
إثبات التوحيد وإنزال الكتاب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
الإعراب:
الم: أحرف مقطعة مبنية غير معربة، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور، كما قلنا أول البقرة، إلا أنه فتحت الميم هاهنا لسكونها وسكون اللام بعدها. وأما قول من قال: إنها فتحت لالتقاء الساكنين، ففاسد لأنه لو كان كذلك، لوجب فتحها في الم ذلِكَ الْكِتابُ وفي حم وفي ن وفي كل حرف من حروف التهجي التي في أوائل السور.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: الله: مبتدأ، ولا إله: مبتدأ ثان، وخبره محذوف وتقديره: لا إله معبود إلا هو، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول. و «هو» مرفوع لوجهين: أحدهما- لكونه مرفوعا على البدل من موضع: لا إله، والثاني: لكونه خبر: لا إله. ويجوز جعل الجملة في موضع نصب على الحال من الله تعالى، أو حال من ضمير نَزَّلَ.
بِالْحَقِّ جار ومجرور في موضع نصب على الحال وعامله فعل مقدر وتقديره: نزل عليك الكتاب كائنا بالحق.
مُصَدِّقاً حال من ضمير الحق، وتقديره: نزّل عليك الكتاب محققا مصدقا لما بين يديه. وكلتا الحالين مؤكدة. صفحة رقم 143

التَّوْراةَ في مذهب البصريين على وزن فوعلة، وأصله: وورية، فأبدلت الواو الأولى تاء، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. مِنْ قَبْلُ مبني لأنه مقطوع عن الإضافة هُدىً حال بمعنى هادين من الضلالة.
البلاغة:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ عبر عن القرآن بالكتاب، لكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية.
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ كناية عما تقدمه من الكتب السماوية، وعبر بذلك لصلته الوثيقة بها ولظهوره واشتهاره.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل، وهو من باب عطف العام على الخاص، حيث ذكر الكتب الثلاثة أولا، ثم عمّ الكتب كلها.
المفردات اللغوية:
الم الحروف المقطعة في أوائل السور للتنبيه مثل ألا ويا، لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها إِلهَ الإله هو المعبود بحق الْحَيُّ ذو الحياة، وهي صفة تستلزم الاتصاف بالعلم والإرادة الْقَيُّومُ القائم على كل شيء بحفظه ورعايته.
نَزَّلَ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن مقترنا بالحق أي الصدق في أخباره فكل ما فيه حق لا شك فيه. ونزل: تفيد التدرج، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث.
التَّوْراةَ كلمة عبرية معناها الشريعة، وتشتمل على خمسة أسفار هي «سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع» ويقول اليهود: إن موسى كتبها، ويسميها النصارى: العهد القديم أو العتيق، وفيها حكاية قصص الأنبياء وتاريخ بني إسرائيل قبل المسيح. الْإِنْجِيلَ كلمة يونانية، معناها التعليم الجديد أو البشارة. ويسمى العهد الجديد، ويشتمل في سيرة المسيح عليه السلام وبعض تعاليمه على أربعة أناجيل هي إنجيل متى ويوحنا ومرقس ولوقا وعلى أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب، ورؤيا يوحنا، وهي كلها مكتوبة بعد قرن أو قرنين من وفاة المسيح، وليس لها سند متصل إلى كاتبها.
والتوراة في عرف القرآن: ما أنزل الله على موسى، والإنجيل: ما أوحاه الله إلى عيسى عليه السلام، وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو الذي يتمم الشريعة.
مِنْ قَبْلُ تنزيله هُدىً هادين من الضلالة لِلنَّاسِ ممن تبعهما. وعبر عن

التوراة والإنجيل بأنزل، وعن القرآن بنزّل لأنهما نزلا دفعة واحدة، وأما القرآن فنزل تدريجيا، والتعبير عن الوحي بالتنزيل أو بالإنزال للإشارة بأن منزلة الموحي أعلى من منزلة الموحى إليه، فتكرار نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ لاختلاف الإنزال بآيات الله وكيفيته وزمانه، والله كرر اسمه تعالى تفخيما لأن في ذكر الظاهر من التفخيم ما ليس في ذكر المضمر.
الْفُرْقانَ ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين، وهو عموم بعض خصوص ليعم ما عدا الكتب الثلاثة. بِآياتِ اللَّهِ القرآن وغيره وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده ذُو انْتِقامٍ عقاب شديد ممن عصاه، لا يقدر على مثله أحد.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ كائن في الأرض ولا في السماء، لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يتجاوزهما.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ التصوير: جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع الجنين من المرأة كَيْفَ يَشاءُ من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وطبائع وأخلاق وغير ذلك.
الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري وابن إسحاق وابن المنذر «١»
أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو ستين راكبا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم، وخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وتكلم منهم ثلاثة، فمرة قالوا: عيسى ابن مريم إله لأنه يحيي الموتى وتارة هو ابن الله، إذ لم يكن له أب وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله تعالى:
«قلنا، وفعلنا» ولو كان واحدا، لقال: قلت وفعلت.

وقالوا على الله الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى أتى عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر في الرّحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته، كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران، إلى بضعة وثمانين آية منها.
التفسير والبيان:
بدأ الله تعالى السورة بإثبات التوحيد أساس الدين لينفي عقيدة التثليث، ثم أبان أنه تعالى أنزل الكتب على الأنبياء، وأن عيسى نبي مثلهم فهو منزل عليه، وأن الله هو صاحب القدرة المطلقة الذي يصور في الأرحام، ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فآدم مخلوق من غير أب ولا أم، والخالق هو الإله، والمخلوق عبد كيفما خلق.
ألم: الحروف المقطعة لتحدي العرب بالإتيان بشيء من مثل القرآن، ما دام هو مكوّنا من لغتهم ومن الحروف التي ينطقون بها وتتركب منها كلماتهم.
الله لا معبود بحق في الوجود سواه لأنه الخالق المسيطر على الكون والنفوس، ولأنه مصدر الخير ودافع الضر، الحي الدائم الحياة التي لا أول ولا نهاية لها، القائم على خلقه بالتدبير والتصريف، وعلى السموات والأرض قبل خلق عيسى، فكيف قامت ودبّرت قبل وجوده وبعد موته؟!

والله هو الذي نزّل القرآن عليك يا محمد بالحق الذي لا شك ولا شبهة فيه، مصدقا ومؤيدا ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين، وهو تصديق إجمالي لا تفصيلي في أصل الوحي وأصل الرسالة الداعية إلى توحيد الإله ومكارم الأخلاق، والإخبار والبشارة، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت قديما، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن العظيم عليه.
وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن، هداية للناس في زمانهما، وإرشادا، فالله هو الذي أنزل الوحي والشرائع قبل وجود عيسى وبعده، وليس عيسى مصدر الوحي، وإنما هو كغيره من الأنبياء متلقّ للوحي، فكيف يكون إلها؟! وأنزل الله الفرقان: وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بالدلائل والبينات الواضحات، والبراهين القاطعات.
إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة الدالة على توحيده وتنزيهه عما لا يليق، أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب كفرهم، والله منيع الجناب عظيم السلطان، ذو انتقام ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، ينفذ بعزته مراده، وينتقم ممن خالف وحيه.
وإن الله لا يخفى عليه شيء في الكون، فيعلم حال الصادق في إيمانه، وحال الكافر والمنافق والمكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وعيسى وغيره لا يعلم شيئا من ذلك، فكيف يكون إلها؟
والله هو الذي يخلق الإنسان في الرحم كما يشاء، ذكرا أو أنثى، حسنا وقبيحا وغير ذلك من الطبائع والألوان والمقادير والسلامة والعاهة، وعيسى وغيره لا يصوّر أحدا في رحم ولا يخلق شيئا، بل هو مصوّر مخلوق في رحم أمه،

وخارج منه، فكيف يكون إلها؟
لا إله إلا هو العزيز الحكيم: أي هو الخالق الموجد المستحق للألوهية وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، المنزه عن الوالد والولد، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم المنزه عن العبث الذي يضع الأمور في محالّها على وفق الحكمة.
وهذا دليل صريح بأن عيسى عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوّره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلها، كما زعمت النصارى؟ وقد تدرج خلقه، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ، خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر ٣٩/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتب السماوية على الأنبياء، وأن هذه الكتب يصدّق بعضها بعضا لأن غايتها واحدة، وهدفها واحد وهو إرشاد الناس إلى الحق، والإقرار بتوحيد الإله، والاعتراف بوجوده.
وإنزال الكتب، والخلق والإيجاد في الأرحام، والعلم بغيب السماء والأرض دون أن يخفى عليه شيء كلي أو جزئي: أدلة وبراهين ثلاثة قاطعة تثبت الألوهية لله وحده، دون مشاركة أحد من خلقه له، أو اتصاف بشر بما يزعم المبطلون من ألوهية إنسان مخلوق ضعيف بحاجة إلى الخالق في كل أموره، سبحانه لا إله إلا هو، أي لا خالق ولا مصوّر سواه، وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصوّرا وهو بشر مصوّر؟!