آيات من القرآن الكريم

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ

على الآيات الدالة على نبوة محمد عند حضور عوامكم وعند حضور المسلمين. أو المعنى لم تكفرون بالقرآن فإنكم تنكرون عند العوام كونه معجزا وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي لم تخلطون المنزل من التوراة بالمحرف من عندكم كما نقل عن الحسن وابن زين أو لم تشككون الناس بإظهار الإسلام بالتواضع أول النهار، ثم بالرجوع عنه في آخر النهار كما نقل عن ابن عباس وقتادة.
وقرئ «تلبسون» بتشديد الباء. وقرأ يحيى بن وثاب «يلبسون» بفتح الياء أي تكتسون الحق مع الباطل وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وتعلمون أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم أي أنتم أرباب العلم والمعرفة. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم اثنا عشر حبرا من أحبار يهود خيبر لسفلتهم منهم عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحرث وكعب وأصحابه من الرؤساء آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد أي آمنوا ببعض القرآن أي بالقبلة التي صلى إليها محمد وأصحابه وَجْهَ النَّهارِ أي أوله. وهو صلاة الفجر. وَاكْفُرُوا بالقبلة الأخرى التي وصلوا إليها آخِرَهُ صلاة الظهر فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة، ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم. فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة عند صلاة الظهر شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف لأصحابهما: آمنوا بالذي أنزل على محمد في شأن القبلة وصلوا إليها أول النهار، ثم ارجعوا إلى قبلتكم وصلوا إلى الصخرة آخر النهار لَعَلَّهُمْ أي أصحابه العوام يَرْجِعُونَ (٧٢) عن دينه وقبلته وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه على متابعته أي غرضهم بالإتيان بذلك التلبيس إبقاء أتباعهم على دينهم. أو المعنى لا تصدقوا بالنبوة إلا من وافق دينكم اليهودية وقبلتكم بيت المقدس فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إن الدين دين الله وهو الإسلام، والقبلة قبلة الله وهي الكعبة. أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وهذا من جملة كلام الله تعالى فلا تنكروا يا معشر اليهود أن يعطى أحد سواكم من الدين والقبلة مثل ما أعطيتموه أو أن يحاجج المسلمون إياكم بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم.
وقرأ ابن كثير أن «يؤتى» بهمزتين مع قصر الأولى، وتسهيل الثانية على الاستفهام الذي للإنكار والتوبيخ. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه. وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر، وغاية ما في هذا الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار مادة الإنكار لأن عليه دليلا وهو قوله تعالى: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان الأمر كذلك لزم ترك

صفحة رقم 133

الإنكار قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بالرسالة والنبوة والإسلام وقبلة إبراهيم بِيَدِ اللَّهِ فإنه مالك له يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي يعطيه محمدا وأصحابه والله تعالى حكى عن اليهود أمرين:
أحدهما: أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام، فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر.
وثانيهما: أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أي كامل القدرة فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء عَلِيمٌ (٧٣) أي كامل العلم فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس من النبوة والرسالة والدين مَنْ يَشاءُ محمدا وأصحابه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بغير تعب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بل يستحله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي مطالبا مخاصما ككعب بن الأشرف وأصحابه.
قال ابن عباس: أودع رجل قرشي عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه.
وأودع قرشي آخر فنحاص بن عازوراء فخانه، فنزلت هذه الآية.
تنبيه: معنى الباء إلصاق الأمانة كما، أن معنى على في قولك أمنته على كذا، استعلاء الأمانة، فمن ائتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به، وصار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ذلك الاستحلال والخيانة مستحق بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. أي قدرة على المطالبة والإلزام فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا. أو المعنى ليس علينا في أخذ أموال العرب سبيل أي إثم فإنهم قالوا: أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم. وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(٧٥) أي إنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش بَلى على اليهود في العرب سبيل وهذا رد على اليهود ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ فيما بينه وبين الله أو بينه وبين الناس وَاتَّقى عن نقض العهد بالخيانة وترك الأمانة فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦). وهذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن

صفحة رقم 134

الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله وذلك أمر الله. فالوفاء بالعهد تعظيم لأمر الوفاء كما يكون في حق الغير يكون في حق النفس، فالوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي من جميع ما أمر الله به ومما يلزم الشخص نفسه وَأَيْمانِهِمْ وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات القبيحة لا خَلاقَ أي لا نصيب لَهُمْ فِي خير الْآخِرَةِ ونعيمها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي يشتد غضب الله عليهم وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بالإحسان والرحمة يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) أي وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم. نزلت هذه الآية في حق عبدان بن الأشوع، وامرئ القيس اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أرض فتوجهت اليمين على امرئ القيس فقال: أنظرني إلى الغد. ثم جاء في الغد وأقر له بالأرض.
وقيل: نزلت في شأن الأشعث بن قيس كان بينه وبين رجل خصومة في أرض وبئر اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال للرجل: «أقم بيّنتك». فقال: ليس لي بيّنة، فقال للأشعث: «فعليك باليمين» «١». فهمّ الأشعث باليمين. فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم، واعترف بالحق وهذا قول ابن جريج
. وقيل: نزلت في شأن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب، وأبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق بدلوا نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة وأخذوا الرشوة على ذلك وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا- كما قاله عكرمة- أو كتبوا بأيديهم كتابا في ادعائهم أنه ليس علينا في الأميين سبيل وحلفوا أنه من عند الله- كما قاله الحسن- وهذه الآية دلت على أنها نزلت في أقوام حلفوا بالأيمان الكاذبة فتحمل على جميع الروايات. وَإِنَّ مِنْهُمْ أي من اليهود لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي طائفة يحرّفون اللفظة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة- حركات الإعراب- تحريفا يتغير به المعنى. وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وشعبة بن عمير لِتَحْسَبُوهُ.
وقرئ شاذة بالياء مِنَ الْكِتابِ أي لكي يظن السفلة أو المسلمون أن المحرف من التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر وفي اعتقادهم وَيَقُولُونَ هُوَ أي المحرف مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي موجود في كتب سائر الأنبياء مثل شعياء وأرخياء وحيفوف وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، والأذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى

(١) رواه الطبري في التفسير (٣: ٢٣٠). [.....]

صفحة رقم 135

عليهم السلام. وعلم من هذا التفسير المغايرة بين اللفظين فإنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) أي يتعمدون ذلك الكذب مع العلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيّروا التوراة، وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم. ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ما أمكن وما صح لأحد من الأنبياء كعيسى ومحمد أن يعطيه الله الكتاب أي التوراة أو القرآن والفهم لذلك الكتاب والنبوة، ثم يقول ذلك البشر المشرف بالصفات الثلاثة للناس كونوا عبادا كائنين لي متجاوزين الله إشراكا أو إفرادا. قال مقاتل والضحاك: نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران حيث يقولون: إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخذه ربا.
وقال ابن عباس: لما قالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله نزلت هذه الآية. وقال أيضا- في مقالتهم-: نحن على دين إبراهيم وأمرنا هو بهذا الدين. وقال ابن عباس وعطاء: إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريد أن نعبدك ونتّخذك ربا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» «١». فنزلت هذه الآية.
وقيل: قال رجل يا رسول الله: نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله». فنزلت هذه الآية
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي ولكن يقول ذلك البشر الذي رفعه الله إلى أعلا المراتب كونوا علماء عاملين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ.
قرأ عبد الله ابن كثير وأبو عمرو ونافع بفتح التاء وسكون العين. والباقون بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة. أي تعلمون الناس من الكتاب وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) أي وبسبب كونكم تقرؤون من الكتاب وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً.
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر «يأمركم» بفتح الراء، والفاعل ضمير يعود على البشر و «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي، أي ما كان لبشر أن يجعله الله نبيا، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف، كما يدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: «ولن يأمركم» والفاعل حينئذ ضمير يعود على «الله» - كما قاله

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧: ١٩٣).

صفحة رقم 136
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية