
الثاني: أن المدعُوَّ به في الآخرة سريعٌ وقوعه وإن كان في ظنِّ الكافرين بطيئاً حصوله.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
الصبر أعمُّ من المصابرة، إذ كان يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعل واحد، والمصابرة، يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعلان متقابلان.
والصبر: حبس النفس على ما يحمد،

وعما يُذمُّ، ولهذا قيل: هو اسم لأعم الفضائل.
وله ثلاث منازل:
إمساك الجوارح الظاهرة عن الإِقدام على ما يُكره.
وإمساك اللسان عن إظهار التألُم منه.
وإمساك القوى عن تحرُّكها بالتألُم منه.
وهذه منزلة الصدّيقين.
والمصابرة ضربان:
مصابرة العِدى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية.
ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل.
وهي عظماهما، والمرابطة كذلك على ضربين:

مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابطة النفس البدن، فإنها كمن أُقيم في
ثغر، وفُوِّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مُخل به إلى أن
يُعزَل عنه أو يُستردّ منه، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من
قال: اصبروا في أنفسكم، وصابروا عدوكم، ورابطوا الثغور.
وقول من قال: اصبروا بجوارحكم على الطاعة، وصابروا
بقلوبكم مع الله، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة، وقد نبّه

على - عموم ذلك النبي - ﷺ -، حيث قال:
"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة".
إن قيل: كيف أخّر ذكر التقوى؟
قيل: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى.
وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله، وذلك لا يكون إلا بعد هذه
الأشياء، وكأنه قال: إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا
الفلاح، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة.
فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة، قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتركوا
القبائح له، فبتركها تُدرك هذه الثلاث، ويكون الفلاح عبارة

عن هذه الثلاث، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدم، وعلى
الأول متأخر. والله أعلم.