ المارة لأنها بصنف غير الصنف المبين فيها لما اجتمع اليهود مع وقد نجران، قال أبو رافع القرظي أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال السيد من وفد نجران أتريد ذلك يا محمد وأن نعبدك كما تعبد اليهود عزيرا وكما تعبد بنو مليح الملائكة؟ قال معاذ الله أن نعبد أو نأمر أو نريد غير عبادة الله وحده ما بذلك بعثت يا قوم ولا أمرني ربي به وليس هو من شأني، فأنزل الله «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا ينبغي هذا لأحد أصلا فضلا عن هذا الصنف الذي هو أبعد الناس عن مثله، لأن هذه النعم التي منّ الله بها عليه تمنعه من ذلك «وَلكِنْ» يقول لهم «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» علماء حكماء تربّون الناس بأخلاقكم وآدابكم الحسنة وتعلمونهم طرق الخير وسلوك سبل الرشاد وتمحضونهم التوحيد وأن لا تنسبوا للحضرة الإلهية ما لا يليق بها، وأن تنزهوه ولا تعزو شيئا مما في هذا الكون إلا إليه وحده «بِما» بسبب ما «كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ» لغيركم «وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» (٧٩) على الغير ممن تقدمكم من أهل العلم، لأنهم لم يولوكم إلا على هذا وأن تقرءوا لمن معكم ولأنفسكم ما أنزل الله لكم حرفيا، ومن هنا جاءت النسبة لأن الرباني هو

صفحة رقم 359

المنسوب إلى الرب، وزيادة الألف والنون دلالة على كمال هذه الصفة، ومبالغة لاسم الفاعل الذي هو ربان «وَلا يَأْمُرَكُمْ» أيها البشر «أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» وهذا تنديد في بني مليح ومن تبعهم والصابئين القائلين إن الملائكة بنات الله، واليهود والنصارى القائلين إن عزيرا والمسيح ابنا الله «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أيها الناس «بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (٨٠) وهذا استفهام على طريق التعجب والإنكار وفيها من
إلقاء الروعة والمهابة ما فيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع. وفي يأمركم ثلاث لغات: إسكان الراء لعدم توالي الحركات، والنصب بالعطف على يقول، والرفع على الاستئناف المؤيدة بقراءة ولن يأمركم بدل من ولا يأمركم الأولى وهو ما مشيت عليه، لأنه الأظهر لخلوها عن تكلف جعل الأمر بمعنى النهي عند جعل لا غير زائدة عند من يرى ذلك، لأني أرى أن لا زائد في القرآن وأن من يقول نجاء بالحرف الزائد لتحسين الكلام وتقويته وتأكيده يقال له إذا ليس بزائد لأنه أدى معنى لم يكن عند عدمه، وكل ما يجاء به لمعنى فهو غير زائد، ولأن القراءة بالنصب تستدعي صلة لا وجعلها للتأكيد فقط أو جعلها غير زائدة بجعل عدم الأمر في معنى النهي، فيكون معنى أيأمركم ينهاكم، وتستدعي القراءة التقديم على جملة (وَلكِنْ كُونُوا) إلخ تدبر. يفهم من هذه الآيات أن الأمانة وما يضاهيها لا يثاب عليها المرء إلا إذا راعى فيها خوف الله، وإن أداءها حال طلبها من الخصال الحميدة، وإن جميع الشرائع تحت على أدائها بالمعروف على الوفاء بالعهد والوعد، وإن الخيانة والنكث من الكبائر التي نهى الله ورسوله عنها، وإنما كان أداؤها محمودا لما فيه من الوثوق بالناس ومحافظة حقوقهم، وبضدها عدم الثقة وضياع الحقوق. وترمي هذه الآيات لعدم الوثوق بأهل الكتاب فيما ينقلونه من أمر الدين، وان اتخاذ الأيمان الكاذبة وسائل لبيع السلع وأخذ مال الغير حرام قطعا. وتشير أيضا إلى حرمة ما يتفكه به من معارضة الكوثر أعطيناك كلام الله كقولهم بدل إنا أعطيناك كذا، أو إنك أقصر من سورة الكوثر، أو أفرغ من فؤاد أم موسى، وقولهم والسماء والطارق أي لا يملك شيئا من حطام الدنيا على قبيل ضرب المثل، لأن كلام الله لا يجوز أن يدخله الهزل والسخرية

صفحة رقم 360
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية