[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٤ الى ٧١]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات في هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يخلصوا الله العبادة فقال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ.
والسواء: العدل والنصفة، أى قل يا محمد لأهل الكتاب: هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم.
أو السواء: مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق. صفحة رقم 133
ثم بين- سبحانه- هذه الكلمة العادلة المستقيمة التي هي محل اتفاق بين الأنبياء فقال:
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان.
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أى ولا نشرك معه أحدا في العبادة والخضوع، بأن نقول: فلان إله، أو فلان ابن إله، أو أن الله ثالث ثلاثة.
وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أى ولا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله.
قال الآلوسى: ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. فقال صلّى الله عليه وسلّم هو ذاك». قيل وإلى هذا أشار- سبحانه- بقوله:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «١».
فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله، وعن أن يشرك معه في الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك، وعن أن يتخذ أحد من البشر في مقام الرب- عز وجل- بأن يتبع في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه.
ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وقد حكى القرآن في كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ «٢». وقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ «٣».
ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا ما لج الجاحدون في طغيانهم فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
أى فإن أعرض هؤلاء الكفار عن دعوة الحق، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، بل قولوا لهم: اشهدوا: بأنا مسلمون مذعنون لكلمة الحق، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل.
قال صاحب الكشاف وقوله فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أى لزمتكم الحجة فوجب
(٢) سورة النحل الآية ٣٦.
(٣) سورة الأنبياء الآية ٢٥
عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم. وذلك كما يقول الغالب للمغلوب في جدال وصراع أو غيرهما: اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لي بالغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره» «١».
هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقي رصين، ولذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكتبها في بعض رسائله التي أرسلها إلى الملوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام-.
فقد جاء في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل- ملك الروم- «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً إلخ الآية» «٢».
وأما النداء الثاني الذي اشتملت عليه هذه الآيات فقد تضمن نهى أهل الكتاب عن الجدال بالباطل في شأن إبراهيم- عليه السّلام- قال- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
قال ابن جرير: عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله فتنازعوا عنده، قالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله- تعالى- فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ «٣».
وقوله تُحَاجُّونَ من المحاجة ومعناها أن يتبادل المتخاصمان الحجة بأن يقدم كل واحد حجة ويطلب من الآخر أن يرد عليها.
والمعنى: لا يسوغ لكم يا معشر اليهود والنصارى أن تجادلوا في دين إبراهيم وشريعته فيدعى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية، ويدعى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية، فإن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعده بأزمان طويلة، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة مع أنها ما نزلت إلا من بعده، أو كيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل مع أنه ما نزل إلا من بعده، بآلاف السنين؟ إن هذه المحاجة منكم في شأن إبراهيم ظاهرة البطلان واضحة الفساد.
(٢) تفسير القرطبي ج ٤ ص ١٠٥ والأريسيون هم: العمال والفلاحون وعامة الشعب.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٣ ص ٣٠٥ طبعة مصطفى الحلبي، سنة ١٩٥٤.
وقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ أى أفلا تعقلون يا أهل الكتاب هذا الأمر البديهي وهو أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا للشيء المتأخر عنه؟
فالاستفهام لتوبيخهم وتجهيلهم في دعواهم أن إبراهيم- عليه السّلام- كان يهوديا أو نصرانيا.
ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر مخالفة أهل الكتاب لمقتضيات العقول السليمة وهو أنهم يجادلون في أمر ليس عندهم أسباب العلم به فقال- تعالى- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
والمعنى: أنتم يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة- سواء أكانت صحيحة أم فاسدة في أمر لكم به علم في الجملة، كجدالكم فيما وجدتموه في كتبكم من أمر موسى وعيسى- عليهما السلام- أو كجدالكم فيما جاء في التوراة والإنجيل من أحكام، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا في أمر ليس لكم به علم أصلا، وهو جدالكم في دين إبراهيم وشريعته؟
لأنه من البديهي أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا إذ وجوده سابق على وجودهما بأزمان طويلة.
وإذن فجدالكم في شأن إبراهيم هو لون من ألوان جهلكم ومخالفتكم لكل ما تقتضيه العقول السليمة، والنفوس المستقيمة.
وقوله- تعالى- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ ها حرف تنبيه، وأنتم مبتدأ، وهؤلاء منادى بحرف نداء محذوف حاجَجْتُمْ خبر المبتدأ أنتم. والتقدير: أنتم يا هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم.
ويرى صاحب الكشاف أن قوله أَنْتُمْ مبتدأ وهؤُلاءِ خبره. وحاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى. والمعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم «فيما لكم به علم» مما نطق به التوراة والإنجيل. فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ولا ذكر له. في كتابيكم من دين إبراهيم.. ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم» «١».
وتكرير هاء التنبيه في قوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ يشعر بغرابة ما هم عليه من جهل، ومجافاته لكل منطق سليم.
قال الرازي: وقوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم
حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة» «١».
وقوله- تعالى- وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تذييل قصد به تأكيد علم الله الشامل، ونفى العلم عن أهل الكتاب في شأن إبراهيم.
أى والله- تعالى- يعلم حال إبراهيم ودينه، ويعلم كل شيء في هذا الوجود، وأنتم لا تعلمون ذلك ثم صرح- سبحانه- ببراءة إبراهيم من كل دين يخالف دين الإسلام فقال- تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وقوله حَنِيفاً من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، بعكس الجنف فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال ويقال: تحنف الرجل أى تحرى طريق الاستقامة.
أى: ما كان إبراهيم- عليه السّلام- في يوم من الأيام يهوديا كما قال اليهود، ولا نصرانيا كما قال النصارى ولكنه كان حنيفا أى مائلا عن العقائد الزائفة متحريا طريق الاستقامة وكان «مسلما» أى مستسلما الله- تعالى- منقادا له مخلصا له العبادة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون مع الله آلهة أخرى بأن يقولوا إن الله ثالث ثلاثة، أو يقولوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو غير ذلك من الأقوال الباطلة والأفعال الفاسدة.
ففي هذه الآية الكريمة تنويه بشأن إبراهيم، وتعريض بأولئك الكافرين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا بأنهم هم المشركون بخلاف إبراهيم فقد كان مبرأ من ذلك.
أخرج الامام مسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خير البرية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك إبراهيم عليه السّلام».
ثم أصدر- سبحانه- حكمه الحاسم العادل في هذه القضية التي كثر الجدل فيها فقال:
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
وقوله- تعالى- أَوْلَى أفعل تفضيل من الولي وهو القرب.
والمعنى: إن أقرب الناس من إبراهيم، وأخصهم به، وأحقهم بالانتساب إليه أصناف ثلاثة:
أولهم: بينه الله بقوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أى الذين أجابوا دعوته في حياته واتبعوا دينه وشريعته بعد مماته.
وقد أكد الله- تعالى- حكمه هذا بحرف إِنَّ وبأفعل التفضيل أَوْلَى وباللام في قوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ليرد على أقاويل أهل الكتاب ومفترياتهم حيث زعموا أنه كان يهوديا أو نصرانيا.
وثانى هذه الأصناف: بينه- سبحانه- بقوله وَهذَا النَّبِيُّ والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم الداعي إلى التوحيد الذي دعا إليه إبراهيم.
والجملة الكريمة من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وللإشعار بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم- عليه السّلام- وثالث هذه الأصناف: بينه الله- تعالى- بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا أى: والذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم واتبعوه.
وفي هذا تنويه بشأن الأمة الإسلامية، وتقرير بأن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم أحق بالانتساب إلى إبراهيم من أهل الكتاب لأن المؤمنين طلبوا الحق وآمنوا به، أما أهل الكتاب فقد باعوا دينهم بدنياهم، وتركوا الحق جريا وراء شهواتهم.
وقوله وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تذييل مقصود به تبشير المؤمنين بأن الله- تعالى- هو ناصرهم ومتولى أمورهم.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذا الآية: يقول الله- تعالى- إن أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. فعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن لكل نبي ولاية من النبيين، وإن وليي منهم أبى خليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السّلام. ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ الآية «١».
ثم حكى- سبحانه- أن بعض أهل الكتاب لا يكتفون بما هم فيه من ضلال، بل يحاولون أن يضلوا غيرهم فقال- تعالى- وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ.
وقوله- تعالى- وَدَّتْ من الود وهو محبة الشيء وتمنى حصوله ووقوعه.
أى تمنت وأحبت جماعة من أهل الكتاب إضلالكم وإهلاككم عن الحق- أيها المؤمنون- وذلك بأن ترجعوا عن دين الإسلام الذي هداكم الله إليه، إلى دين الكفر الذي يعتنقه أولئك الكافرون من أهل الكتاب.
ولم يقف بغى بعض أهل الكتاب وحسدهم عند هذا التمني، بل تجاوزوه إلى إلقاء الشبهات حول دين الإسلام، وإلى محاولة صرف بعض المسلمين عن دينهم.
قال القرطبي: نزلت هذه الآية- في معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، حين دعاهم اليهود من بنى النضير وقريظة وبنى قينقاع إلى اليهودية «١».
والمراد بالطائفة رؤساء أهل الكتاب وأحبارهم ومن للتبعيض وهي مع مجرورها في محل رفع نعت لطائفة.
ولَوْ في قوله لَوْ يُضِلُّونَكُمْ مصدرية أى ودت طائفة من أهل الكتاب إضلالكم.
وقوله وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ جملة حالية.
أى: والحال أنهم ما يضلون أى ما يهلكون إلا أنفسهم بسبب غوايتهم واستيلاء الأهواء على قلوبهم، وإبثارهم العمى على الهدى ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يفطنون له، لأنهم قد زين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنا.
وأما النداء الثالث الذي اشتملت عليه هذه الآيات فهو قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
أى: لماذا تكفرون بآيات الله- تعالى- التي يتلوها عليكم نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم والحال أنكم تعلمون صدقها وصحتها علما يقينيا كعلم المشاهدة والعيان، وتعرفون أنه نبي حقا كما تعرفون أبناءكم.
والاستفهام في قوله لِمَ تَكْفُرُونَ لتوبيخهم والتعجيب من شأنهم، وإنكار ما هم عليه من كفر بآيات الله مع علمهم بصدقها.
وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه من علم كان يقتضى منهم أن يسارعوا إلى الإيمان لا أن يكفروا بآيات الله الدالة على صدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والتي تتناول القرآن الكريم، والحجج والمعجزات التي جاءهم بها صلّى الله عليه وسلّم.
تم وجه إليهم- سبحانه- نداء رابعا نهاهم فيه عن الخلط بين الحق والباطل وعن كتمان الحق بعد أن نهاهم قبل ذلك عن الكفر بالآيات فقال- تعالى-: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وقوله: تَلْبِسُونَ أى تخلطون من اللبس- بفتح اللام- أى الخلط وفعله لبس من باب ضرب.
تقول: لبست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بينه بمشكله وحقه بباطله في ستر وخفاء.
أى: يا أهل الكتب لماذا تخلطون الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم إرضاء لأهوائكم؟ ولماذا تكتمون الحق الذي تعرفونه كما تعرفون أبناءكم بغية انصراف الناس عنه، لأن من جهل شيئا عاداه.
وفي تكرير النداء والاستفهام زيادة في توبيخهم ولإنكار ما هم عليه، والتعجيب من شأنهم، ذلك لأنهم جمعوا أفحش أنواع الرذائل التي على رأسها كفرهم بآيات الله وخلطهم الحق بالباطل وكتمان الحق عمن يريده.
ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس.
إحداهما: طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله- تعالى لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ.
والثانية: طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر، وهي المشار إليها بقوله- تعالى-:
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ.
وقد استعمل أهل الكتاب الطريقتين لصرف الناس عن الإسلام فقد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم تأويلا فاسدا يخلط فيه الحق بالباطل ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر، وكان بعضهم يلقى حول الحق شبها ليوقع ضعفاء الإيمان في حيرة وتردد، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أو التي لا توافق أهواءهم.
وقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية. أى وأنتم تعلمون أن ما أخفيتموه وما لبستموه هو الحق، أو وأنتم من ذوى العلم ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق ويخلطه بالباطل، وإذا كان هذا الفعل يعد من كبائر الذنوب حتى ولو وقع من شخص عادى فإن وقعه يكون أقبح وفساده أكبر وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم يميز بين الحق والباطل.
قال أبو حيان: وهذه الحال وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهى عن اللبس والكتم، إلا أنها لا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل إذ الجاهل بحال الشيء لا يدرى كونه حقا أو باطلا. وإنما فائدتها بيان أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل «١».