
وذَكر (١) زكريا عليه السلام عُقْرَ زوجته مع كِبَر نفسه؛ لزيادة ترجيحٍ في الاستبعاد، فلمَّا استفهم عن (٢) كيفيَّة حال الولادة؛ قيل له: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: مثل ذلك من الأمر، وهو: هبة الله الولدَ على الكِبَر، يفعل الله (٣) الذي يشاؤه، فسبحان من لا يعجزه شيء.
٤١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ قال المفسرون: إنَّ زكريا عليه السلام لمَّا بُشِّر بالولد، سأل الله تعالى علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته؛ ليزيد في العبادة؛ شكراً (٤) على هبة الولد (٥)، فقال الله تعالى: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾. أي (٦): علامة ذلك أن تمسك (٧) لسانك عن الكلام، وأنت صحيح سَوِيٌ، لأنه قال في موضع آخر: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠]؛ أي: وأنت سَوِي.
(٢) في (أ): غير مقروء، وفي (ب): (استبعد من). والمثبت من: (ج)، (د).
(٣) (الله): ليس في: (ج).
(٤) في (ب): (ذكرا).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٩ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٦، "زاد المسير" ١/ ٣٨٦.
(٦) من قوله: (أي..) إلى: (أي: وأنت سوي): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩.
(٧) في "معاني القرآن" للزجاج: (يُمْسَك لسانُك)، وهي الأصوب؛ لأن قوله بعدها: (وأنت صحيح سوي) لا تتناسب مع فعل (تمسك)، المبني للمعلوم، كما أن الآثار بعدها تدل على ذلك، وكذلك ما رواه الحاكم عن ابن عباس قال: (يُعتقَلُ لسانُك من غير مرض وأنت سوي) "المستدرك" ٢/ ٢٩١ كتاب التفسير. وصححه، ووافقه الذهبي. وروى عن نوف البكالي: (فختم على لسانه ثلاثة أيام ولياليهن، وهو صحيح لا يتكلم). المرجع السابق: ٢/ ٥٩١ كتاب التاريخ، وانظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٨.

قال الحسنُ (١)، وقتادة (٢)، والربيع (٣): أُمسِك لسانُه ثلاثةَ أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلاَّ إيماءً، وجعل ذلك علامةَ حملِ امرأتِه.
و (الرَّمْزُ): الإيماء بالشَّفَتين، والحاجِبَيْن، والعينين؛ يقال: (رَمَزَ، يَرمُزُ، وَيرْمِزُ)، ومنه قيل للفاجرة: (رامِزَةٌ)، و (رمَّازَةٌ) (٤)؛ لأنها تَرمُز وتُومِئ (٥)، ومنه الحديث: أنه (نهى عن كسب الرَّمَّازة) (٦).
(٢) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٦، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٤، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٠، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٠٨.
(٤) (ورمازة): ساقطة من (د).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢١٣، "تأويل مشكل القرآن" ٤٨٩، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٠، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٦٧ (رمز)، "الصحاح" ٣/ ٨٨٠ (رمز).
(٦) الحديث ورد بلفظ آخر، أخرجه البيهقي في "السنن" ٦/ ١٢٦. ولفظه عنده: (عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - ﷺ - عن ثمن الكلب، ومهر الزَّمّارة). وأخرجه البغوي في "شرح السنة" ٨/ ٢٢ - ٢٣ رقم (٢٠٣٨)، عن أبي هريرة بنحوه إلا أنه فيه (.. وكسب الزمّارة). وأخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" ١/ ٢٠٤ بنحوه وذكر محقِّقُ الكتاب في الهامش سندَ الحديث، من نسخة أخرى لكتاب "الغريب". وأورده اليزيدي في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": ١٥٥، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٦٨ (زمر)، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" ٢٠/ ٣١٢. وفي كل المصادر السابقة ورد (الزَّمّارة) بدلا من: الرَّمّازة). وأشار البغوي، وأبو عبيد، وابن الأثير، والأزهري إلى أن الحديث رواه البعض بلفظ: (الرمّازة). وقال أبو عبيد: (قال الحجاج: (الزمّارة): الزانية.. وقال بعضهم: (الرمّازة). وهو عندي خطأ في هذا الموضع. =

قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾. إن (١) قيل: إذا مُنع من (٢) الكلام، واضطُرَّ إلى الإشارة، كيف يقدر على التسبيح؟ قيل (٣): إنَّ الله تعالى حبس لسانه عن التَّكلم بأمور (٤) الدنيا، وما يدور بين الناس، ولم يُحبس لسانه عن التسبيح. فكانت هذه أبلغ في الأعجوبة من أن يُمنع من (٥) كلِّ ما يجري
وورد الحديث بلفظ: (الزمارة) في كتاب "أحاديث ذم الغناء في الميزان" لعبد الله الجديع: ٥٠ - ٥١ وعزا تخريجه للمحاملي في "الأمالي" وابن عدي، وابن طاهر في: كتاب السماع. وأورده في ص: ١٥٥ بلفظ: (أخبث الكسب كسب الزمارة)، وعزا إخراجه لابن أبي الدنيا في: "ذم الملاهي". وذكر الجديعُ إسنادَه، وحكم عليه بأنه ضعيف جدًّا.
(١) في (ج): (أي).
(٢) (من): ساقطة من: (ب).
(٣) في (ج)، (د) (فيقال).
(٤) في (ب): (بكلام).
(٥) في (د): (عن).

به اللسانُ (١).
وقوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ أي: صَلِّ لله تعالى. والصلاة تُسَمَّى تسبيحا (٢)، لأن الصلاة يُوَحَّد فيها الله تعالى، وُينَزَّه، ويُوصف بكلِّ ما يُبَرِّئه من السوء (٣).
و (العَشيُّ): آخر النهار، جمع (عَشِيَّة) (٤). و (الإبكار) مصدر: (أَبْكَرَ:
(٢) في (ج)، (د): (سبحة).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩، فقد نقل عنه المؤلفُ بعض العبارات في تفسيرالتسبيح.
قال الراغبُ: (والتسبيح تنزيه الله تعالى. وأصله: المرُّ السريع في عبادة الله تعالى.. وجُعِل التسبيح عامًّا في العبادات، قولًا كان، أو فعلًا، أو نِيَّة). "مفردات ألفاظ القرآن" ٣٩٢ (سبح). وتفسير التسبيح هنا بالصلاة، قال به مجاهد، ومقاتل. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٦، "زاد المسير" ١/ ٣٨٦.
(٤) قال الخليل: (العَشيُّ: آخر النهار. فإذا قلت: (عَشيَّة) فهي ليوم واحد، تقول: (لقيته عَشِيَّة يوم كذا)، و (عشِيَّة من العشيَّات". كتاب "العين": ٢/ ١٨٨ (عشى). وفي "القاموس" (والعشيُّ، والعَشيَّة: آخر النهار، والجمع: عَشايا، وعَشِيَّات) ص ١٣١١ (عشا). وعند الراغب: أنَّ العشي من زوال الشمس إلى الصباح. وعند الطبري: أن العشي من زوال الشمس إلى المغيب. وقال السمين الحلبي عن هذا القول: (هو المعروف). وعند الجوهري: أن العشي (من صلاة المغرب إلى العتمة، تقول: أتيته عشيَّ أمس، وعشيَّة أمس). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٢، "الصحاح" للجوهري ٦/ ٢٤٢٦ (عشا)، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ٥٦٧ (عشا)، "الدر المصون" ٣/ ١٦٧، "تاج العروس" ١٩/ ٦٧٧ (عشا).

إذا صار في وقت البُكرة (١)، أو سار (٢) فيه، ومثله: (بَكَر)، و (ابتَكَر) (٣)، و (بَكَّر)، قال عمر بن (٤) أبي ربيعة:
أمِنْ آل نُعْمٍ أنت غادٍ (٥) فَمُبْكِرُ (٦)
وقال أيضًا:
أيُّها الرائِحُ المُجِدُّ ابتكارا (٧)
(٢) في (ب): (صار).
(٣) في (د): (فابتكر).
(٤) في (د): (عمرو ابن).
(٥) في (أ)، (ب): (حا)، في (د): (عاد). والمثبت من: (ج) لموافقته للديوان، وبقية المصادر.
(٦) في (ج): (فمنكر)، وفي (د): (فمسكر). البيت في: "ديوانه" ٩٢. وورد في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٢، "المحرر الوجيز" ٣/ ١١١. وتمامه:
غَداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ
و (نُعْم): امرأة من قريش من بني جمَح. و (غادٍ)؛ أي: سائر في وقت الغَداة، وهو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وأراد أول النهار. و (مُبْكِر)، من (التبكير)، وهو: الخروج بُكرةً، وهو: أول النهار. و (مُهَجِّرُ)، من التهجيِر؛ أي: السير في وقت الهاجرة، وهو: نصف النهار، عند زوال الشمس، حال اشتداد الحرِّ. انظر: "القاموس" ص ٣٥٢ (بكر)، ص ١٣١٧ (غدو)، ص ٤٩٥ (هجر).
(٧) من الشعر المنسوب لعمر بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" ٤٩٣ وتمامه:
قَدْ قَضى مِن تِهامة الأوطارا