
وفي الآخرة العذاب كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
ج- دوام هذا العذاب لقوله تعالى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
والخلاصة: ذكرت هذه الآية ثلاثة أوصاف لليهود:
أولها- الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة.
وثانيها- قتل من أظهر آيات الله واستدلّ بها.
وثالثها- قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر «١».
إعراض أهل الكتاب عن حكم الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
الإعراب:
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ كيف: استفهام عن الحال، وهو هاهنا بمعنى التهديد والوعيد، وهي منصوبة بفعل مقدّر، وتقديره: في أي حال يكونون إذا جمعناهم. وإذا: منصوب

على الظرف. ولِيَوْمٍ اللام تتعلق بجمعناهم. ولا رَيْبَ فِيهِ في موضع جرّ صفة ليوم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب من حالهم. نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظّا من التّوراة، والمراد: أحبار اليهود أو اليهود أنفسهم، ومن: إما للتبعيض، وإما للبيان. يُدْعَوْنَ يطلبون، وهو حال والداعي هو النّبي صلّى الله عليه وسلّم كِتابِ اللَّهِ التوراة أو القرآن. لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليفصل بين اليهود. ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض بالبدن أو بالقلب. مُعْرِضُونَ عن قبول حكمه.
ذلِكَ التولي والإعراض. يَفْتَرُونَ يختلقون ويكذبون. لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه، وهو يوم القيامة. ما كَسَبَتْ عملت من خير أو شرّ. وَهُمْ أي الناس. لا يُظْلَمُونَ بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
سبب النزول: نزول الآية (٢٣- ٢٤) :
أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المدراس «١» على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: «على ملّة إبراهيم ودينه»، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«فهلمّا إلى التّوراة، فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى قوله: يَفْتَرُونَ.
المناسبة:
الآيات استمرار في تعداد قبائح اليهود، ولكنها خطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستدعي التّعجب من شأنهم، وهو أنهم يرفضون التّحاكم إلى كتابهم، بدافع الغرور والكبرياء، واغترارهم باتّصال نسبهم بالأنبياء، وزعمهم النّجاة من عذاب الله يوم القيامة، فردّ الله عليهم بأن الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب.

التفسير والبيان:
انظر يا محمد وتعجّب من صنع هؤلاء اليهود الذين يحفظون بعض كتابهم الذي أوحاه الله لنبيّهم موسى عليه السلام، وفقدوا سائره أو حرّفوه وغيّروه لأن التّوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة، وبقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وموضع العجب: أنهم يرفضون قبول حكم كتابهم، حينما زنى بعض أشرافهم، وحكّموا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بمثل حكم التّوراة، فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه. وعمم ابن كثير الآية وجعلها إنكارا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما التّوراة والإنجيل «١».
فإذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم أي بعد تردّد في قبول الحكم، ثم أدبروا وهم معرضون. وفي قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم طائفة متمسكة بالحق كعبد الله بن سلام وغيره، كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٩]. وفي قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم.
ثم ذكر الله تعالى سبب هذا التّولي والإعراض أو العناد والجحود: وهو اعتقادهم النّجاة، فاليهودي يعتقد أنه مهما فعل لن يدخل النار إلا أياما معدودة، ثم يدخل الجنة، فلم يبالوا بارتكاب المعاصي والذنوب، اعتمادا على اتّصال نسبهم بالأنبياء. وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ [البقرة ٢/ ٨٠].
ولم يثبت في عدد الأيام التي يدخلون فيها النار شيء، وقيل: هي أربعون يوما، وهي مدّة عبادتهم للعجل.

وغرهم افتراؤهم في الدين أي خدعهم ما كانوا يختلقونه في الدّين، كقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه، وسيشفع لنا الأنبياء، ونحن أولاد الأنبياء، وشعب الله المختار، وإن الله وعد يعقوب ألا يعذّب أبناءه إلا تحلّة القسم أي مدّة قصيرة.
فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا شك فيه، يوم تتقطع فيه الأنساب، ولا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شرّ، دون نقص، وهم لا يظلمون فلا يزاد في العذاب شيء، كما قال تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
توجب الآيات الالتزام في الأحكام الشرعية وأحكام القضاء بما أمر الله به في كتابه، وتندّد بفعل اليهود وغيرهم الذين إذا دعوا إلى التّحاكم بكتاب الله، وما فيه من اتّباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، تولوا وهم معرضون عن حكم الله. وهذا في غاية ما يكون من ذمّهم ووصفهم بالمخالفة والعناد.
وتندّد الآيات أيضا بمزاعم اليهود أنهم ناجون يوم القيامة من النّار، وأنهم يعتمدون على الأنساب، وكونهم من سلالة الأنبياء، وأنهم شعب الله المختار.
والحقيقة أن الجزاء يكون على قدر العمل من خير أو شرّ.
وفي الآية دليل على أن من دعي إلى مجلس الحاكم ليحكم بينه وبين خصمه بكتاب الله، وجب عليه أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه، فإن لم يجب زجر وعزر.
واستنبط المالكية من الآية أنها تدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا، إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا إذا ثبتت من طريق المسلمين بنقل صحيح. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده