
وقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ) على الجواب الأول: أي أنه يهب لك
الولد وأنت بحالتك، وعلى الثاني: أن نعمته في خلق ذلك
كنعمته في غيره، وعلى الثالث: إن تعجّبت من ذلك فتعجب من
سائر أفعاله المبدعة، فإن خلقه لذلك كخلقه لما يشاء.
قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)
العشي: من لدن غروب الشمس إلى انقضاء صَدْر الليل.
وخصّ العشاء بالطعام المتناول فيه، وتعشى تناول
العشاء وعَشى صار في عشاً لظلمةِ عينه، وآية في وزنها

ثلاثة أقوال: الأول: أنها فَعلة، وحق مثله أن يُجعل لامه معتلًّا
نحو: حياة ونواة، ونظيرها راية، والثاني: فِعلة إلا أنها قلبت
كراهية التضعيف، نحو طائي في طَيْئي، والثالث: فاعلة، وأصلها
آيية فخَففت وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها أيية، ولو كانت
فاعلة لقيل: أويّة، والرمز: الإِشارة بالشفة.
والغمز بالعين والحاجب.
والإِبكار: مصدر أبكر، يُقال: أبكر وبكَر وبكَر
وابتكر، والبُكرة من وقت طلوع الفجر إلى ضحوة النهار.
وقوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً) قيل: طلب علامة لوقت الحمل.
فجعل تعالى أن لا يمكنه مكالمة الناس إلا إيماءً مع تمكنه من ذكر
الله، وقيل: بل سأله أن يبين له قربة يجعلها شكراً لما خوَّله،

فأمره أن يجعل شكره الاشتغال بالعبادة، وترك مكالمة الناس إلا
رمزًا ثلاثة أيام، وهو المذكور في قوله: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).
وفي هذا دليل أن في ذكر اليوم أو الليلة غنىً عن ذكر الآخر عند
الإِطلاق، وإذا أُريد الخلاف بمن حينئذ نحو (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ)، وعلى هذا الآية عبارة عن الفريضة، فإن زكريا سأل

أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً له، وتسبيحه: قيل هو
الصلاة، وسميت الصلاة سُبحة.
وقوله: (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) قيل: عنى في هذه الأيام الثلاث.
ولم يعنِ التسبيح في طرفي النهار فقط، بل إنما أراد إدامة العبادة في هذه
الأيام.
وقرئ (أَلَّا تُكَلِّمَ) بالرفع والنصب، نحو:

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بالرفع والنصب.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)
تكرير الاصطفاء قيل لمعنيين: الأول فرَّغها لعبادته وأغناها عن الكسب، والثاني أن جعلها أمًّا لعيسى وآية له، وقيل الأول الاصطفاء الذي هو

الاجتباء. والثاني الاصطفاء الذي هو على سبيل الهداية، وقد
تقدم ذكرهما آنفاً.
وتطهيرها قيل: من الحيض.
وقيل: من نجاسة الكفر، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).
وقول الملائكة لها قيل: كان بالإِلهام، فإنه ما أوحى الله إلى

امرأة وحي النبوة، فلذلك قال:
صفحة رقم 553
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)
وقيل: بل قد أوحي إليهن ولكن لم يبعثن رسلا.
وقال الجئائي: إنما يجوز أن يكون أوحي إليها معجزة
لزكريا أو توطئة لنبوة المسيح، وقوله هذا إيماءً لمذهبهم أن

المعجزات والوحي لا تصح إلا في أزمنة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وذلك دفع منه لكرامة الأولياء، وقوله: (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، قيل: هو على العموم، وقيل: عنى اللاتي في زمانها.