رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين، وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى.
ولما في هذين الجوابين- كيفما كان- التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه: قَدْ كانَ لَكُمْ خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الأمر بناء على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به، وقيل: إنه لجميع الكفرة، وقال بعض أئمة التحقيق: القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ إلخ موقع المسك في الختام، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.
وقرأ ابن مصرف- يرونهم- على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته رَأْيَ الْعَيْنِ مصدر مؤكد- ليرونهم- على تقدير جعلها بصرية- فمثليهم- حينئذ حال، ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية- أي رأيا مثل رأي العين- فمثليهم حينئذ مفعول ثان، وقيل: إن- رأى- منصوب على الظرفية أي في رأي العين وَاللَّهُ المتصف بصفات الجمال والجلال يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ أي بعونه، وقيل: بحجته وليس بالقوى مَنْ يَشاءُ أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من النصر، وقيل: من تلك الرؤية لَعِبْرَةً أي اتعاظا ودلالة، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة لِأُولِي الْأَبْصارِ جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن- الشيطان- والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها. وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل- أقدمني بلدك حق لي عليك- إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به.
والقائل: بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته، وقرأ مجاهد- زين- بالبناء للفاعل ونصب حُبُّ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى، وقيل: مِنَ لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في
معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان،
وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»
ويقال: فيهن، فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن،
وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الولد مبخلة مجبنة»
ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل التغليب وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «القنطار إثنا عشر ألف أوقية»
وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال: «القنطار ألف أوقية».
وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار،
وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار»
وعن معاذ ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبا، وعن مجاهد سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب ثمانون ألفا، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن قتادة قال:
كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات، واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة- كظل ظليل- وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول ك حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: ٢٢ و ٥٣] ونَسْياً مَنْسِيًّا [مريم: ٢٣] وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير، وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي بعضها فوق بعض، وقيل: المدفونة المكنوزة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال الفراء: وربما ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل: إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق وَالْخَيْلِ عطف على النِّساءِ أو الْقَناطِيرِ لا على الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لأنها لا تسمى قنطارا وواحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان- قاله مجاهد- فهي من السما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل- قاله عكرمة- فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة وَالْأَنْعامِ أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل وَالْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا ذلِكَ أي ما زين لهم من المذكور- ولهذا ذكر- وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.
أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: حُسْنُ الْمَآبِ حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذّ الدنيا السريعة الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية- كما قال أبو حيان- وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، والثاني النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا، والمراد من الإنباء الإخبار ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من النساء وما معه، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة والثاني مضمومة كما هنا وكما في سورة ص أَأُنْزِلَ [ص: ٨] وسورة القمر أَأُلْقِيَ [القمر: ٢٥] على خمس مراتب: إحداها مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية مرتبة ورش، وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة مرتبة الكوفيين. وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه: الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه والظرف الأول متعلق بالفعل قبله. والثاني متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة- كما قال أبو البقاء- لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن الذين خبر مقدم، وجَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وعِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالا منها، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه- كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية- وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه. وجوز أن تكون اللام متعلقة- بخبر- أيضا أو بمحذوف صفة له، وجنات- حينئذ خبر لمحذوف- أي- هي جنات- والجملة مبينة- لخير- وعند ربهم- حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص، وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ، واعترض بأنه يقال: عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره- وفي النفس منه شيء- وقرئ- جنات- بكسر التاء وفيه وجهان: أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ- خير- وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل- بخير- تَجْرِي في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة- لجنات- على القراءتين مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تقدم ما فيه خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من المستكن في- للذين- والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في- تحتها- أو من الضمير في- اتقوا- ولا يخفى ما فيه وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا، والعطف على- جنات- على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بدّ من تقدير- لهم- في الكلام وَرِضْوانٌ أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين، وقرأه عاصم- بضم الراء- وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة: ١٦] فإنه بالكسر بالاتفاق، وقيل: المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ، فالعباد على الأول عام
وعلى الثاني خاص، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر- المقرّ- وهو الجنات، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز وجل.
«و
في الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل: من أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين إلخ، وأن يكون في موضع نصب على المدح، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع- للذين اتقوا- نعتا أو بدلا، أو العباد كذلك، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا- بخير- لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال: إنه لدفع توهم الأخبار، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى:
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر الصَّابِرِينَ يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة- للذين- إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح.
والمراد بالصبر- الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن محارمه- قاله قتادة، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس وَالصَّادِقِينَ في نياتهم وأقوالهم سرا- وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا وَالْقانِتِينَ أي المطيعين- قاله ابن جبير- أو المداومين على الطاعة والعبادة- قاله الزجاج- أو القائمين بالواجبات- قاله القاضي- وَالْمُنْفِقِينَ من أموالهم في حق الله تعالى- قاله ابن جبير- أيضا وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ قال مجاهد والكلبي. وغيرهما: أي المصلين بالإسحار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: هم الذين يشهدون صلاة الصبح، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فيقول: لا فيعاود الصلاة فإذا قال: نعم قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح،
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة»
وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية»
والباء في- بالأسحار- بمعنى في، وهي جمع- سحر- بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء- كالسحر- للشيء الخفي. وقال بعضهم: السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع
أجمع،
وفي الصحيح «أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر».
وأخرج ابن جرير. وأحمد عن سعيد الجريري قال: «بلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل أيّ الليل أفضل قال: يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر»
وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها، وقول أبي حيان: لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم.
هذا «ومن باب الاشارة في الآيات» قَدْ كانَ لَكُمْ يا معشر السالكين إلى مقصد الكل آيَةٌ دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا للحرب فِئَةٌ منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه وَأُخْرى منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان كافِرَةٌ ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها مِثْلَيْهِمْ عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة وَاللَّهُ تعالى يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تأييده لقبول استعداده لذلك إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد لعبرة أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية مِنَ النِّساءِ وهي النفوس وَالْبَنِينَ وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة، أو الأصول والفروع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو وَالْأَنْعامِ وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية وَالْحَرْثِ وهو زرع الحرص وطول الأمل ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم.
ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار جَنَّاتٌ جنة يقين. وجنة مكاشفة. وجنة مشاهدة. وجنة رضا. وجنة لا أقولها- وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز وجل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب خالِدِينَ فِيها ببقائهم بعد فنائهم وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات الإلهية وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ لا يقدر قدره وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا بأنوار أفعالك وصفاتك فَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجوداتنا بذاتك وَقِنا عَذابَ نار الحرمان ووجود البقية الصَّابِرِينَ على مضض المجاهدة والرياضة وَالصَّادِقِينَ في المحبة والإرادة وَالْقانِتِينَ في السلوك إليه وَالْمُنْفِقِينَ ما عداه فيه وَالْمُسْتَغْفِرِينَ من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات، ويقال: الصَّابِرِينَ الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى وَالصَّادِقِينَ الذين صدقوا في الطلب فوردوا، ثم صدقوا فشهدوا، ثم صدقوا فوجدوا، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد. ثم ورود. ثم شهود. ثم وجود.
ثم خمود وَالْقانِتِينَ الذين لازموا الباب وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب وَالْمُنْفِقِينَ الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، ثم جادوا بميسورهم من الأموال، ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال، ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه
«هل من سائل. هل من مستغفر. هل من كذا. هل من كذا»
ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
قال الكلبي: لما «ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا: أنت أحمد؟ قال: نعم قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سلاني فقالا له: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما.
وقيل: نزلت في نصارى نجران لما حاجّوا في أمر عيسى عليه السلام وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار- ويميل إليه كلام محمد ابن جعفر بن الزبير- وقيل: نزلت في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية، وقيل: إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت.
والجمهور على قراءة شَهِدَ بلفظ الماضي وفتح همزة أَنَّهُ على معنى بأنه أو على أنه، وقرئ «إنه» بكسر الهمزة إما بإجزاء شَهِدَ مجرى قال، وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على إِنَّ الدِّينَ إلخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع اليه تعالى، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرئ- شهداء لله- بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد- كظرفاء- في جمع ظريف، أو جمع شاهد- كشعراء- في جمع شاعر، والنصب إما على الحالية من المذكورين، وإما على المدح، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء، والاسم الجليل في الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده، وقرئ- شهداء الله- بالرفع والإضافة. وفي شَهِدَ مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك- كسورة الإخلاص، وآية الكرسي- وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم، وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ شَهِدَ مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه، ولعل القول بعموم المجاز أولى منه، وقيل: والمراد- بأولو العلم- الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: علماء مؤمني الكتاب، وقيل:
جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة، وقدم- الملائكة- لأن فيهم من هو واسطة لإفادة العلم لذويه، وقيل: لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم ضروري واكتسابي، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي وَالْمَلائِكَةُ
وَأُولُوا الْعِلْمِ شهداء بذلك، وقيل: بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل، واعترض بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولو العلم- وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى.
وقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته، والقسط- العدل، والباء للتعدية أي مقيما بالعدل، وفي انتصاب قائِماً وجوه: الأول أن يكون حالا لازمة من فاعل شَهِدَ ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذ قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية، ومنه وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: ٧٢] وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به، والثاني أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا، والثالث أن يكون وصفا لاسم- لا- المبني، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه، والمعطوف على فاعل شَهِدَ أجنبي مما هو في صلة- أن- لفظا ومعنى، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم- لا- رفعا للالتباس.
والرابع أن يكون مفعول العلم أي وَأُولُوا المعرفة قائِماً بِالْقِسْطِ ولا يخفى بعده، الخامس- ولعله الأوجه- أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة.
وقرأ عبد الله- القائم بالقسط- على أنه خبر لمبتدأ محذوف وكونه بدلا من هُوَ لا يخلو عن شيء، وقرأ أبو حنيفة: «قيما بالقسط» لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تكرير للمشهود به للتأكيد، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنه المنعوت بهما، وقيل: لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده، والثاني شهادة الملائكة، وأولي العلم، وهو ظاهر عند من يرفع- الملائكة- بفعل مضمر، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها الْعَزِيزُ على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها الْحَكِيمُ، وجعل بعضهم الْعَزِيزُ ناظرا إلى قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْحَكِيمُ ناظرا إلى قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ ورفعهما على الخبرية لمبتدأ محذوف أو البدلية من هُوَ أو الوصفية له بناء على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير الغائب، وجعلهما نعتا لفاعل شَهِدَ بعيد، وقد روى في فضل الآية أخبار.
أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا «لما نزلت الحمد لله رب العالمين. وآية الكرسي. وشهد الله وقل اللهم مالك الملك- إلى بغير حساب- تعلقن بالعرش وقلن: أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة».
وأخرج ابن عدي، والطبراني، والبيهقي- وضعفه- والخطيب، وابن النجار عن غالب القطان قال «أتيت الكوفة
فنزلت قريبا من الأعمس فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام بتهجد من الليل فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ إلخ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت: لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وروي عن سعيد بن جبير «أنه كان حول المدينة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة».
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للأولى، وتعريف الجزئين للحصر- أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام- وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة «شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به».
وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل،
وقرأ أبيّ- إن الدين عند الله للإسلام- والكسائي- أن الدين- بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا، وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للايمان والإقرار بالوحدانية، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها، وقيد كون الدين الإسلام بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والأوقات، ولا يخفى ما فيه، أو على أن شَهِدَ واقع عليه على تقدير قراءة- إنه- بالكسر كما أشير إليه، وعِنْدَ على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه الجملة، وقيل: متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أي- إن الدين المرضي عند الله الإسلام- وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الدين، وقيل: متعلق به، وقيل: متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت عند الله، وأرى الكل ليس بشيء «أما الأول» فلأنه خلاف القاعدة المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات، وأما الثاني فلأن المشهور أن إِنَّ لا تعمل في الحال، وأما الثالث فلأنه لا وجه للتعلق بلفظ الدِّينَ إلا أن يكتفى بأنه في الأضل بمعنى الجزاء، وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغني عنه أظهر من أن يخفى، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا صلّى الله عليه وسلم، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام،
أخرج ابن جرير عن الربيع قال: «إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم»،
وقيل:
النصارى، واختلفوا في التوحيد. وقيل: المراد بالموصول اليهود والنصارى، وبالكتاب- الجنس، واختلفوا في
التوحيد، وقيل: في نبوته صلّى الله عليه وسلم، وقيل: في الإيمان بالأنبياء، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح، وقوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي، وقوله سبحانه:
بَغْياً بَيْنَهُمْ زيادة تشنيع، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه مَا وإِلَّا من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبا، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناء على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول: ما ضرب إلا زيد عمرا- أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ قيل: المراد بها حججه، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام، والظاهر العموم أي أية آية كانت، والمراد- بمن- أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط علة له- أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب- فإنه سريع الحساب- أي يأتي حسابه عن قريب. أو يتم ذلك بسرعة، وقيل: إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير، ولعله أولى وأدق نظرا.
وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدّة عقابهم فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج، والضمير- للذين أوتوا الكتاب- من اليهود والنصارى- قاله الحسن- وقال أبو مسلم: لجميع الناس، وقيل: وفد نصارى نجران وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي لِلَّهِ لا أشرك به غيره، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي خالدوا به أمر مكشوف، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم، وقيل: إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال:
هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية. والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات، ونظير ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: ٦٤] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ٧٩] فكأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحظ مقدارهم، وعبر عن الجملة- بالوجه- لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء، وفتح الياء نافع.
وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المتصل في أَسْلَمْتُ وحسن للفصل. أو
مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح- أكلت رغيفا وزيدا وو زيدا، وقد أكل كل منهما رغيفا، فالواجب أن يكون- من- متبدأ والخبر محذوف أي وَمَنِ اتَّبَعَنِ كذلك، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلّى الله عليه وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مؤونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا، وأثبت الياء في- اتبعني- على الأصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون- وحذفها أحسن- لموافقة خط المصحف، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى:
فهل يمنعني ارتيادي البلا | د من حذر الموت أن (يأتين) |
فَإِنْ أَسْلَمُوا أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق فَقَدِ اهْتَدَوْا على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا: وسبب إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء، وفيه منع ظاهر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أية آية كانت، ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقيقة الإسلام دخولا أوليا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا معنى لإنذار الماضين قال القطب: وإسناد القتل إليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين: أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا سيما إذا كان راضيا به، الثاني أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت- أل- هنا دون ما سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر.
وقرأ الحسن «يقتلون النبيين» وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أي بالعدل، ولعل تكرير الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت،
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر- ثم قرأ الآية- ثم قال صلّى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من صفحة رقم 105
ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى»
وقرأ حمزة- «ويقاتلون الذين» - وقرأ عبد الله- «وقاتلوا» - وقرأ أبيّ- «ويقتلون النبيين» و «الذين يأمرون» - فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير- كليت، ولعل- امتنع ذلك إجماعا- وسيبويه، والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما في قولك زيد- فافهم- رجل صالح، وقد صرح به النحاة في قوله:
فاعلم- فعلم المرء ينفعه | أن سوف يأتي كل ما قدرا |
ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين، وجمع- الناصر- لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعي أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء- الناصرين- انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: ٢٧٠، آل عمران: ١٩٢، المائدة: ٧٢] إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق- على ما أشار إليه الحديث- ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه.
ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء الكفر بالعذاب، وقتل الأنبياء بحبط الأعمال. وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ تعجب للنبي صلّى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم. وقيل: إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد بالموصول اليهود- وبالنصيب- الحظ، ومِنَ إما للتبعيض وإما للبيان على معنى نَصِيباً هو الكتاب، أو نصيب منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في الْكِتابِ للعهد، والمراد به التوراة- وهو المروي عن كثير من السلف- والتنوين للتكثير، وجوز أن يكون اللام في الْكِتابِ للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون للجنس وعليه- النصيب- التوراة، ومِنَ للابتداء في الأول ويحتملها، والتبعيض في الثاني والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد- بالنصيب- ما حصل لهم من العلم أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه صفحة رقم 106
بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حق من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها، وقوله تعالى:
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب، وإما حال من الموصول. والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، والإضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره.
وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، الحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال:
على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وفي البحر «زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنما أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن ابن جريج- وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا
- وذهب الحسن. وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قيل: أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا- وهم اليهود- وبين الداعي لهم- وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه السلام. أو في حكم الرجم. أو في شأن الإسلام. أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق، وعلى هذا- وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول- وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون، وثُمَّ للتراخي الرتبي، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه، ومِنْهُمْ صفة لفريق، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل: وهذا سبب العدول عن- ثم يتولون- وقيل:
الذين لم يسلموا، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر وَهُمْ مُعْرِضُونَ جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في مِنْهُمْ أو من فَرِيقٌ لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والاعراض بمعنى، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناء على ما قيل: إن التولي عن الداعي والاعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والأعراض بالقلب. أو الأول كان من العلماء.
والثاني من أتباعهم، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة، والمراد وهم قوم ديدنهم الاعراض، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها ذلِكَ أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب، والمراد- بالأيام المعدودات- أيام عبادتهم العجل، وجاء هنا مَعْدُوداتٍ بصيغة الجمع دون ما في البقرة فإنه مَعْدُودَةً [البقرة:
٨٠] بصيغة المفرد تفننا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفة وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ
أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ- قاله مجاهد- أو من قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة: ١٨]- قاله قتادة- أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: «إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق- بما عنده- أو- بيفترون- واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله وأجيب بالتوسع فَكَيْفَ استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف- أي كيف تكون حالهم- أو كيف يصنعون أو كيف يكونون، وجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم، وقوله تعالى: إِذا جَمَعْناهُمْ ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل في إِذا ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم لِيَوْمٍ أي في يوم أو لجزاء يوم. لا رَيْبَ فِيهِ أي في وقوعه ووقوع ما فيه، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي ما عملت من خير أو شر، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته، وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى، وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنظيم هذه الآية الكريمة بما قبلها.
روى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي، وحذيفة، والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سليمان إرق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن تعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلّى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: ١٢] وأنزل هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ إلخ،
وأصل اللَّهُمَّ- يا الله- فحذفت «يا» وعوض عنها- الميم- وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع- يا- كما في قوله:
إني إذا ما حدث ألمّا | أقول- (يا اللهم) - يا اللهما |
الْمُلْكِ وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتي- وإن اختاره أبو البقاء- ليس فيه كثير نفع وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ عطف على تُؤْتِي وحكمة حكمه، ومفعول تَشاءُ في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه ممن تشاء نزعه منه، والْمُلْكِ الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس. أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتي لا يمكن أن يكون الجميع والمنزع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم يمنع مانع عن الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول.
ومن الناس من حمل الْمُلْكِ هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتي النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلّى الله عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكبي، وقيل: تنزعه من صناديد قريش وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أن تعزه في الدنيا والآخرة. أو فيهما بالنصر والتوفيق وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير، وقيل: المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وَتُذِلُّ أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تُعِزُّ المهاجرين والأنصار وَتُذِلُّ فارس والروم، وقيل: تُعِزُّ المؤمنين بالظفر والغنيمة وَتُذِلُّ اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تُعِزُّ بالإخلاص وَتُذِلُّ بالرياء، وقيل: تُعِزُّ الأحباب بالجنة والرؤية وَتُذِلُّ الأعداء بالنار والحجاب وقيل:
تُعِزُّ بالقناعة والرضا وَتُذِلُّ بالحرص والطمع «وقيل: وقيل:» وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، وتُعِزُّ مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه- عز- ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله:
يا قارئا كتب الآداب كن يقظا | وحرر الفرق في الأفعال نحريرا |
«عز» المضاعف يأتي في مضارعه | تثليث عين بفرق جاء مشهورا |
فما كقل وضد «الذل» مع عظم | كذا كرمت علينا جاء مكسورا |
وما- كعز- علينا الحال أي صعبت | فافتح مضارعه إن كنت نحريرا |
وهذه الخمسة الأفعال لازمة | واضمم مضارع فعل ليس مقصورا |
«عززت» زيدا بمعنى قد غلبت كذا | أعنته فكلا ذا جاء مأثورا |
إذا كنت في ذكر القنوت ولا | «يعز» يا رب من عاديت مكسورا |
واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا | لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا |