آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وجعله قيمًا لا عوج فيه مستقيمًا، ودعا إلى اتباعه، والسير على منهاجه.
وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، القائل: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وأشهد أن محمدا عبد اللَّه ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وعلم الأمة القرآن، وقال: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (١)، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فالتفسير من أجل العلوم قدرًا، وأعلاها شرفًا وذكرا، وأعظمها أجرا، وأسناها منقبة، يملأ العيون نورًا، والقلوب سرورًا، والصدور انشراحًا، ويفيد الأمور اتساعًا وانفتاحًا، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه، ولا يبلى على طول الزمان عزهُ، به تتعلق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ لذا كان أولى بالالتفات إليه، وأجدر بالاعتماد عليه؛ وكيف لا؟ وهو يتعلق بتفسير أعظم كتاب، وأضبط كتاب، وأهدى كتاب؛ القرآن الكريم الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢).
ولقد قام سلفنا الصالح من كبار العلماء العاملين بجهود عظيمة في مجال تفسير القرآن الكريم، فعبدوا طرقه، ويسروا صعبه، وبينوا مسائله، راجين مرضاة اللَّه، طالبين رضاه، ملتمسين عفوه ومغفرته.
ومما لا شك فيهه أن دراسة التراث التفسيري متمثلا في تحقيق أمهات كتب التفسير، والعناية بها، والاطلاع عليها - يسهم كل ذلك بحظ وافر في التعرف على كتاب الله العظيم، وتفهم آياته، ومعرفة تعاليمه؛ مما ييسر العمل به. أضف إلى ذلك: التعرف على هذا التراث الضخم، والثروة التفسيرية الهائلة الكاشفة عن جهود علمائنا الأجلاء في خدمة القرآن الكويم.
لكل هذا آثرنا تحقيق كتاب " تأويلات أهل السنة " لأبي منصور الماتريدي؛ وذلك لأهمية هذا الكتاب في استخلاص مسائل العقيدة من آي الذكر الحكيم، وأيضًا لأن هذا
_______
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٦٩٢) في كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٥٠٢٧) (٥٠٢٨)، وأخرجه أبو داود برقم (١٤٢٥)، والترمذي برقم (٩٠٧، ٩٠٨، ٩٠٩)، وابن ماجة برقم (٢١١)، والدارمي (٢//٤٣٧)، وأحمد في المسند (١/ ٥٨، ٦٩).

صفحة رقم 3

الكتاب غير معروف عند كثير من الناس رغم أهميته، ومؤلفه أيضًا عالم فذ يحتاج من المحققين والدارسين الالتفات إليه، ومن ثم حاولنا أن نسهم بجهد متواضع بتحقيق هذا الكتاب؛ للوصول إلى هدفنا المنشود.
ويشتمل تحقيق الكتاب على: مقدمة وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وفهارس مفصلة.
فأما المقدمة فتشتمل على: المنهج المتبع في تحقيق الكتاب.
وأما التمهيد فيشتمل على:
أولا: التعريف بعصر الماتريدي من الناحية: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والعلمية، والثقافية.
ثانيا: التعريف بالماتريدي: مولده ونشأته، ونسبه، ووفاته.
ثالثا: التعريف بشيوخ الماتريدي وتلاميذه.
رابعا: قيمة الماتريدي العلمية من خلال بيان أبرز مصنفاته.
خامسا: منزلة تفسير " تأويلات أهل السنة " بين مصنفات الماتريدي.
الباب الأول: القسم الدراسي، ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره.
الفصل الثاني: المدارس التفسيرية.
الفصل الثالث: المناهج التفسيرية القديمة والحديثة.
الفصل الرابع: انتماء الماتريدي التفسيري.
الفصل الخامس: بذور التجديد في تفسير الماتريدي.
الفصل السادس: منهج الماتريدي في التفسير.
الفصل السابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه من خلال تفسيره:
- في التفسير.
- في العقيدة.
- في الفقه.
- في علوم اللغة.
الفصل الثامن: تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده إلى العصر الحاضر من خلال تفسيره.

صفحة رقم 4

- في التفسير.
- في العقيدة.
- في الفقه.
- في علوم اللغة.
الفصل التاسع: القضايا العلمية التي تناولها الماتريدي في تفسيره.
- القضايا العقدية والكلامية.
- القضايا الفقهية.
- القضايا اللغوية والبلاغية.
الباب الثاني: القسم التحقيقي.
وعملي فيه على النحو التالي:
١ - نسخ المخطوط مع الالتزام بالإملاء والترقيم الحديث.
٢ - مقابلة النسخة التي ستكون أصلا بالنسخ الخطية الأخرى للكتاب مع إثبات الفروق في هامش الكتاب.
٣ - ضبط النص وسد ما فيه من خلل.
٤ - تشكيل الأحاديث النبوية تشكيلاً حرفيا.
٥ - تشكيل الكلمات الغريبة في النص.
٦ - وضع الآيات التي يفسرها المؤلف وضعًا إجماليا في بداية التفسير مع ترقيمها هكذا: قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣).
٧ - ترقيم الآيات القرآنية المستشهد بها في تفسير الآية مع تخريجها.
٨ - تخريج الأحاديث النبوية واتبعنا فيها المنهج التالي:
أولاً: إذا كان الحديث في الكتب التسعة قمت بتخريجه منها، مع بيان الحكم على الحديث.

صفحة رقم 5

ثانيًا: إذا لم يكن الحديث في البخاري ومسلم أشرت إلى الحديث من حيث الصحة والضعف نقلاً عن أئمة هذا الفن.
ثالثا: إذا لم يكن الحديث في الكتب التسعة خرجته من باقي كتب السنة مع بيان الصحة والضعف.
٩ - تخريج الآثار وعزوها إلى مظانها مع بيان الراجح منها.
١٥ - توثيق الأقوال والنقول الواردة في الكتاب.
١١ - توضيح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الحديث وغريب القرآن.
١٢ - تراجم الأعلام الوادة في الكتاب مع توثيق الترجمة بمصدرين أو أكثر.
١٣ - التعريف بالأماكن والقبائل والبلدان.
١٤ - شرح المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في الكتاب، مع بيان الاصطلاحات المشهورة في كل فن.
١٥ - الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ وتوثيق ما يحتاج إلى توثيق.
١٦ - الرجوع إلى كتب معاني القرآن.
١٧ - الرجوع إلى كتب البلاغة.
١٨ - الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وتوثيق القراءات الواردة في النص مع ضبطها.
١٩ - التعليق على بعض المسائل الفقهية، مع بيان الراجح من المرجوح، وأدلة كل فريق مع الترجيح.
٢٠ - التعليق على بعض المسائل الأصولية، وبيان أدلة كل فريق، مع التوثيق.
٢١ - التعليق على بعض المسائل العقائدية وبيان مذهب السلف الصالح.
٢٢ - تتبع الدخيل الموجود في تفسير المؤلف، مع بيان وجه ضعفه.
وبهذا نكون قد وضعنا القارئ على بينة من المنهج المتبع في تحقيق الكتاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *

صفحة رقم 6

الباب الأول
عصر الماتريدي
ويشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: قيام الدولة العباسية.
الفصل الثاني: أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية.
الفصل الثالث: ظاهرة الدولة المستقلة في الشرق الإسلامي.
الفصل الرابع: نظام الحكم في الدولة العباسية.
الفصل الخامس: الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي.
الفصل السادس: الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.

صفحة رقم 7

الفصل الأول
قيام الدولة العباسية
تمخضت الأحداث المتلاحقة التي اعتورت المسلمين منذ عهد الشهيد عثمان - رضي اللَّه عنه - عن مذاهب سياسية عدة، كان أعظمها خطرًا في التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية الحزب الشيعي، فهو أقدم الأحزاب الإسلامية على الإطلاق، حيث ظهر في آخر عصر عثمان، ونما واشتد عوده منذ عهد علي بن أبي طالب، وغدا ذا أثر كبير في توجيه مسار الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.
وقد أجمع الشيعة على أن علي بن أبي طالب هو الخليفة المختار من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنه أفضل الصحابة، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
كما رأى الشيعة في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان بالخلافة افتئاتًا على حق علي في الخلافة، كما ساءهم جدًّا أن يستوي معاوية على كرسيها، وعدُّوا ذلك جورًا وظلمًا حاق بعلي وآله ولابد من رفعه.
وتباينت مواقف الشيعة من علي، واختلفت آراؤهم فيه، فالمقتصدون منهم قدَّموه على جميع الصحابة دون تكفير أحد منهم، ودون السمو به إلى مرتبة النبوة، أما المغالون فرفعوه إلى درجة النبوة والتقديس.
على أن المغالين والمقتصدين جمع بينهم الإيمان بحق علي وبنيه في الخلافة، وعملوا منذ بداية العصر الأموي على تحويل الخلافة إلى البيت العلوي.
وبعد أن استشهد الحسين في كربلاء، انتشر التشيع في أنحاء الدولة الإسلامية ونادى فريق الشيعة بعلي زين العابدين بن الحسين بن علي إمامًا، وعرف هَؤُلَاءِ بالشيعة الإمامية، بينما قام فريق آخر يتزعمه المختار بن عبيد الثقفي، وقائد حرسه أبو عمرو بن كيسان -وكان من موالي الفرس- بالدعوة لمُحَمَّد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية - نسبة إلى أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي- مؤلفًا فرقة من غلاة الشيعة نسبت إلى المختار بن عبيد الثقفي مرة وعرفت بالمختارية، وإلى صاحب شرطته وحرسه مرة ثانية

صفحة رقم 9

وعرفت بالكيسانية، وإلى أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن الحنفية مرة ثالثة، وعرفت بالهاشمية.
وإذا كان مُحَمَّد بن الحنفية زاهدًا في الخلافة معرضًا عنها، بدليل أنه بايع عبد الملك ابن مروان راضيًا، فإن ولده أبا هاشم عبد اللَّه رأى أن لآل علي حقًّا فيها؛ فجعل يسعى للدعوة سرًّا إلى الخلافة.
وأحس سليمان بن عبد الملك بما يدبره أبو هاشم، وبتطلعه إلى الخلافة لا سيما بعد أن آنس منه علمًا واسعًا وذكاءً متقدًا، فأرسل من دس له السم عند عودته من الشام، فلما أحس أبو هاشم بدنو أجله آثر أن يتوجه إلى الحميمة للإقامة لدى علي بن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده، وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده.
ولا ريب أن أبا هاشم قد أبلغ شيعته ودعاته قبل وفاته أن أمر الخلافة مصروف إلى مُحَمَّد بن علي العباسي، وأمرهم بطاعته والإذعان له.
وكذلك فإن أبا هاشم قد أمد مُحَمَّد بن علي بأسماء الدعاة للشيعة في الكوفة وخراسان وسلمه كتبًا إليهم حتى يطمئنوا له.
" وعلى أساس هذه الوصية ورث مُحَمَّد بن علي العباسي حق الكيسانية في الإمامة، فما كاد أبو هاشم يموت حتى قصده الشيعة وبايعوه ثم عادوا إلى مراكزهم، وبدءوا في نشر الدعوة لمُحَمَّد بن علي العباسي عن طريق الدعاة ".
وخليق بنا أن نتساءل: لماذا عدل أبو هاشم عن أهل بيته من العلويين، وحَوَّل حقهم في الخلافة إلى بني عمه من العباسيين؟
يقول د / حسن إبراهيم حسن: " لكي نجيب على هذا السؤال نرجع إلى الوراء قليلاً فنقول: إنه منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يرشح المسلمون للخلافة أحدًا من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب وأولاده، ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته؛ لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام؛ ومن ثم لم يرشَّح للخلافة هو ولا أولاده من بعده، وقد

صفحة رقم 10

قيل: إن أبا سفيان جاء العباس بعد بيعة أبي بكر فقال له: ابسط يدك أبايعك، فأَبى العباس. وكانت العلاقة بين بني -هاشم علويين وعباسيين- تقوم على الود والصفاء، وكان البيتان متحدين على العدو المشترك من بني أمية، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية.
ويظهر أن العباسيين كانوا في أواخر القرن الأول الهجري أكثر كفاية ونشاطًا في الناحية السياسية من العلويين، وأكثر تطلعًا منهم إلى النفوذ والسلطان.
وقد قيل: إن أبا هاشم إنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوي من يستطيع النهوض بأعباء إمامة المسلمين، أضف إلى ذلك اختلاف اعتقاد الشيعة الكيسانية (أنصار أبي هاشم) عن اعتقاد الشيعة الإمامية (أنصار أولاد فاطمة).
على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة، وهي أن نزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية عن حقه في الخلافة لا يمكن أن يعتبر نزولاً من العلويين جميعًا؛ لأن فريقًا كبيرًا منهم ظل متمسكًا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم ".
تنظيم الدعوة العباسية:
أدرك مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه العباسي أن تحويل الدعوة إلى الخلافة من البيت العلوي إلى البيت العباسي على هذا النحو المفاجئ قد يقضي على الدعوة قضاء لا قيام لها بعده، فآثر أن يمهد لذلك بتهيئة النفوس والعقول، بأن اختار لدعوته شعارًا تتستر وراءه، ويضمن انضمام العباسيين والعلويين جميعًا إليه، وهو " الرضا من آل مُحَمَّد "، ويقصد به أي شخص من آل البيت النبوي يتفق عليه في الوقت المناسب؛ درءًا وتقية لما قد يصيب الدعوة من أخطار إذا ما اكتشفت السلطات الأموية سرها، وفي الوقت نفسه كسبًا لأنصار جدد من شيعة فارس الذين كانوا يميلون -سواء عن إيمان عقائدي راسخ أو بدافع من الشعور القومي- للعلويين، وزيادة في تعمية الأمر على الأمويين والعلويين وتجنبًا لإثارة الشبهات في نواياه الحقيقية.
مراكز الدعوة العباسية:
اتخذ مُحَمَّد بن علي العباسي الكوفة وخراسان مركزين لنشر الدعوة العباسية وبث مبادئها وأهدافها، أما الكوفة فلأنها مهد التشيع ومستقر أنصار آل البيت، وأما خراسان

صفحة رقم 11

فلما كان يعانيه الموالي الفرس من عسف الأمويين وجورهم، بالإضافة إلى اعتقادهم في نظرية الحق الملكي المقدس التي سادت الفكر الفارسي منذ أمد بعيد.
يقول الإمام مُحَمَّد بن علي العباسي مصورًا طبيعة الأمصار الإسلامية ونوع الأهواء والأفكار السائدة بها آنذاك: " أما الكوفة فشيعة علي، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية، وأعراب لأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية وطاعة بني أمية، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجسام منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.
ولم يكد القرن الهجري الأول ينتهي حتى انطلقت الدعوة السرية للبيت العباسي من الحميمة وأخذ مُحَمَّد بن علي العباسي يوجه الدعاة في الآفاق فكان للعراق دعاة على التوالي هم: ميسرة العبدي (١٠٢) - (١٠٥ هـ)، وبكير بن ماهان (١٠٥) - (١٢٧ هـ) ثم أبو سلمة الخلال (١٢٧ - ١٣٢ هـ). كما وجه الدعاة إلى خراسَان وكان أولهم أبو عكرمة السراج.
" ويلي طبقة الدعاة في المرتبة طائفة النقباء الذين يأتمرون بأمرهم، ويجهلون إمام الوقت، وكان لكل داعية اثنا عشر نقيبًا، ولكل نقيب سبعون عاملا يديرون الوحدات المتفرعة، ويشرفون على الخلايا السرية المنبثة في مختلف الأقاليم، وكان الدعاة والنقباء يتميزون بإخلاصهم الشديد للدعوة وتفانيهم في خدمتها، كما كانوا يتصفون ببعد النظر والقدرة على فهم تقسيمات الناس، وتمييز عناصرهم؛ تمهيدًا لاجتذابهم إلى دعوتهم، وبالبراعة في التخفي والتنكر، مع حظ كبير من الثقافة والعلوم الدِّينية واللغوية ".
نجاح الدعوة في العراق:
لعب بكير بن ماهان الذي ولي أمر الدعوة العباسية في العراق دورًا كبيرًا في تاريخ الدعوة العباسية على مدار اثنين وعشرين عامًا، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الدعوة في

صفحة رقم 12

إطار من السرية الشديدة والحيطة الحذِرة.
ثم خلفه أبو سلمة الخلال وكان سمحًا كريمًا فصيحًا عالمًا بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير، وقد نهض بأمر الدعوة في طورها العسكري العنيف.
ودرج المؤرخون على تقسيم الدعوة العباسية إلى طورين متعاقبين مرت بهما.
أما الأولى: فتبدأ مع مطلع القرن الثاني الهجري وتنتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني إليها، ولم تصطنع الدعوة العباسية في هذا الطور أسلوب العنف والشدة، وإنما جنحت إلى الدعوة السلمية التي امتازت بشيء غير قليل من السرية والكتمان؛ إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج.
أما الطور الثاني: فيبدأ بانضمام أبي مسلم الخراساني إلى الدعوة العباسية، وهو الطور الذي نشبت فيه الحروب بين بني أمية وبني عباس، والتي أفضت إلى زوال السيادة الأموية وقيام الدولة العباسية.
الدعوة في خراسان:
لقيت الدعوة العباسية في خراسان شيئًا غير قليل من العنت والمحن إبان ولاية أسد بن عبد اللَّه القسري، على الرغم مما حرص عليه الدعاة من إضفاء السرية عليها.
ولم يكتب للدعوة في خراسان الذيوع والانتشار إلا بعد وفاة أسد بن عبد اللَّه سنة ١٢٠ هـ، وعمد الدعاة في خراسان إلى جملة مبادئ وشعارات، وجدوا أن إذاعتها وترديدها جدير بأن يجذب العرب والموالي الفرس جميعًا إلى الدعوة العباسية كتحقيق مبدأ المساواة الذي كانت تتستر وراءه نزعات متباينة، والذي أيده جماعات كبيرة من الشعوبيين العجم؛ لأنه يحقق لهم مكاسب تهدف إلى إحياء المجد الفارسي القديم، كما أيده آخرون من العرب على أساس تسوية الموالي بالعرب؛ استنادًا إلى مبدأ الفقهاء في

صفحة رقم 13

الإصلاح ومحاربة الظلم والتعسف، كذلك طالب الدعاة بالدعوة إلى الإصلاح، ويقصد به الدعوة إلى الكتاب والسنة. وقد أدت هذه الشعارات إلى ازدياد عدد المؤيدين للدعوة في خراسان للرضا من آل مُحَمَّد، وانتشارها في بلاد فارس وخراسان وخوارزم وبلاد ما وراء النهر ".
سقوط الدولة الأموية:
توفي الإمام مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه حامل لواء الدعوة العباسية سنة ١٢٥ هـ بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه إبراهيم.
وفي عهد إبراهيم دخلت الدعوة العباسية طور الصدام الحربي مع الأمويين، وقيض لها شخصيّتان بارزتان يرجع إليهما الفضل الأكبر في نجاح الدعوة العباسية، هما: أبو سلمة الخلال الذي تولى رئاسة الدعوة خلفًا لبكير بن ماهان، وأبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش العباسية إلى النصر والقضاء على الدولة الأموية.
إذ لم تدم السرية التي أسبغها العباسيون على دعوتهم، بل أميط عنها اللثام في عهد مروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية (١٢٧ - ١٣٢ هـ) حيث وقَعَ على رسالة لإبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني، فقبض مروان على إبراهيم، وسجنه ثم قتله.
وكان إبراهيم قد عهد إلى أخيه أبي العباس السفاح وأوصاه بمواصلة الدعوة والمسير إلى الكوفة، فلما قتل إبراهيم الإمام سار رسوله إلى الحميمة وسلم وصيته إلى أبي العباس الذي توجه إلى الكوفة ومعه كبار بني هاشم من ولد العباس، وفيهم أخوه أبو جعفر المنصور حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال داعي الدعاة في دارٍ لأحد أتباعه وكتم أمرهم نحوًا من أربعين ليلة، وحاول أن يصرف الأمر إلى آل علي بن أبي طالب عندما بلغه نبأ وفاة إبراهيم الإمام ولكنه أخفق في هذه المحاولة، واضطر إلى مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة.
ولم يستطع والي الكوفة آنذاك مُحَمَّد بن خالد بن عبد اللَّه القسري مواجهة العباسيين

صفحة رقم 14

والقضاء على دعوتهم في الكوفة؛ فاضطر إلى تسليمها والإذعان لأصحاب الدولة الجديدة.
وفي الجامع الأموي بويع لأبي العباس بالخلافة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة ١٣٢ هـ.
ثم خطب خطبة مدح فيها آل البيت وقرر حق العباسيين في الخلافة، ثم سب الأمويين الذين استأثروا بالأمر دون أهله وذويه، ثم أثنى على أهل الكوفة قائلاً: " يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم اللَّه بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير ".
ثم خرج العباس بعد الخطبة إلى معسكر أبي سلمة حيث أقام شهرًا، ثم ارتحل من هناك، فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة.
وعلى هذا النحو خرجت الدولة العباسية إلى الوجود السياسي الإسلامي، وقضي على الأمويين قضاءً سوف نعرف طرفًا منه في الفصل القادم.
* * *

صفحة رقم 15

الفصل الثاني
أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية حتى دخول البويهيين بغداد
إن الناظر في تاريخ الدولة العباسية منذ قيامها وحتى سقوطها يجده مشحونًا بأحداث جسام يحتاج درسها واستيعابها مجلدات تند عن الحصر.
لذلك آثرنا أن نجتزئ في هذا الفصل ببعض هذه الأحداث التي نرى أنها تهب القارئ الكريم تصورًا عامًا عن الدولة العباسية من الناحية السياسية.
القضاء على الأمويين واستئصال شأفتهم:
لم يكد لواء الخلافة يتحول إلى أبي العباس السفاح حتى عمد إلى الانتقام من بني أمية جزاء ابتزازهم الخلافة، واستئثارهم بها دون أهلها من آل البيت، وعقابًا لهم على إيذاء العلويين والعباسيين جميعًا.
وذهب نفر من المؤرخين إلى أن سياسة العباسيين تلك إن هي إلا امتداد للعداء المستحكمة حلقاته بين بني أمية وبني هاشم منذ الجاهلية، وهو عداء لم تنجح مبادئ الإسلام في العدل والإخاء والمساواة في استئصال جذوره من النفوس والضمائر، بل لعل الإسلام زاده شدة وضراوة؛ نظرًا لما كان بينهما من منافسة قوية على الظفر بمنصب الخلافة.
ومهما يكن من أمر فقد بالغ أبو العباس السفاح في التنكيل ببني أمية وافتن في إنزال ألوان الأذى وضروب القتل بهم، فقتل عبد اللَّه بن علي عم السفاح ثلاثمائة من بني أمية منهم: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وعبد الجبار بن يزيد ابن عبد الملك، ومروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية.
وروي عن أبي العباس السفاح أنه لما أُتي برأس مروان بن مُحَمَّد ووضع بين يديه، سجد فأطال السجود، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قِبَلَكَ وقِبَلَ رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؛ فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل بقول الشاعر:

صفحة رقم 16

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواطع في أيماننا تقطر الدما
تورثن من أشياخ صدق تقربوا بهن إلى يوم الوغى فتقدما
إذا خالطت هام الرجال تركتها كبيض نعام في الوغى متحطما
والحق أن الشعراء قد أذكوا لدى بني العباس نيران العداوة ضد بني أمية، وزادوها اشتعالاً، فروي أن السفاح كان جالسًا في مجلس الخلافة، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه السفاح، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده:
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داءً دويًّا
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويًّا
فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ، ثم دخل السفاح وأخذ سليمان فقتل.
وقد أسرف العباسيون في التنكيل بالأمويين إسرافًا لا يراعي للموت حقًّا ولا يعرف له جلاله وحرمته، فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطًا مثل الهباء، ونبشوا قبر يزيد بن معاوية، فوجدوا فيه حطامًا كأنه الرماد.
ولم تكن سياسة الانتقام التي اصطنعها أبو العباس السفاح ضرورة طارئة ألجأه إليها إشباع روحه النزاعة إلى الانتقام، أو تثبيت أركان دولته الناشئة، بل كانت سياسة مضطردة توشك أن تسم العصر العباسي الأول كله بميسمها؛ يقول ابن دأب - وقد كان من خواص الخليفة الهادي: " دعاني الخليفة الهادي في وقت من الليل لم تجر العادة أنه يدعوني في مثله، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي وقدامه جزء ينظر فيه، فقال لي: يا عيسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني أرقت في هذه الليلة وتداعت إِلَيَّ الخواطر واشتملت عَلَيَّ الهموم وهاج لي ما جرت إليه بني أمية من بني حرب وبني مروان في سفك دمائنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا عبد اللَّه بن علي قد قتل منهم على نهر أبي فطرس فلانًا وفلانًا، حتى أتيت على تسمية من قتل منهم، وهذا عبد الصمد بن علي قد

صفحة رقم 17

قتل منهم بالحجاز في وقت واحد نحو ما قتل عبد اللَّه بن علي... ".
قال ابن دأب: فسر واللَّه الهادي.
الصعوبات التي واجهت أبا جعفر المنصور في سبيل إرساء دعائم الدولة العباسية وتثبيت أركانها:
توفي أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ هـ بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور على أن يليه في ولاية العهد عيسى بن موسى بن مُحَمَّد العباسي.
وقد أنفق أبو جعفر سني خلافته في تثبيث دعائم الملك العباسي وتوطيد أركان الخلافة الجديدة، وأبدى من الحزم والفطنة والكفاية ما هو خليق بعظماء الرجال، حتى عده المؤرخون بحق المؤسس الحقيقي للدولة العباسية؛ إذ استطاع أبو جعفر بفضل ما أتيح له من مواهب سياسية جماعها الحزم والشجاعة وسداد الرأي أن يقضي على الأخطار المحدقة بالدولة العباسية في طورها الباكر، ولا غرو فهو على حد قول السيوطي:
" فحل بني عباس هيبة وشجاعة وحزمًا، ورأيًا وجبروتًا، جَمَّاعًا للمال تاركًا اللهو واللعب، كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه ".
وقد تمثلت هذه الأخطار التي واجهت أبا جعفر فيما يلي:
١ - ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي.
٢ - تضخم نفوذ أبي مسلم الخراساني وإدلاله على الخلفاء العباسيين.
٣ - ثورات العلويين.
أولا: ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي:
أبي عبد اللَّه بن علي العباسي أن يبايع أبا جعفر المنصور، ورأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه، فادعى أن أبا العباس لما أراد توجيه الجند لقتال مروان بن مُحَمَّد قال لهم: " من انتدب منكم للمسير إليه فهو ولي عهدي، وإنه لم ينتدب لهذا الأمر أحدًا غيري "، فبايعه الجند والقواد بالخلافة. ولم تكد هذه الأخبار تنتهي إلى مسامع أبي جعفر حتى وجه إليه أبا مسلم الخراساني الذي قال له: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء اللَّه، فإن عامة جنده من

صفحة رقم 18

أهل خراسان وهم لا يعصونني.
وتمكن أبو مسلم الخراساني من إلحاق الهزيمة بجند عبد اللَّه بن علي في بلاد الشام، وفر عبد اللَّه من ميدان القتال حتى وصل إلى البصرة، واختفى عند أخيه سليمان بن علي، وكان قد وليها من قبل المنصور، واستولى أبو مسلم على ما في معسكر عبد اللَّه من مال وعتاد.
وثمة خطآن وقع فيهما عبد اللَّه بن علي تسببا في هزيمته:
أولهما: احتياله على قتل حميد بن قحطبة، والذي كان يعد من أعظم قواد الدولة العباسية، وكان قد انضم إلى عبد اللَّه، فلما وقف على مؤامرته للفتك به انضم إلى أبي مسلم الخراساني.
ثانيهما: قتله من كان في جيشه من الخراسانيين، مما أضعف قوته وأثار حفيظة من بقي معه من الجند، فلم يخلصوا له ولدعوته.
وذكر الطبري أن عبد اللَّه بن علي بايع أبا جعفر المنصور سنة ١٣٨ هـ حين كان أخوه سليمان لا يزال على ولاية البصرة، وأن سليمان لما عزل اختفى عبد اللَّه خوفًا على حياته، ثم ألح المنصور على سليمان بن علي وعيسى بن موسى بإحضار عبد الله وأعطاهما الأمان على ألا يسيء إليه، ولكنه أمر بحبسه، وقتل بعض أصحابه، ثم قتله سنة ١٤٩ هـ بعد أن حبسه تسع سنوات.
وهكذا قضى أبو جعفر على فتنة كانت خليقة أن تعصف بالدولة العباسية في مهدها، أو على أقل تقدير تفرق بين أفراد البيت العباسي وتشتت شمله.
القضاء على أبي مسلم الخراساني:
لعل من نافلة القول أن نذكر ما أنفقه أبو مسلم الخراساني من مجهود كبير في سبيل الدعوة العباسية، وإخراجها من رحم الظلم والاضطهاد إلى نور الخلافة والملك، وحسن بلائه في الحروب التي خاضها العباسيون ضد الأمويين، فذاك أمر يحتاج بسط القول فيه وإقامة الأدلة والشواهد عليه صفحات كثيرة تضيق عنها هذه الدراسة الموجزة.
وأحسب أن أبا جعفر المنصور قد أدرك أن رسوخ قدمه في الملك والحكم منوط بالقضاء على أبي مسلم الخراساني الذي مثل نفوذه المتزايد وإعجابه بما قدم للدولة

صفحة رقم 19

العباسية وإدلاله على رجالها خطرًا كبيرًا جديرًا بأن يحيل الخلافة العباسية ألعوبة في يد أبي مسلم يحولها كيف شاء.
والحق أن روح العداء بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني قديمة، تسبق من غير شك ولاية المنصور للخلافة العباسية.
وهو عداء قد تلون في أكثر جوانبه بالمنافسة والتسابق في مضمار السياسة، ثم غدا حقدًا خالصًا وكرهًا مستحكمًا.
ولا مراء في أن تصرفات أبي مسلم الخراساني قد أوغرت صدر المنصور عليه، وحملته على أن يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة تسنح كي يتخلص منه. ولا بأس أن نذكر طرفًا من العداوة بين الرجلين حتى يتبين القارئ صدق كلامنا:
- تقدم أبي مسلم الخراساني على المنصور في طريق الحج، وعدم انتظاره إياه في طريق العودة عندما بلغه نبأ وفاة أبي العباس السفاح.
- بعد وفاة السفاح أرسل أبو مسلم إلى المنصور رسالة يعزيه فيها دون أن يهنئه بالخلافة.
- كان المنصور قد أمر الحسن بن قحطبة، والي الجزيرة، أن يلحق بأبي مسلم عند توجهه لمقاتلة عبد اللَّه بن علي في الشام، فكتب ابن قحطبة إلى وزير المنصور يقول: " إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم، فيقرأه ويضحكان استهزاء ".
- تجرأ أبو مسلم وقتل سليمان بن كثير الخزاعي أحد شيوخ الدعوة العباسية دون استشارة الخليفة.
- تحديه لأمر المنصور عندما صرفه عن ولاية خراسان وولاه الشام ومصر وقوله: " هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي "، واستمراره في السير إلى خراسان.
- تقديمه لاسمه على اسم الخليفة في رسائله.

صفحة رقم 20

- ادعى أبو مسلم أنه ينتسب إلى سليط بن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ.
وهكذا اجتمعت لدى أبي جعفر المنصور الأدلة المقنعة للفتك بأبي مسلم، وطفق يدبر أمر اغتياله، فولى هشام بن عمر العقيلي مكان أبي مسلم، فانصرف أبو مسلم، وأقبل يريد خراسان مغاضبًا لأبي جعفر؛ حتى يثير أهل خراسان عليه ويجعل العباسيين دائمًا في قبضة يده، فمر بالمدائن، وأبو جعفر ينزل برومية على مقربة منها، فلم يسع إلى لقائه، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان، فسير إليه المنصور نفرًا من أصحابه فلحقوه وعظموا عليه الخطب، وحذروه عاقبة البغي ونصحوه بالرجوع إلى المنصور، فأقبل إلى العراق وقدم على أبي جعفر، فأمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره المنصور بأن ينصرف ويروح نفسه ويدخل الحمام، فانصرف، فلما كان الغد دعا المنصور عددًا من الحرس وأمرهم بالجلوس وراء الرواق فإذا صفق بيديه وثبوا على أبي مسلم فقتلوه، ثم أرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، ثم أخذ يعاتبه على مخالفته له، فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم: " لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني ".
فقال له المنصور: " يا ابن الخبيثة، واللَّه لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا وبريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا "، فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: " ما رأيتك اليوم، واللَّه ما زدتني إلا غضبًا "، قال أبو مسلم: " دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا اللَّه تعالى "، فغضب المنصور وشتمه، ثم صفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس فأخذوه بسيوفهم حتى قتلوه، وتم ذلك في شعبان سنة مائة وستة وثلاثين هجرية.
ثم خطب المنصور في الناس بعد أن قتله فقال: " أيها الناس، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإن من أسر غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه وسقطات أفعاله، وأبداها اللَّه لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نبخسكم حقوقكم، ولم نبخس الدِّين حقه عليكم، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه ".
ثم اضطرب أصحاب أبي مسلم بعد قتله، ففرقت فيهم الأموال، فأمسكوا رغبة ورهبة.

صفحة رقم 21

ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن أن أبا جعفر المنصور كان مدفوعًا إلى ذلك بما كان بينه وبين أبي مسلم من حزازات شخصية قديمة، وقد زاد أبو مسلم النار اشتعالاً بتماديه في زهوه وإعجابه بنفسه وإسرافه في قتل النفوس البريئة بغير شفقة ولا رحمة.
كما يرى د/ حسن أن إخلاص أبي مسلم وتفانيه في نصرة العباسيين أمر لم يقم الدليل بعد على إضعافه أو دحضه.
ومهما يكن من أمر فقد كان القضاء على أبي مسلم ضرورة ألجأ المنصور إليها سطوة أبي مسلم وازدياد نفوذه، مع ما ينطوي عليه ذلك من مناوأة له وتهديد لحكمه.
ثورات العلويَّين: مُحَمَّد النفس الزكية وأخوه إبراهيم:
أشرنا من قبل إلى أن الدعوة العباسية قد رفعت شعار: " الرضا من آل مُحَمَّد " حتى تأمن مناوأة العلويين لهم، وخروجهم عليهم إن هم كشفوا عن نواياهم الحقيقية في الاستئثار بمنصب الخلافة، " فلما ظفر العباسيون بالخلافة وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة بني أمية، لم يرق ذلك في نظر العلويين ولم تطب بذلك نفوسهم، على الرغم من أن الجميع من أولاد هاشم، وعلى الرغم من كونهم يدًا واحدة على بني أمية، واشتراكهم في العمل على إزالة دولتهم؛ إذ أدركوا أن العباسيين قد خدعوهم واستأثروا بالخلافة دونهم مع أنهم أحق بها منهم، فنابذوهم العداء ونظروا إليهم كما كانوا ينظرون إلى الأمويين من قبل، فظلوا يناضلون ويكافحون ابتغاء الوصول إلى حقهم في الخلافة ".
ولا تمر سنوات كثيرة من عمر الخلافة العباسية حتى يخرج على أبي جعفر المنصور مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم.
ولم تنجح محاولات العباسيين في استرضاء العلويين من القول اللين حتى العطاء الجزيل؛ فقد كان النفس الزكية يرى أنه أحق بالخلافة وأن أبا جعفر المنصور قد اغتصبها واستأثر بها من دونه، فامتنع في أول الأمر عن مبايعة السفاح ثم تخلف هو وأخوه إبراهيم عن بيعة المنصور، فلم يجد المنصور بدًّا من العمل على التخلص منهما حتى يستقيم له أمر الملك.
وكان أن عهد المنصور بولاية المدينة إلى رباح بن عثمان بن حيان ابن عم مسلمة بن

صفحة رقم 22

عقبة قائد الحرة في عهد يزيد بن معاوية، فقدم عثمان المدينة سنة ١٤١ هـ وخطب أهلها خطبة سداها ولحمتها التهديد والتخويف، فكان مما قال فيها: " يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى عثمان بن حيان وابن عم مسلمة بن عقبة، المبيد خضراءكم المفني رجالكم، واللَّه لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب ".
بيد أن أهل المدينة قد هوت أفئدتهم إلى مُحَمَّد النفس الزكية، وتدفقت نفوسهم حماسة لآل بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلم يحفلوا بتهديد عثمان، بل أغلظوا له القول وهموا بالفتك به.
فكتب إليهم المنصور قائلاً: " يا أهل المدينة، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام ".
ولم يزحزح كتاب المنصور أهل المدينة عن موقفهم، بل لعله زادهم إصرارًا على الانتصار للعلويين، فقبض عامله على عبد اللَّه بن الحسن أبي مُحَمَّد النفس الزكية وإخوته وذوي قرباه.
بيد أن عبد اللَّه لم يكن بالرجل الذي تلين قناته، بل كان يعتقد في أحقية ابنه بالخلافة دون المنصور والسفاح من قبله. فطلب إلى ابنه أن يواصل مناجزة العباسيين، وألا يحفل بما يعوقه في سبيل الحق من صعوبات.
واشتد إيذاء المنصور لأشياع النفس الزكية، وعظم البلاء النازل بهم حتى اضطروا محمدًا إلى الخروج، ولما تتهيأ الظروف بعد لخروجه وذلك في سنة ١٤٥ هـ، وقد شجعه على ذلك ظنه إجماع الناس على نصرته وشدة ميلهم إليه، وتلك الفتوى التي أفتى بها الإمام مالك بن أنس؛ حيث أفتى بجواز نقض بيعة المنصور حين قال لأهل المدينة: " إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ".

صفحة رقم 23

خرج مُحَمَّد النفس الزكية في مائتين وخمسين من أصحابه، فتوجه إلى السجن وأطلق سراح من فيه، ثم قبض على عامل أبي جعفر المنصور في المدينة وأمر بحبسه.
وفي الوقت الذي خرج فيه النفس الزكية في المدينة كان أخوه إبراهيم يدعو له في البصرة ويأخذ من أهلها البيعة له.
والحق أن أبا منصور لم يدع وسيلة تمكنه من الظهور على خصمه إلا اصطنعها، فكانت سياسته تجاه هذه الثورة مزيجًا من الحزم والدهاء، وقد ندب المنصور ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى للقضاء على النفس الزكية، فنهض بما أمر به خير نهوض لاسيما وقد تفرق عن النفس الزكية جل أنصاره وشيعته، فبقي في نفر قليل من خاصته، لم يغنه في مواجهة جيش مدرب منظم كجيش عيسى بن موسى، وقتل النفس الزكية واحتز رأسه وذلك في رمضان سنة ١٤٥ هـ.
وبعد أن فرغ عيسى من النفس الزكية في المدينة أمره المنصور بالتوجه إلى العراق للقضاء على أخيه إبراهيم، وكان قد تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ودارت رحى الحرب وحمي وطيسها في باخمري بين الكوفة وواسط، وانجلى غبارها عن هزيمة إبراهيم وجنده، ولم يزل يناضل العباسيين في فئة قليلة حتى قتل فاحتز ابن قحطبة رأسه.
وهكذا استطاع المنصور بما أتيح له من حزم وذكاء أن يقضي على أول ثورة يحمل لواءها العلويون، فوطد دعائم خلافته ومكن لها من البقاء والاستمرار.
أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي:
ولي الخلافة العباسية بعد أبي جعفر المنصور ابنه المهدي، ولبث في منصب

صفحة رقم 24

الخلافة عشر سنوات (١٥٨ - ١٦٩ هـ)، وامتازت ولايته بالاعتدال والرفق بالرعية، بعد أن أرهقها المنصور إبان خلافته من أمرها عُسرًا، " فرد الأموال التي صادرها أبوه إلى أهلها، وأطلق العلويين الذين حبسهم أبوه، وعفا عنهم وأجرى عليهم الأرزاق ".
ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي:
خرج عبد السلام بن هاشم من الخوارج في الجزيرة، واشتدت شوكته وكثرت شيعته وأنصاره فعاث في الأرض فسادًا، فأرسل إليه المهدي عدة قواد هزم بعضهم، لكنه في النهاية هزم وفر إلى قنسرين حتى قتل بها.
كما خرج عبد اللَّه بن مروان الأموي ببلاد الشام، فأرسل إليه المهدي من هزمه وأسره، فحبسمه المهدي ثم عفا عنه وأجزل له العطاء.
بيد أن أكثر هذه الثورات أهمية وأعظمها خطرًا على سياسة الدولة واستقرار المجتمع، تلك التي حمل لواءها الزنادقة، فقد أذاعوا في المجتمع مبادئ فاسدة تخالف أصول الإسلام أشد المخالفة، وهي مبادئ تقوم على نوع من الديمقراطية الفاسدة التي تبيح المحرمات وتعبث بالآداب الاجتماعية والزوجية المرعية، وتعرض الحياة السياسية والدِّينية للخطر.
والحق أن المهدي قد اشتد على الزنادقة ونكل بهم وحمى المجتمع من فسادهم وانحلالهم، وقد حذا ابنه الهادي من بعده نفس السياسة التي لزمها أبوه تجاه الزنادقة، فتعقبهم وقتل من ظفر به منهم.
هارون الرشيد: (١٧٠ - ١٩٣ هـ):
إن عصر هارون الرشيد يعد -بحق- العصر الذهبي للخلافة العباسية؛ إذ بلغت أوج

صفحة رقم 25

عظمتها وذروة قوتها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة جميعًا.
لقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدولة الكبرى والأولى والأقوى في العالم كله، وقد ازداد اختلاط عناصر السكان فيها بعضهم ببعض، وظهرت في الحياة العامة أخصب النزعات الاجتماعية والفكرية والدِّينية على صعيد واحد.. وزادت في الوقت نفسه أعداد المسلمين في الدولة مقابل الأديان الأخرى، وغدا المسلمون بصورة عامة أكثر من نصف السكان.
وبلغ اقتصاد الدولة ذروة قوته وازدهاره، حتى بلغت الأموال في خزائن الرشيد ما يقرب من ٧٢ مليون دينار، عدا الضريبة العينية التي كانت تؤخذ مما تنتجه الأرض من الحبوب، وحق للرشيد أن يخاطب السحابة قائلاً:
اذهبي حيث شئت يأتيني خراجك.
ومع ذلك، فإن عهد هارون الرشيد لم يخل من الفتن والأزمات:
فقد خرج في زمنه يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن العلوي بـ " الديلم " يدعو لنفسه، فقويت شوكته، والتف حوله الشيعة، فبعث إليه الرشيد، ففت في عضده، فطلب الصلح من الرشيد، فصالحه، ثم أمنه، ثم حبسه حتى مات.
وخرج الوليد بن مطرف الشاري وحقق انتصارات على جيوش الرشيد، وأفسد في الأرض، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فهزم الوليد وقتله.
وفي عهد الرشيد لم تكف حركات البربر في إفريقية؛ رغبة في الخروج عن الحكم العباسي، ولكن الرشيد بعث إليهم هرثمة بن أعين فقضى على هذه الحركات، وعمل الرشيد على قيام دولة الأغالبة لصد هجمات البربر والوقوف في وجه دولة الأدارسة، لكن

صفحة رقم 26

ما لبثت هذه الدولة أن استقلت عن الدولة العباسية.
وفي مصر ثار أهل الحوف مرتين: الأولى سنة ١٧٨ هـ، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين فأخمدهم. والثانية سنة ١٨٩ هـ بقيادة أبي النداء الذي خرج في مائة ألف رجل، وكان في أيلة، وأفسد مفسدة عظيمة، فأرسل إليه الرشيد جيشًا، وأرسل والي مصر جيشًا آخر، فانهزم أبو النداء، فأعلن أهل الحوف الإذعان والطاعة لما رأوه من انهزام قائدهم.
ولما ولي الأمين الخلافة وقع الخلاف بينه وبين أخيه المأمون، ووقع بينهما القتال، خاصة عندما خلع الأمين أخاه المأمون وعهد بالأمر لابنه موسى، فدار القتال، وحاصر طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بغداد أربعة عشر شهرًا وقطع عنها الأقوات، حتى وقع الناس في عنت شديد، وانتصر طاهر، وقتل الأمين، وتمت البيعة للمأمون سنة مائة وثمانية وتسعين.
وقيل: إن الأمين كان غير مهتم بشئون دولته؛ حيث كان يحب اللهو والمجون، ومن ثم كثرت الفتن في عهده، وازدادت الثورات، فاشتعلت نار الفتنة في الشام، فقام علي بن عبد اللَّه بن خالد بن يزيد بن معاوية، يدعو لنفسه، فعظم أمره، واشتد خطره حتى احتل دمشق، وكاد يستقر له الأمر لولا النزاع الذي وقع بين اليمنيين والمضريين من أتباعه، وبعث الأمين جيشًا يعيد الاستقرار إلى بلاد الشام، لكنه لم يفعل شيئًا، ومن ثم بقيت بلاد الشام في اضطراب وقلاقل قيل: سنتين، أو أكثر.
وفي ولاية المأمون: كان خروج بعض العلويين، فخرج عليه أبو السرايا سنة ١٩٩ هـ بالكوفة، وأوقع بجيوش الحسن بن سهل، ولم يستطع المأمون إخماد حركته إلا بعد عناء شديد؛ فقد هزمه هرثمة بن أعين.
وأراد المأمون استمالة العلويين فعين ولي عهده منهم، فولى علي بن موسى الكاظم وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد، فاستثار بذلك حفيظة العباسيين وثاروا عليه في عدة مناطق.

صفحة رقم 27

كما شق عصا الطاعة نصر بن شبث الذي كان يتعصب للأمين؛ فبعث له المأمون من يقاتله، واستمرت المناوشات بينهم خمس سنين، طلب بعدها نصر الأمان.
كما ثار المصريون، فبعث لهم عبد اللَّه بن طاهر؛ لإخماد الثورة، فاستولى على الفسطاط، وأقر الأمن، وأصلح البلاد.
ومن أخطر الأحداث التي ظهرت في عهد المأمون فتنة القول بخلق القرآن، فقد أمر بامتحان القضاة والمحدثين في الولآيات، وابْتُليَ الإمام أحمد بن حنبل فيها ابتلاء شديدًا.
ولما تولى المعتصم وقعت في عهده أحداث كثيرة، ففي عهده أغار الزط على الدولة العباسية، واستولوا على طريق البصرة، فحالوا دون وصول المئونة والأقوات إلى بغداد، فقاتلهم وأرغمهم على طلب الأمان، وكثر في عهده الترك وازداد نفوذهم.
وقد أغار الروم على بلاد الإسلام، فاستغاث الناس بالمعتصم، وكان ذلك في سنة ٢٢٣ هـ؛ فسير إليهم المعتصم جيشًا، وخرج على رأسه، فحارب الروم وهزمهم، وفتح حصونا كثيرة، وفتح عمورية.
وفي هذا يقول الشاعر العباسي أبو تمام:

يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفلاً معسولة الحلب
أبقيت جدَّ بني الإسلام في صعد والمشركين ودار الشرك في صبب
وقبلَ وفاة المعتصم: خرج المبرقع اليماني الذي أشعل نار الفتنة بـ " فلسطين "، فأرسل إليه المعتصم رجاء بن أيوب، فلم يقدر على المبرقع الذي تجمع حوله الفلاحون، فانتظر حتى ذهب عنه الفلاحون إلى زراعتهم، وبقي المبرقع في نفر قليل، فأغار عليه رجاء وأنزل به الهزيمة هو ومن معه.
وتوفي المعتصم وتولى الواثق باللَّه سنة ٢٢٧ هـ، وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم، فاعتمد على الأتراك الذين شغلوا أعلى المناصب في كل ولايات الدولة.

صفحة رقم 28

ولم يمكث الواثق في الخلافة كثيرًا فقد توفي سنة ٢٣٢ هـ، وتولى بعده المتوكل.
الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل حتى سيطرة البويهيين عليها، أهم الأحداث السياسية:
غدا مقررًا بين المؤرخين أن عهد الخليفة المتوكل العباسي يعتبر بدء عصر انحلال الخلافة العباسية الذي انتهى بسقوطها تحت أقدام التتار سنة ٦٥٦ هـ.
ويسيرٌ على الباحث الوقوف على علة هذا الضعف المطبق الذي اتسم به تاريخ الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل الذي كانت ولايته حدًّا يفرق بين عهدين من زمانها، كان الأول منهما عهد ازدهار واستقرار وقوة بينما كان الثاني على النقيض من ذلك.
وهذه العلة إنما هي اعتماد العباسيين على الفرس ثم على الأتراك وإيثارهم إياهم بالمناصب المدنية والعسكرية على العرب الذين كانوا مادة الإسلام وقوام الدولة الإسلامية فضعفت عصبتهم وانحطت منزلتهم وانصرفت قلوبهم عن تأييد الدولة.
وكان اعتماد العباسيين على العنصر التركي منذ عهد المعتصم (٢١٨ - ٢٢٧ هـ) إرهاصًا ببدء عصر جديد في تاريخ الدولة العباسية محرف بعصر نفوذ الأتراك يبدأ بولاية المتوكل وينتهي بدخول البويهيين بغداد (٢٣٢ - ٣٣٤ هـ).
وقد استبد الأتراك بمقاليد الأمور وتغلغل نفوذهم في الدولة بحيث أصبح الخليفة العباسي " مسلوب السلطة مهيض الجانب ضعيف الإرادة ".
ولم يتورع الأتراك عن قتل الخلفاء العباسيين الذين وقفوا ضد أطماعهم واستبدادهم فدبروا مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل " ٢٤٧ هـ " اشترك فيها ابنه المنتصر الذي طوعت له نفسه قتل أبيه، فذاق وبال أمره، فلم يمكث في الخلافة ستة أشهر إلا وقد أغرى الأتراك طبيبه ابن طيفور بقتله وأعطوه ثلاثين ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة سنة ٢٤٨ هـ.

صفحة رقم 29

ومنذ ذلك التاريخ غدت تولية الخلفاء وعزلهم منوطة بإرادة الأتراك، فقد كانوا يعملون على تولية الخلافة من يطمئنون إليه من أمراء البيت العباسي، وما أدق عبارة الفخري صاحب الآداب السلطانية في بيان هذه الحالة التي آل إليها أمر خلفاء بني العباس حيث قال: " كان الأتراك منذ قتل المتوكل قد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه ".
ونتج عن ضعف الخلافة العباسية استقلال أكثر الولايات الإسلامية في مشرق الدولة ومغربها، فانفرد الطولونيون بحكم مصر (٢٥٤ - ٢٩٢ هـ) ثم الإخشيديون (٣٢٣ - ٣٥٨ هـ) وأخيرًا الفاطميون (٣٥٨ - ٥٦٧ هـ).
أما في المشرق فقد قامت الدولة الطاهرية (٢٠٥ - ٢٥٩ هـ) في خراسان، ومنهم انتقلت السلطة إلى أسرة جديدة هي الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٥ هـ) التي قامت على يد يعقوب ابن الليث الصفار، والدولة السامانية (٢٦٦ - ٣٨٩ هـ) التي تفرعت عنها الدولة الغزنوية (٣٥١ - ٥٨٢ هـ).
البويهيون:
وإزاء استبداد الأتراك بشئون الدولة تطلع الخلفاء العباسيون إلى قوة جديدة تقيل الخلافة من عثرتها وتستأصل شأفة الأتراك، فوجدوا في دولة بني بويه الفتية ضالتهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
برز البويهيون إلى رحاب التاريخ الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري وسرعان ما ترقوا في معارج القوة والنفوذ، فدانت لعلي بن بويه بلاد فارس بالطاعة (٣٢٣ هـ) وانتزع من الخليفة الراضي العباسي اعترافًا بسلطانه.
وتوجوا انتصاراتهم بدخول بغداد حاضرة الخلافة العباسية عام ٣٣٤ هـ في عهد أحمد ابن بويه (٣٣٤ - ٣٥٦ هـ) فقابله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة، وضرب ألقابهم على السكة، ولقب المستكفي إمام الحق وضرب ذلك على السكة، على أن البويهيين استأثروا بالسلطة دون الخلفاء كما صنع أسلافهم من الترك.

صفحة رقم 30

فعمل معز الدولة على توطيد مركزه وتقوية نفوذه في بلاد العراق التي أذعنت لحكمه إذعانًا كاملاً، ولم يلبث أن استبد بالسلطان دون الخليفة وعمل على إضعاف الخلافة العباسية وفكر في القضاء عليها وإقامة خلافة شيعية على أنقاضها، " ولكنه عدل عن هذه السياسة لما قد يتعرض له سلطانه من خطر بسبب وجود خلافة علوية يطيعها الجند، ويعترف بها الديلم، ويكونون أداة في يد الخليفة يستغلها لمصلحته متى شاء ".
وبلغ من إهانة معز الدولة البويهي للخلافة العباسية وانتقاصه من قدر خلفائها أن قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وحبسه إلى أن مات، وأجلس المطيع (٣٣٤ - ٣٦٣ هـ) على كرسي الخلافة وحدد له راتبًا مائة دينار في اليوم، ثم قطع ذلك الراتب وحدد له إقطاعات يسيرة يعيش منها كما عين له كاتبًا يتصرف في شئونها.
ثورة البساسيري: ذروة الضعف العباسي، ودخول السلاجقة بغداد:
بلغ ضعف الخلافة العباسية غايته وعجزها منتهاه في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي الذي تحقق من خيانة البساسيري ذي الميول الشيعية، وتأكد من مكاتبته الخلافة الفاطمية في مصر.
فطلب إلى الملك الرحيم البويهي إبعاده عن العراق، فسار البساسيري إلى الرحبة بلد نور الدولة لمصاهرة بينهما، وعندئذ أدرك القائم بأمر اللَّه أن نجم البويهيين قد أفل وأنهم أمسوا عاجزين عن حماية الخلافة العباسية ودرء خطر البساسيري عنها، وأنه لا مناص من الاستعانة بالسلاجقة الذين طوى ملكهم بلاد الفرس والجزيرة وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بغداد.
وكان أن أرسل طغرلبك إلى الخليفة العباسي القائم رسولاً يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، فانتهز الخليفة ذلك وأمر بقطع الخطبة للملك الرحيم، والخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد في رمضان سنة ٤٤٧ هـ " ثم أرسل طغرلبك يستأذن الخليفة العباسي في دخول بغداد، فأذن له فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم ".

صفحة رقم 31

واستغل البساسيري خروج طغرلبك من العراق وانشغاله بحصار الموصل ونصيبين فكاتب إبراهيم ينال أخا طغرلبك وأخذ يعده ويمنيه ويطمعه في ملك أخيه حتى أصغى إليه وحالف أخاه، فترك الموصل إلى الري، فتقدم البساسيري إلى الموصل وحاصرها وتمكن من إخضاعها سنة ٤٥٠ هـ وتهيأ لدخول بغداد، أما طغرلبك فقد انصرف إلى القضاء على عصيان أخيه إبراهيم ينال وتمكن من الظفر به وقتله بالقرب من الري سنة ٤٥٠ هـ.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك فعفا عنه، وإنما قتله في هذه المرة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه.
قدم البساسيري بغداد سنة ٤٥٠ هـ بالرايات المصرية، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر، وجرى القتال بينه وبين الخليفة القائم الذي انضم إليه نفر من أهل السنة وقاتلوا معه، بيد أن الخليفة لم يقو على صد البساسيري عن دار الخلافة فاستولى عليها بعد قتال دام شهرًا، وأقيمت الخطبة للمستنصر الفاطمي وزيد في الآذان: حي على خير العمل.
ثم قبض البساسيري على الخليفة وحمله إلى مدينة عانة حيث حبسه بها.
ولما فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه إبراهيم ينال، عمل على إعادة الخليفة إلى بغداد، فكتب إلى قريش بن بدران يأمره أن يعيد الخليفة إلى داره ويتوعده إن لم يفعل ذلك، فكتب قريش إلى مهارش بن مجلي يخبره بذلك، فتولى مهارش أمر إعادة الخليفة إلى بغداد.
ثم جهز طغرلبك جيشًا لقتال البساسيري الذي لحق بواسط يتهيأ لقتال السلاجقة ليمنعه من الدخول إلى بلاد الشام، فظفر به جيش طغرلبك فقتل وحملت رأسه إلى بغداد.
وهكذا كانت فتنة البساسيري -كما ذكر ابن الأثير- أهم الأسباب التي حملت الخلافة العباسية على الاستعانة بالسلاجقة لتخليصهم من استبداد البويهيين ذوي الميول الشيعية والتي مثل البساسيري شكلاً من أشكالها.

صفحة رقم 32

الفصل الثالث
ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي
تميز تاريخ الدولة العباسية بظاهرة فريدة لم يشهدها تاريخ الخلافتين الراشدة والأموية، وهي ظاهرة الدول المستقلة في المشرق والمغرب جميعًا.
وإذا كان ظهور النزعات الاستقلالية في العالم الإسلامي يرجع إلى أواخر العصر الأموي، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت على نحو كبير منذ مطلع الدولة العباسية، فقامت الدولة الأموية بالأندلس (١٣٨ - ٣٩٧ هـ) على يد عبد الرحمن الداخل، وأسس إدريس بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى (١٧٢ - ٣١١ هـ) وقامت دولة الأغالبة في تونس (١٨٤ - ٢٦٩ هـ) على يد إبراهيم بن الأغلب، وفي مصر ظهر الطولونيون (٢٥٤ - ٢٩٢ هـ) ثم الإخشيديون (٣٢٣ - ٣٥٨ هـ) ثم الخلافة الفاطمية (٣٥٨ - ٥٦٧ هـ).
أما في الشرق فثمة دول استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان -نسبة إلى طاهر بن الحسين (٢٠٥ - ٢٥٩ هـ) - وعلى أنقاضها نشأت الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٠ هـ) على يد يعقوب بن الليث الصفار، كما ظهرت الدولة السامانية (٢٦٦ - ٣٨٩ هـ).
ونستطيع أن نرد أسباب هذ الظاهرة -وهي نشأة الدول المستقلة- إلى تضخم نفوذ الأتراك في الدولة العباسية، واستبدادهم بتصريف الشئون السياسية دون الخلفاء، فأحدث الأتراك كثيرًا من القلاقل والاضطرابات، وغدت الدولة العباسية مسرحًا للفوضى والاضطرابات السياسية، الأمر الذي ترتب عليه ضعف السلطة المركزية في بغداد وما ارتبط به من استقلال أكثر الولايات الإسلامية.
وثمة أمر آخر هو أن انحسار نفوذ العرب والفرس وضعف مكانتهم وهوان شأنهم في الدولة العباسية، دفعهم دفعًا إلى الاستقلال ببعض بلدان الدولة العباسية في المشرق الإسلامي، قكانت الدولتان: الصفارية والسامانية.
وهاتان الدولتان تقع في إطارهما مدينة سمرقند التي ولد فيها الماتريدي؛ ولذلك

صفحة رقم 33

سنتعرض لكل واحدة منهما بشيء من التفصيل.
أولًا: الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٠ هـ):
قامت الدولة الصفارية على أنقاض الدولة الطاهرية ويرجع تأسيسها إلى يعقوب بن الليث الصفار (٢٥٤ - ٢٦٥ هـ)، الذي اتخذ من سجستان مركزًا لانطلاقها. وتقع سجستان في أقصى الشرق من إيران وتسمى أيضا " نيمروز " وهي كلمة فارسية تعني " نصف يوم " أي أنها بخيراتها وثرواتها تساوي نصف ما تطلع عليه الشمس، وهذا على سبيل المبالغة لا الحقيقة.
وقد انضم يعقوب إلى أحد قادة المطوعة ويدعى صالح بن النضر في ثورته على والي سجستان إبراهيم القوسي؛ لظلمه واستبداده، فتمكنوا من خلعه والاستيلاء على سجستان سنة ٢٣٧ هـ.
والمطوعة جماعات عسكرية تعمل على حماية سجستان وفارس وكرمان من الفوضى التي تعرضت لها إثر ثورات الخوارج.
لم يكن صالح بن النضر أحسن حالاً من الوالي السابق من قبل الطاهريين، فبغى على الرعية ولم يسر فيهم سيرة العدل التي كانوا يرجونها منه، فشكوه إلى يعقوب وأغروه بأن يتولى عليهم بدلاً منه، فاستجاب لهم واستطاع أن يتخلص من صالح بن النضر، وأخذ يعمل على توطيد ملكه وتدعيم مركزه بالقضاء على المتمردين والمنشقين عليه، فحارب الخوارج الذين رفضوا الدخول في طاعته وقتل كثيرًا منهم حتى كاد أن يفنيهم، وأذاع أنه يحارب الخوارج عن أمر الخليفة العباسي.
ولم يكتف يعقوب بحكم سجستان بل مد نفوذه إلى بوشنج وهراة وما والاها، واحتل نيسابور التي كان يحكمها الطاهريون، وضم إليه بلاد فارس وخراسان، وكرمان، والسند، وطبرستان، والري، وقزوين وأذربيجان وجنديسابور، والأهواز، حتى لقد هدد بغداد نفسها سنة ٢٥٧ هـ، فأسس بذلك ملكًا عريضًا في شرق الدولة الإسلامية.

صفحة رقم 34

والحق أن الملكات السياسية والمواهب الشخصية التي اتسم بها يعقوب بن الليث هي التي أتاحت له ما حقق من نجاح كبير في تأسيس دولته الجديدة، فقد امتاز باليقظة وحسن التدبير، والتفكير العميق في عواقب الأمور ونتائجها، والقدرة على اختيار رجاله وإعداد جيوشه الإعداد السليم؛ فلا عجب أن قال عنه المسعودي: " كانت سياسة يعقوب لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها ممن سلف من الملوك من الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف، وحسن انقيادهم لأمره، واستقامتهم على طاعته؛ لما قد شملهم من إحسانه، وغمرهم من بره، وملأ قلوبهم من هيبته ".
لا ريب أن الخلافة العباسية أوجست خيفة من يعقوب بن الليث الصفار، ورأت في اتساع ملكه تهديدًا خطيرًا لنفوذها، وكسرًا للقاعدة التي جرت عليها في تولية حكام الأطراف بناء على تفويض منها، فاعتبرت يعقوب متمردًا، وجمع الخليفة الحجاج القادمين من المشرق من خراسان والري وطبرستان وجرجان سنة ٢٦١ هـ وأعلمهم أنه لم يفوض يعقوب، وأن دخوله خراسان وقضاءه على الطاهريين لم يكن بأمره، ورد يعقوب على ذلك بمزيد من التحدي وقصد إقليم فارس فاستولى عليه سنة ٢٦١ هـ.
وبدأ يعقوب يفكر في الاستيلاء على بغداد فتحرك صوبها سنة ٢٦٢ هـ، مستغلًا انشغال الخلافة العباسية بالقضاء على ثورة الزنج، فرأت الخلافة استمالته وإرضاءه ريثما تفرغ من أمر الزنج، فأبي يعقوب مهادنة العباسيين وقال: إنه لا يرضيه إلا أن يسير إلى باب المعتمد.
والتقت جيوش العباسيين بجيش يعقوب في قرية " اصطر بند " على مقربة من واسط في رجب سنة ٢٦٢ هـ، وكان الخليفة العباسي المعتمد يقود الجيش بنفسه، ومعه أخوه طلحة في القلب.
وانجلى غبار المعركة عن هزيمة منكرة للصفار وجنده، وغنم جند الخليفة معسكره وتراجع يعقوب في فلوله، وتوفي بعد ذلك بقليل في سنة ٢٦٥ هـ.
خلف يعقوب بن الليث أخوه عمرو بن الليث، فبادر إلى استرضاء العباسيين

صفحة رقم 35

ومهادنتهم، فوثق به الخلفاء العباسيون حتى عهدوا إليه بولاية شرطة بغداد بالإضافة إلى حكم ولايات خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان، فقوي نفوذه واستقر ملكه.
وقد اتبع عمرو بن الليث نظامًا دقيقًا في مراقبة عماله وقواده، ورتب موارد دولته وعمل على تنميتها وزيادتها.
ولم يقنع عمرو بما استقام له من ملك ونفوذ على كثير من الولايات والممالك، فطمع في بلاد ما وراء النهر التي كانت تحت حكم الدولة السامانية.
والحق أن الخلافة العباسية هي التي أغرت عمرو بحرب السامانيين؛ إذ أرسلت إليه تفويضًا بحكم بلاد ما وراء النهر، وفي الوقت نفسه كتبت إلى الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني سرًّا تدعوه إلى حرب الصفار وتعده بتوليته على ما تحت يديه من بلاد.
ويقول ابن الفقيه موضحًا هذه الخطة: " كتب المعتضد إلى الصفار يأمره أن يطلب إسماعيل بن أحمد، وأنه قد ولاه عمله، وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك ".
وكان أن رفض الأمير إسماعيل الساماني تسليم بلاد ما وراء النهر، وكتب إلى عمرو بن الليث قائلاً: " إنك قد وليت دنيا عريضة، وأنا في يدي ما وراء النهر، وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر ".
وأسفر الصراع بين الجانبين عن هزيمة عمرو بن الليث الصفار ووقوعه في الأسر سنة ٢٨٧ هـ، وعامله الأمير الساماني معاملة كريمة، وخيره بين البقاء عنده أو إرساله إلى الخليفة فاختار السير إلى المعتضد، ولكن الخليفة أمر أن يشهر به ويلقى في السجن ثم قتله سنة ٢٨٩ هـ.
وقد تولى إمارة الدولة الصفارية -بعد عمرو بن الليث- طاهر بن مُحَمَّد بن عمرو بن الليث وكان صغيرًا لاهيًا عابثًا، فغلب عليه السبكري -غلام عمرو بن الليث- فاستبد

صفحة رقم 36

بالسلطة دونه، ولم يكن لهذا الأمير الصغير حول ولا طول، بل إن السبكري قبض عليه وعلى أخيه يعقوب، وأرسل بهما إلى بغداد سنة ٢٩٦ هـ، وبذلك خلا له حكم الدولة الصفارية.
ولم تكد الأمور تستقيم للسبكري حتى سار إليه الليث بن علي بن الليث وهزمه وطرده من فارس، وذلك سنة ٢٩٧ هـ، فاستنجد السبكري بالخليفة فسير جيشًا إلى الليث أوقع به الهزيمة، وعاد السبكري إلى ولاية الدولة الصفارية، لكنه تمرد على الخلافة العباسية، ورفض أداء الأموال إليها، فعملت على التخلص منه، فانتزعت منه فارس سنة ٢٩٨ هـ، فلجأ إلى سجستان، فسار إليه الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني، فاستولى على سجستان وقبض على السبكري وعلى مُحَمَّد بن علي بن الليث الصفار وبعث بهما إلى بغداد سنة ٢٩٨ هـ، وبذلك قُضي على الدولة الصفارية قضاء لا قيام لها بعده.
ويسعنا -بعد هذا العرض الموجز- أن نرجع سقوط الدولة الصفارية إلى سببين اثنين:
الأول: جهود الدولة العباسية وحرصها على التخلص منها.
الثاني: الهزائم المتكررة التي ألمت بجيوشها، هذا بالإضافة إلى تمرد قوادها، وما ترتب على ذلك من ضعف للدولة وانهيارها في النهاية.
الدولة السامانية
قامت الدولة السامانية في " منطقة ما وراء النهر "، وتشمل جغرافيا المناطق الواقعة على جانبي نهر جيحون مباشرة وإلى الشمال منه قليلا، وينتسب سكان هذه الأقاليم إلى الجنس الفارسي، الآري -لغة ودمًا وثقافة- أما المناطق التي تقع إلى أقصى الشمال والشرق، فهي مناطق خاصة بالترك، وهم عنصر آخر يعرف بالعنصر الطوراني، وتسمى بلادهم تركستان.
ويرتبط هذا الإقليم بخراسان وسجستان جغرافيًّا وسياسيًّا؛ ولذلك اعتبر المقدسي هذه الأقاليم الثلاثة إقليمًا واحدًا أسماه بالمشرق.
ويشمل إقليم ما وراء النهر عدة كور منها: بخارى وأشروسنة والشاش وفرغانة وكش

صفحة رقم 37

ونسف والصغانيان والختل وخوارزم والترمذ.
أما الدولة السامانية فتنتسب إلى أسرة فارسية عريقة في المجد يرجع أصلها إلى بهران ابن جور.
ودخلت هذه الأسرة في الإسلام في العهد الأموي، في ولاية خالد القسري الذي كان مهتمًّا بأبناء الأسر الفارسية العريقة، وأدنى إليه سامان وأكرمه، فأسلم على يديه وولاه بلخ، فلما رزقه اللَّه بولده سماه أسدًا تيمنًا باسم هذا الوالي الكريم.
وظهر أبناء سامان الأربعة على مسرح الأحداث السياسية في عهد الخليفة المأمون فولي نوح بن أسد سمرقند في سنة ٢٠٤ هـ، وأحمد بن أسد فرغانة، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد هراة، ولما ولي طاهر بن الحسين بلاد خراسان أقرهم في هذه الأعمال.
واشتهر من أبناء أحمد بن أسد إسماعيل ونصر. فخلف نصر أباه على سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين حتى ولاه الخليفة العباسي المعتمد بلاد ما وراء النهر سنة ٢٦١ هـ.
ومن ثم تأسست الدولة السامانية، وولَّى نصر أخاه إسماعيل على بخارى.
ولم يلبث العداء أن أنشب أظفاره بين الأخوين إسماعيل ونصر، وكان إسماعيل -كما مر- ينوب عن أخيه في حكم بخارى، فآنس منه نصر طمعًا في المال واستئثارًا بالسلطة، فوقعت حروب بين الأخوين انتهت بانتصار إسماعيل سنة ٢٧٥ هـ، ولكنه أبدى إيثارًا وتعظيمًا كبيرًا لأخيه، فترجل عن جواده، وقبل ركابه وقال: إني مقر بأني أخطأت والذنب كله ذنبي، فبكى نصر لوفاء أخيه ورجع إلى سمرقند تاركًا إياه نائبًا عنه في بخارى.
وآل أمر الدولة السامانية بعد وفاة نصر بن أحمد الساماني إلى أخيه إسماعيل بن أحمد سنة ٢٧٩ هـ، ويمكننا أن نعتبر إسماعيل المؤسس الحقيقي للدولة السامانية، ففي عهده ظهرت الدولة بمظهر القوة، وقامت بدور كبير في إزالة الدولة الصفارية.
واستطاع إسماعيل بفضل كفايته السياسية والحربية أن يخضع لسلطانه بلاد ما وراء

صفحة رقم 38

النهر كلها، ونجح في أن يضم إلى دولته خراسان وبعض المناطق الإيرانية الأخرى، واتخذ من بخارى عاصمة لدولته.
وقد وصف ابن الأثير إسماعيل بن أحمد الساماني فقال: " إنه كان خَيِّرًا يحب أهل العلم والدِّين، ويكرمهم ".
وقال في موضع آخر: " إنه كان عاقلاً عادلاً حسن السيرة في رعيته، حليمًا. وحكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومًا، والمؤدب لا يعلم به، فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له: لا بارك اللَّه فيك ولا فيمن ولدك، فدخل إليه، فقال له: يا هذا، نحن لم نذنب ذنبًا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل من عنده وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه ".
علاقة السامانيين بالخلافة:
تختلف الدولة السامانية في علاقتها بالخلافة العباسية عن الدولة الصفارية إلى حد كبير؛ فالصفاريون لم يعترفوا بسلطان الخليفة العباسي عليهم وتمردوا على نفوذه الروحي، بل سعوا إلى الاستيلاء على بغداد نفسها.
أما الدولة السامانية فنعمت بالاستقلال في ظل الولاء الإسمي للخلافة العباسية، بعد أن أثبتت تجربة الصفاريين فشل الحركات المناوئة للخلافة المتحدية لسلطانها، وتأكد أن الخلافة -حتى في أحلك ظروفها- كانت تتمتع بنفوذ روحي لا يستهان به، وأنها قادرة على تحريك الأحداث والإسهام فيها بالتدخل المباشر أو بالاستعانة بحلفائها. فوعى السامانيون هذا الدرس، واعترفوا بالنفوذ الروحي للخلافة، ورفعوا راية الجهاد في الثغور، وأبدوا تعاونًا مخلصًا مع الخلافة في مواجهة أعدائها.
ومن أمارات هذا الولاء الذي أبداه السامانيون للخلافة العباسية:
- تمسكهم بالمذهب السني الذي تدين به الدولة العباسية، ورفضهم إقامة علاقات مع الفاطميين عندما حاولوا استمالتهم إليهم.
- كما أقام السامانيون الخطبة للعباسيين ونقشوا أسماءهم على السكة، وحرصوا على إكساب حكمهم صفة شرعية بالحصول على تفويض منهم.

صفحة رقم 39

وفي المقابل بدأت الخلافة العباسية تثق في السامانيين وتطمئن إلى صدق ولائهم، فاتخذت منهم أنصارًا لها في المشرق خلفًا للطاهريين، وقد أشرنا قبل قليل إلى نجاح التحالف " العباسي الساماني " في القضاء على الدولة الصفارية التي هددت العباسيين تهديدًا مباشرًا.
كما أدى السامانيون دورًا آخر لصالح الخلافة العباسية، وهو التصدي للزيدية في طبرستان، وتمكنوا من إسقاط دولة الحسن بن زيد سنة ٢٨٧ هـ، ونجحوا في استمالة القائد الديلمي أسفار بن شيرويه فتخلى عن ولائه للزيدية، وانضم إليهم، وتكفل بإسقاط الدولة الزيدية الثانية سنة ٣١٦ هـ.
وكانت بخارى حاضرة الدولة السامانية في عهد الأمير إسماعيل، فقد شيدت فيها القصور المنيفة، والمنشآت الكبيرة، والمدارس الدِّينية، ووفد عليها العلماء من كل حدب وصوب؛ لما وجدوه من التشجيع والحفاوة.
وقد حكم إسماعيل أكثر من ثلاثين سنة، سار فيها سيرة حسنة في الرعية، فأرسى قواعد العدل والإحسان؛ ولذلك كان لا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الرعية.
وكانت خراسان تنقسم إلى أربعة أقسام: قسم عاصمته نيسابور، وقسم عاصمته مرو، وثالث عاصمته هراة، والأخير عاصمته بلخ.
وأما بلاد ما وراء النهر فكانت تنقسم خمسة أقسام:
الأول: الصغد، ولها عاصمتان هما بخارى وسمرقند.
والثاني: خوارزم.
والثالثة صغانيان.
والرابع: فرغانة.
والخامس: الشاش.
وقد كان لعمال إسماعيل على هذه الولايات سلطات واسعة.
وقد توفي الأمير إسماعيل عام ٢٩٥ هـ، وبعد وفاته بدأت الدولة السامانية في الضعف والانحلال، وكان ذلك لعدة عوامل:

صفحة رقم 40

أولها: انقسام البيت الساماني على نفسه طمعًا في السيادة.
ثانيها: رجال الدولة السامانية الذين كانت لهم مطامع خاصة، فسعوا إلى تحقيق هذه المطامع على حساب الدولة.
ثالثها: ضعف أمراء آل سامان حتى أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجال الدولة.
وترتب على ضعف الدولة السامانية ازدياد نفوذ الترك الذين كانوا مجرد خدم وأتباع، فتمكنوا من القضاء على الدولة السامانية وبسطوا نفوذهم كذلك على كثير من البلدان الإسلامية.
وبرغم ضعف الدولة السامانية بعد الأمير إسماعيل، فإنها ظلت قائمة حتى منتصف القرن الرابع الهجري، فقد تولى الأمير أحمد بن إسماعيل الحكم بعد أبيه، وحاول المحافظة على ملك الدولة السامانية قدر جهده، لكنه لم يستطع تخليص طبرستان من الأمير الحسن بن علي الزيدي الملقب بالأطرش الذي تغلب عليها وعلى بلاد الديلم، وهدى اللَّه على يديه نفرًا كثيرًا ممن لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد، فالتفوا حوله، وطردوا والي السامانيين من بلادهم.
وتُوُفيَ أحمد بن إسماعيل سنة ٣٠١ هـ إثر مؤامرة دبرت له، وولي من بعده ابنه نصر، وكان صغيرًا فتنافس أمراء البيت الساماني على الوصول إلى الحكم، فشق عليه عمه إسحاق بن أحمد عصا الطاعة، فاستقل بسمرقند، واستقل أبو صالح منصور بن إسحاق في نيسابور، ولكن نصرًا عاجلهم وقضى على ثورتهم. كما هزم العلويين الذين زاد خطرهم في طبرستان وقتل قائدهم، فاستطاع الأمير نصر بسبب هذه الانتصارات استعادة نفوذ الدولة السامانية على بلاد ما وراء النهر.
وتوفي الأمير نصر، فبدأ الانهيار الكامل للدولة السامانية، فاستقل الأمراء، كلٌّ بجهة معينة، فواجه الأمير نوح بن نصر الذي خلف والده مصاعب كثيرة، منها خروج أبي إسحاق أحمد في بخارى، وأبو علي الأصفهاني في نيسابور.
وأخطر ما واجهه غزو ركن الدولة البويهي لبلاد الري واستيلاؤه عليها، ولكن القائد الساماني أبا علي طرد منها البويهيين، لكنه انقلب على سادته واستقل بها، بل طمع في

صفحة رقم 41

إقليم خراسان. ومن ثم بدأ انحسار النفوذ الساماني فما عاد يتجاوز بلاد ما وراء النهر.
ومع ازدياد نفوذ البويهيين وضعف أمراء الدولة السامانية ازداد الانحسار، فألقى الأمراء السامانيون بأنفسهم في أحضان الدولة الغزنوية الناشئة، حتى آل أمر دولتهم جميعه إلى هذه الدولة، فسقطت بذلك الدولة السامانية بعدما حكمت بلاد ما وراء النهر وما جاورها قرابة قرن ونصف.
على أنه ينبغي أن نسجل للدولة السامانية عدة أمور تعد في ميزان فضائل هذه الدولة وأمرائها:
أولها: أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في عهد الدولة السامانية؛ حتى كانت بخارى، وسمرقند، وبلخ تحت حكمهم منارات للعلوم الدِّينية، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب.
ثانيها: انتشار الرخاء في عهدهم، واتباعهم سبيل الحق في حكمهم؛ حتى مدحهم المقدسي الذي رحل إلى بلادهم، فقال: إنهم أحسن سيرة، وهذا فضلاً عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله، فقد كان من رسومهم ألا يكلفوا أهل العلم تقبيل الأرض بين أيديهم.
وقال في وصف أهل خراسان في العهد الساماني: إنهم من أشد الناس تمسكًا بالحق، وهم بالخير والشر أعلم.
كما أقر بعلمهم الكثير، وحفظهم العجيب، واستقرار الأمور في خراسان، وانتشار الرخاء فيها.
ثالثها: عدم قصر عنايتهم على العلوم الدِّينية، بل اهتم أمراء الدولة السامانية بالعلوم الطبيعية والأدبية، فقد نبغ علماء وشعراء في بلاط هذه الدولة، فنبغ الرودكي، أول شاعر غنائي في فارس، ومؤسس الملحمة التعليمية التي تعد من أخصب فروع الأدب الفارسي.
وابن سينا الفيلسوف الطبيب الذي بدأ يظهر إنتاجه في عصر منصور بن نوح الساماني ٣٥٠ هـ وبخاصة كتابه القانون في الطب.

صفحة رقم 42

ونسجل أيضًا في هذا المقام أن الماتريدي صاحب التفسير المحقق بين أيدينا عاش في سمرقند، ويمكننا القول: إنه عاش عمره كله في ظل الدولة السامانية، وما من شك في أنه تأثر بأحداثها، ونعم بخيرها، واستقرارها الفكري والعلمي، برغم ما حصل فيها من أحداث سياسية مضطربة في بعض المراحل، فكان ذلك من عوامل نبوغه في العلوم الدِّينية المختلفة، كما سنعرف في الباب الثاني من هذه الدراسة.
* * *

صفحة رقم 43

الفصل الرابع
نظام الحكم في الدولة العباسية
يقصد بنظام الحكم: أجهزة الدولة المختلفة التي تصرف أمورها، وتدبر شئونها، وتكون بمثابة حلقة الوصل بين الرعية وبين الحكام، وذلك حتى تنضبط حركة الحياة ويتمكن الناس من القيام بالوظائف المنوطة بهم على نحوٍ تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض على الوجه المرضي.
والحديث عن نظام الحكم في أي عصر من عصور التاريخ ذو شعب ثلاث:
١ - النظام السياسي.
٢ - النظام الإداري.
٣ - النظام القضائي.
ولإعطاء القارئ صورة عن نظام الحكم في الدولة العباسية في الفترة محل الدراسة نعرض لهذه الأنظمة الثلاثة في شيء من الإيجاز:
أولاً: النظام السياسي:
ويتمثل هذا النظام فيما يلي:
أ - الخلافة:
عرف صاحب الأحكام السلطانية الخلافة بقوله: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ".
كما عرفها ابن خلدون بأنها " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به ".
ومن البين أن التعريفين ينطويان على معنى الجمع بين السلطتين الدِّينية والدنيوية.

صفحة رقم 44

وقد كانت الخلافة في الدولة العباسية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
والخلفاء العباسيون يقتفون في ذلك أثر الأمويين الذين ابتدعوا مبدأ توريث الخلافة، بعد أن كانت شورى يتداولها المسلمون فيما بينهم دون قصرها على بيت دون بيت أو أسرة دون أسرة.
وامتاز نظام الحكم في العصر العباسي الأول بغلبة النزعة الاستبدادية عليه، فالخليفة العباسي يملك السلطات كلها في يده، على الرغم من أن أصحاب الدواوين أو البارزين من أصحاب البيت العباسي كانوا بمثابة مستشارين غير رسميين.
ودرج الخلفاء العباسيون على نظام تولية العهد أكثر من واحد، فقد عهد السفاح بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم إلى أخيه عيسى بن موسى، وكذلك فإن المهدي عهد بالخلافة إلى ولديه الهادي ثم لهارون الرشيد، وأما هارون الرشيد فولى عهده أولاده الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، وقسم البلاد بينهم.
ولا ريب أن هذا النظام في ولاية العهد قد أثمر العداوة والبغضاء بين أبناء البيت العباسي بدافع المنافسة والرغبة في الظفر بمنصب الخلافة.
وقد آل أمر الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل " ٢٣٢ - ٢٤٧ هـ " إلى حالة من الوهن والضعف، بسبب ازدياد نفوذ الأتراك ثم البويهيين والسلاجقة، وغدا الخلفاء العباسيون ألعوبة في يد هَؤُلَاءِ، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الثاني من هذه الدراسة.
وعلى الرغم من ضعف الخلافة في عصر إمرة الأمراء وبني بويه، فقد استمر الخلفاء العباسيون يولون العهد أبناءهم، غير أن الأتراك والبويهيين من بعدهم كانوا لا يحفلون بهذا النظام إذ كان لا يتفق مع مصالحهم.
ب - الوزارة:
اقتبس العباسيون نظام الوزارة من الفرس، والحق أن الوزارة كاختصاص ومهام ولقب قد استحدثت في العصر العباسي، وإن عرفت كاختصاص فقط دون اللقب في العصر الأموي، فكان عبد الحميد بن يحيى بن سعيد كاتب مروان بن مُحَمَّد يقوم في الخلافة مقام الوزير من حيث تقريب الخليفة له واعتماده عليه في المشورة والرأي.

صفحة رقم 45

ولم تتضح مهام الوزارة وأعمال الوزير في صدر الدولة العباسية، ولكنها لم تلبث أن تحددت وصيغت الصياغة النهائية في أواخر العهد العباسي.
وكان أكثر وزراء الدولة العباسية من الفرس أو الترك، واشتهر من وزراء العصر الأول البرامكة وبنو سهل، ومن وزراء العصر الثاني بنو الفرات وبنو وهب وبنو الجراح.
وأرهبت قوة الدولة العباسية وحزم خلفائها الوزراء، فلم يستبدوا بأمر دون الخليفة، ولم ينفردوا برأي دون الرجوع إليه، بل كان الواحد منهم يتجنب أن يسمى وزيرًا بعد أن مات أبو الجهم على يد المنصور، فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ويأبى أن يسمى وزيرًا على الرغم من منزلته عند الخلفاء.
ولم يتردد الخلفاء العباسيون الأوائل في البطش بأي وزير يرون في تضخم نفوذه خطرًا على كرسي الخلافة، ومقتل أبي سلمة الخلال على يد السفاح، وأبي الجهم على يد المنصور، ونكبة البرامكة في عهد الرشيد أمثلة صادقة على قوة الخلافة، وتضاؤل نفوذ الوزراء إلى جوار الخلفاء.
ولقد عرف العصر العباسي شكلين من أشكال الوزارة:
الأول: وزارة تنفيذ: وهي التي تقتصر مهمة الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة وعدم التصرف في شئون الدولة من تلقاء نفسه.
الثاني: وزارة تفويض: وهي أن يكل الخليفة الوزارة إلى شخص يثق فيه، ويفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شئونها دون الرجوع إليه.
ومن أشهر وزراء التفويض: آل برمك وآل سهل والفضل بن الربيع.
ولما ضعفت الخلافة العباسية ودب الوهن في أوصالها، تزايد نفوذ الوزراء وتعاظم خطرهم، وقويت المنافسة على كرسي الوزارة.
ولم يكد البويهيون يستولون على بغداد سنة ٣٣٤ هـ حتى استبدوا بالسلطة دون الخلفاء العباسيين وقضوا على نفوذ الوزراء وحلوا محلهم، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء اشتهر بعضهم كأبي الفضل مُحَمَّد بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه.

صفحة رقم 46

ج - الكتابة:
اقتضى تطور منصب الوزارة وتشعب أعماله استحداث نظام جديد يعاون موظفوه الوزير في الإشراف على الدواوين وإدارة شئونها، وهو نظام الكتابة.
ووجد في هذا العصر كاتب للرسائل، وكاتب للخراج، وكاتب للجند، وكاتب للشرطة.
ومهمة كاتب الرسائل: إذاعة المراسيم والبراءات وتحرير الرسائل السياسية وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية وختمها بخاتمه، كما كان يجلس مع الخليفة في مجلس القضاء للنظر في المظالم وختم الأحكام بخاتم الخليفة.
واشتهر من كتاب الدولة العباسية: يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع والفضل بن سهل والحسن بن سهل، وأحمد بن يوسف ومُحَمَّد بن عبد الملك بن الزيات.
د - الحجابة:
استحدث الأمويون وظيفة سياسية جديدة في بلاطهم هي الحجابة، ومهمة الحاجب: حجب الخليفة عن الناس، وتنظيم دخول الرعية عليه وفقًا لمنازلهم الاجتماعية، ومراتبهم في الدولة.
ولعل الأمويين قد خافوا على أنفسهم من الرعية بعد حادثة الخوارج مع علي ومعاوية وعمرو بن العاص.
وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في اتخاذ الحجاب، بيد أن مرتبة الحاجب قد ارتقت وزادت مكانته في بلاط العباسيين، فأصبح يستشار في كثير من أمور الدولة، ويستبد بالنفوذ دون الوزير ويلزم أصحاب الدواوين بالرجوع إليه.
ثانيًا: النظام الإداري:
أ - تعيين الولاة:
امتاز النظام الإداري في العصر العباسي الأول بالمركزية التي غدا معها ولاة الأقاليم

صفحة رقم 47

مجرد عمال لا ولاة ينفردون بالسلطة المطلقة، وهو ما يفرق بين النظام الإداري العباسي والأموي، حيث كان ولاة الدولة الأموية يتمتعون بنفوذ كبير وسلطة لا يغلها استبداد الخليفة، فلا غرو أن اقتصرت وظيفة الوالي في بداية تاريخ الدولة العباسية على الصلاة وقيادة الجند.
ودرج الخلفاء العباسيون على اختيار العمال أو الولاة من بيت أفراد البيت العباسي أو من بين كبار القادة، " غير أن هَؤُلَاءِ وأُولَئِكَ آثروا البقاء في بغداد أو في سامراء، وأنابوا عنهم نوابًا يحكمون هذه الولايات باسمهم. ولم يكن هذا التقليد شديد الخطر على الدولة العباسية وهي في قوتها، على أنه لما ضعفت السلطة المركزية ساءت الحالة في هذه الولايات، وجنح بعض نواب الولاة إلى الاستقلال، فظهرت في مصر الدولتان الطولونية والإخشيدية، وظهرت في المشرق الدول: الطاهرية، والصفارية والسامانية ".
ب - الدواوين:
كلمة الديوان كلمة فارسية تعني السجل يكتب فيه ما يختص بشئون الإدارة. ثم أصبحت تدل على المكان الذي يعمل فيه الكُتَّاب على اختلاف مهامهم.
وتشبه الدواوين في نظامها وأعمالها الوزارات في العصر الحاضر.
وأول من دون الدواوين في الدولة الإسلامية هو عبد الملك بن مروان. ثم كثرت الدواوين في العصر العباسي لتنظيم شئون الدولة، ومنها: ديوان الخراج، وديوان الجند، وديوان الموالي والغلمان، وديوان البريد، وديوان زمام النفقات، وديوان الدية، وديوان الرسائل، وديوان الحوائج، وديوان المنح، وديوان الأكرة للإشراف على الترع والجسور وشئون الري.
ويرجع الفضل في تنظيم إدارة الدواوين في العصر العباسي الأول إلى خالد بن برمك، كما يرجع الفضل في إنشاء ديوان الزمام إلى المهدي لجمع ضرائب العراق، وهو أول من أحدث هذا الديوان.

صفحة رقم 48

ج - البريد:
أَوْلَى الخلفاء العباسيون نظام البريد عناية كبيرة وحفاوة بالغة تتلاءم مع ما عسى أن يقدمه صاحب البريد من معلومات عن الأمصار والولاة، فهو بمثابة جهاز المخابرات في الدول الحديثة.
وكان لديوان البريد محطات على طول الطريق، وظل الحمام الزاجل مستخدمًا في نقل الرسائل حتى عهد الخليفة المعتصم.
وكان البريد خاصًّا بأعمال الدولة لا لنقل رسائل الجمهور، ومن ثم كان مصلحة من مصالح الدولة الخاصة، فكان صاحب البريد يراقب العمال، ويتجسس على الأعداء، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها رئيس قلم المخابرات في وزارة الدفاع الآن، وكانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل الأخبار إلى الخليفة من عماله في الأقاليم، ثم توسعوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينًا للخليفة ينقل أوامره إلى ولاته كما ينقل أخبار ولاته إليه.
٤ - الشرطة:
اعتمد الخلقاء على الشرطة في حفظ الأمن، ونشر الاستقرار والضرب على أيدي المجرمين والمفسدين.
وألحقت الشرطة في أول الأمر بالقضاء؛ لأنها تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية وصاحبها يتولى إقامة الحدود، ثم لم تلبث أن غدت نظامًا مستقلاً.
وكان صاحب الشرطة يُختار من علية القوم وذوي العصبية والناس؛ حتى يكون قادرًا على ضبط المجرمين وإقامة الحدود، وتنفيذ العقوبات.
وصاحب الشرطة يختار له مساعدين يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه.
ثالثًا: النظام القضائي:
ويشتمل على: القضاة، والنظر في المظالم، والحسبة.
أ - القضاة:
عرف منصب القضاء في الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية. وكان القاضي يصدر في أحكامه عن كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم عن رأيه

صفحة رقم 49

واجتهاده.
فلما كانت الدولة العباسية، وتقررت المذاهب الفقهية المختلفة، غدا كل قاض يصدر في أحكامه عن مذهب منها، ويُعَوِّل في الفصل بين الناس عليه. كما استحدثت الدولة العباسية منصب " قاضي القضاة "، وأول من تلقب بهذا اللقب أبو يوسف في عهد هارون الرشيد.
وكان القضاة في العصر العباسي ينظرون في القضايا المدنية والدعاوى والأوقاف، وتنصيب الأوصياء، وأحيانًا المظالم والقصاص وبيت المال.
ب - النظر في المظالم:
ويختص صاحب المظالم بالنظر في القضايا التي عجز القضاة عن الفصل فيها، وكان يتولى النظر في المظالم -أحيانًا- الخلفاء أنفسهم، فكان بعض خلفاء بني العباس يجلس لهذا الأمر؛ ليحكم في المظالم.
كما كان يرأس محكمة المظالم -إن لم يكن رئيسها هو الخليفة- الوالي أو من ينوب عنه.
وكان صاحب المظالم يعين للناس يومًا يقصدونه فيه، أو أسبوعًا كاملاً يفرغ لهم فيه.
وتنعقد محكمة المظالم في الأعم الأغلب في المسجد، وكان يحضرها خمس جماعات لابد من حضورهم هم:
أ - جماعة الحماة أو الأعوان: ومهمتهم التغلب على من يلجأ إلى العنف أو يحاول الفرار.
ب - جماعة الحكام: ومهمتهم الإحاطة بما يصدر من الأحكام لرد الحقوق إلى أهلها، والعلم بما يجري بين الخصموم.
ج - جماعة الفقهاء: الذين يرجع إليهم صاحب المظالم فيما أشكل عليه.
د - جماعة الكتاب: ويقومون بتدوين أقوال الخصوم.
هـ - الشهود.
ويختلف اختصاص صاحب المظالم عن اختصاص القاضي في عدة أمور:
أولها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يقيمها الأفراد على الولاة وعمال

صفحة رقم 50

الخراج.
ثانيها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي.
ثالثها: صاحب المظالم يحكم في القضايا التي تتعلق بإقامة العبادات كالحج والأعياد والجمع والجهاد.
ج - الحسبة:
وضع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب نظام الحسبة في الإسلام، ويعني هذا النظام: النظر فيما يتعلق بالنظام العام من أمور تقتضي الفصل فيها على وجه السرعة.
ومن وظائف المحتسب أنه: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحافظ على الآداب العامة، ويشرف على نظام السوق، ويستوفي الديون ويراقب المكاييل والموازين تجنبًا للتطفيف، ويعاقب العابثين... إلخ.
بيد أن مصطلح الحسبة لم يستخدم أو يتداول في العصر العباسي بالرغم من تطبيق مفهومه.
* * *

صفحة رقم 51

الفصل الخامس
الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي
لا مرية في أن الأوضاع الاجتماعية في عصر من العصور تؤثر تأثيرًا كبيرًا في أفراد المجتمع عامتهم وخاصتهم على السواء، ولعل أكثر الطبقات الاجتماعية تأثرًا بهذه الأوضاع هم العلماء؛ فهم أكثر اتصالاً بحياة الناس وأشد اهتمامًا بشئونهم ورغبة في معرفة مشاكلهم والقضاء عليها.
ومرادنا من دراسة الحالة الاجتماعية: بيان طبقات المجتمع من حيث: الجنس، والدِّين، وما يربط هذه الطبقات بعضها ببعض من صلات وأواصر دينية أو اقتصادية أو اجتماعية.
كما تُعني دراسة الأوضاع الاجتماعية عناية فائقة بمظاهر الحياة في المجتمع.
وتنتظم دراستنا للحالة الاجتماعية للفترة التاريخية التي نحن بصددها مبحثين اثنين هما:
المبحث الأول: سكان الدولة العباسية.
المبحث الثاني: مظاهر الحياة الاجتماعية.
* * *

صفحة رقم 52

المبحث الأول
عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي
تنوع سكان الدولة العباسية تنوعًا كبيرًا، واختلفت عناصرهم وطبقاتهم أشد ما يكون الاختلاف، وانصهرت جميعها في بوتقة المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي.
وهذه العناصر هي:
١ - العنصر العربي:
وقد أفاضت الدولة الأموية على العرب تميزًا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية، حيث آثرتهم بالمناصب السياسية وقصرتها عليهم، ونظرت بعين الازدراء للعناصر الأخرى، وحرمتها من المشاركة السياسية الفاعلة.
أما الدولة العباسية فقامت على أكتاف الموالي من الفرس، وبرزت إلى الوجود بفضل مناصرتهم وتأييدهم، فلا غرو أن قدمهم العباسيون وآثروهم بالمناصب وأجروا عليهم الأعطيات السخية، وفي المقابل تأخر العرب وصارت منزلتهم دون منزلة الفرس بكثير، وحسبك دليلاً على صحة ذلك أن المعتصم " ٢١٨ - ٢٢٥ هـ " أخرج العرب من ديوان العطاء.
ولقد عبر الجاحظ عن هذه الحالة في عبارة موجزة فقال:
" دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية ".
٢ - العنصر الفارسي:
وقد أشرنا قبل قليل إلى تميز مكانة الفرس لدى الخلفاء العباسيين، فأسندوا إليهم المناصب الهامة، واعتمدوا عليهم اعتمادًا كبيرًا في تصريف شئون دولتهم.
وتخبرنا المصادر التاريخية أن أول من استعملهم هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فاستن بسنته في استعمالهم الخلفاء العباسيون من بعده حتى بلغ نفوذهم ذروته في عهد هارون الرشيد، فكان مدبر أمر دولته آل برمك وأصولهم ساسانية.
وكذلك انتصر المأمون للفرس وأدناهم إليه واعتمد عليهم في حرب أخيه الأمين، فلما انتصر على أخيه وآل أمر الملك إليه بفضل نصرة الفرس له قربهم أكثر، فازدادوا نفوذًا وتدخلاً في شئون الخلافة العباسية.

صفحة رقم 53

٣ - العنصر التركي:
ازداد نفوذ الفرس في الدولة العباسية، وأصبحوا يمثلون خطرًا كبيرًا على سلطة الخلفاء العباسيين، فلم يجد العباسيون مناصًا من الاعتماد على عنصر جديد يثقون في ولائه ومناصرته لهم، فاستعان المعتصم بالعنصر التركي وأدخله إلى المجتمع العباسي. غير أن هذا العنصر استبد بالأمور دون الخلفاء منذ عصر المتوكل " ٢٣٢ - ٢٤٧ هـ "، وغدا الترك أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة، والخلفاء ألعوبة في أيديهم.
٤ - المولدون:
نشأ نتيجة الاختلاط بين العناصر السابقة عنصر جديد لم يكن موجودًا من قبل، وهذا العنصر هو المولدون، وكان لهَؤُلَاءِ مميزات وصفات مختلفة في أجسامهم وعقولهم وأفكارهم، وأثر لا ينكر في الحياة الاجتماعية والعلمية.
٥ - اليهود والنصارى:
وعلى الرغم من أن هَؤُلَاءِ كانوا قلة في المجتمع العباسي إلا أنهم تمتعوا بكافة الحقوق في ظل التسامح الدِّيني الذي دعا إليه الإسلام، فكانوا يقيمون شعائرهم الدِّينية في حرية كاملة، ويعيشون في طوائف منفصلة عن بعضها مختلطين مع المسلمين، فلم يكن لهم في المدن الإسلامية أحياء مخصصة إلا إذا آثروا الحياة في أحياء خاصة بهم، فتتكون تلقائيًّا لهم أحياء خاصة.
طبقة الرقيق:
كثرت هذه الطبقة في المجتمع العباسي كثرة ظاهرة، فنشأت أسواق خاصة بهم في بغداد، وامتلأت قصور الخلفاء والأغنياء والحكام بالجواري. كما عني العباسيون بتهذيبهن وتعليمهن ضروبًا من الفنون لا سيما الشعر والغناء.
ونَعِمَ الرقيق في ظل الدولة العباسية بكافة حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها سائر طبقات المجتمع من الأحرار، وحسبك دليلاً على صدق ما نقول أن كثيرًا من أمهات الخلفاء العباسيين كن من الرقيق.
وكان ذلك بفضل ما أرساه الإسلام من مبادئ العدل والمساواة دون تمييز بين عربي وعجمي أو حر وعبد، فالكل سواء في الحقوق الإنسانية.

صفحة رقم 54

هذا عن العناصر السكانية في المجتمع العباسي عامة أما بلاد وراء النهر -مسقط رأس الماتريدي- فإن غالبية السكان فيها كانوا من الفرس والترك، وثمة طوائف عربية استوطنت هذه البلاد على أثر الفتوحات الإسلامية، فاندمجوا مع سكان البلاد الأصليين، الذين دخل منهم في الإسلام من دخل، وبقي منهم على دينه بقي، متمتعًا في ظل الإسلام بكافة الحقوق الإنسانية.
* * *

صفحة رقم 55

المبحث الثاني
مظاهر الحياة الاجتماعية
امتازت الحياة الاجتماعية في عصر الماتريدي بمظاهر عدة، لعل أبرزها:
- ظهور حركة الشعوبية.
- ظاهرة الزندقة.
- غلبة اللهو والترف على المجتمع.
أولاً: الشعوبية:
نشأت ظاهرة الشعوبية كنتيجة طبيعية للصدام السياسي والحضاري بين العرب والموالي، فتعصب العرب لجنسهم واحتقروا الموالي، وتعصب الموالي -الفرس والترك- لأرومتهم، ورأي الفرس أنهم ذوو سابقة في الحضارة والمدنية وأن العرب طارئون على هذه الحضارة.
وغلبت هذه النزعة من العصبية على الدولة العباسية وأذكى نيرانها مساندة العباسيين للموالي وتقديمهم إياهم على العرب.
وبلغت الشعوبية ذروة خطورتها في القرن الثالث الهجري، حيث نشط الفرس في الهجوم على العرب والتفتيش عن مثالبهم، وتجريدهم من كل ميزة وفضيلة، وربما ساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين لم يتعصبوا للعرب كجنس بقدر ما تعصبوا للإسلام كدين يسوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ولا يرى للعرب فضلاً على سائر الأجناس إلا بالتقوى.
وثمة نزعات ثلاث تألفت ظاهرة الشعوبية من مجموعها:
النزعة الأولى: وتذهب إلى أن العرب خير الأمم؛ لأنهم ظلوا ينعمون بالاستقلال والحرية، بالرغم من أنهم كانوا يتاخمون أكبر دولتين: الفرس والروم، كما أنهم يتمتعون بصفات أخلاقية امتازوا بها عن غيرهم، كالكرم والوفاء والنجدة، بالإضافة إلى أن الإسلام -وهذا هو العامل الأهم- نزل بأرضهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منهم، وهم حاملو لواء دعوته إلى الناس، فكل من أسلم ففي عنقه للعرب منَّة لا تقدر.
النزعة الثانية: ترى أن العرب ليسوا بأفضل الأمم، فالأمم كلها متساوية، يؤيد ذلك قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

صفحة رقم 56

ويمثل هذه النزعة وينتصر لها العلماء والصالحون من العرب العجم جميعًا.
النزعة الثالثة: يؤمن أصحاب هذه النزعة بأفضلية العجم على العرب، ويفندون الحجج التي ارتكز عليها أصحاب النزعة الأولى في تفضيل العرب، فيقولون: إن الإسلام ليس دينًا عربيًّا أنزله اللَّه لهداية العرب وحدهم، بل هو دين عام للناس أجمعين، ودعوته موجهة لكل الأجناس، وليس للعرب ما يمتازون به عن غيرهم.
وما افتخروا به من سجايا كريمة وشيم نبيلة كالكرم والوفاء والنجدة وغيرها، ليست قصرًا عليهم بل يشاركهم فيها سائر الأمم.
وقد أطلقت الشعوبية على هذه النزعة الأخيرة حتى غدت مرادفة لها، فصنف العجم كتبًا في مثالب العرب ومناقب العجم، بل تجرأ الشعوبيون فوضعوا الأحاديث ونسبوها زورًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، إثباتًا لفضيلة العجم.
ثانيًا: الزندقة:
لعل من الأسباب التي أدت إلى شيوع الزندقة وقوة تيارها في العصر العباسي: نشاط الحركة العلمية العقلية في هذا العصر؛ إذ لم يقتصر البحث على العلوم الدِّينية النقلية من جمع أحاديث وتفسير للقرآن، واستنباط للأحكام الشرعية، بل تعداها إلى دراسة المنطق والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم التي تثير في النفس والعقل من الحيرة والشك أكثر مما تثبت فيهما من الإيمان واليقين.
وكذلك فإن كثيرًا من الفرس ساءهم ألا يحققوا ما يطمحون إليه من مطامع، ورأوا أن الإسلام ما دام قويًا، فلن يتحقق لهم ما يرنون إليه؛ ولذلك عملوا على هدم الإسلام من داخله عن طريق نشر المبادئ المانوية والزرادشتية والمزدكية، فكان ذلك عاملاً مباشرًا أسهم في ذيوع الزندقة وانتشار أفكارها الهدامة.
وتعني الزندقة اعتناق الإسلام ظاهرًا، واعتناق أديان الفرس باطنًا، وخاصة مذهب ماني، وإنما أظهروا الإسلام رغبة في إفساده وهدم تعاليمه، أو لنيل الجاه والظفر بالسلطان.
واجتهد الخلفاء العباسيون في تعقب الزنادقة ومحاكمتهم، كما شجعوا المتكلمين وأهل الجدل على تأليف الكتب للرد على الزنادقة، وأمر الخلفاء بمناظرتهم واستتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا.

صفحة رقم 57

وأوصى الخليفة المهدي ابنه وولي عهده موسى الهادي - إذا آل إليه أمر الخلافة من بعده- بتعقبهم والقضاء عليهم.
واستحدث هارون الرشيد وظيفة جديدة سمى صاحبها بـ " صاحب الزنادقة " مهمته امتحان كل من يتهم بالزندقة ومحاكمته إن ثبتت عليه التهمة.
وذكر الطبري والمسعودي أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة في البصرة، فبعث إليهم، وامتحنهم واحدًا واحدًا، وأظهر لهم صورة ماني، وأمرهم أن يتفلوا عليها ويبرءوا منها، فلما أبوا أمر بهم فقتلوا.
وثمة نزعة إيمانية صادقة ظهرت كردِّ فعل لنزعة الإلحاد والزندقة، حيث كثر العلماء المؤمنون الذين وقفوا حياتهم على خدمة الدِّين، والتمسك بآدابه ومبادئه. وفي الحق أن هذه النزعة الإيمانية كانت هي الغالبة على المجتمع العباسي؛ إذ كان الزنادقة قلة إذا قيسوا بالمؤمنين الأتقياء.
ثالثًا: حياة الترف واللهو:
تدفقت الثروة وعم الرخاء في الدولة العباسية، فانغمس كثير من الخلفاء والأمراء في حياة الترف والمجون، بل أصبح الترف سمة امتازت بها حياة كثير من الناس في هذا العصر، وقد تجلت مظاهر الترف واللهو في عدة أمور أبرزها:
أ - القصور المنيفة التي شيدت على أحسن طراز، فقد كانت قصور الأمراء والخلفاء مضرب الأمثال في رونقها وبهائها، وفخامة بنائها واتساعها، والحدائق التي تحيط بها.
ب - شاع الغناء في هذا العصر، وكثر المغنون، حيث حفلت قصور الأمراء بالمغنين من الجواري، واشتهر من المغنين عدد غير قليل لعل أبرزهم إبراهيم بن إسحاق الموصلي.
وحذا الأمراء والوزارء حذو خلفاء الدولة العباسية في الانغماس في حياة اللهو والترف، وقد أوجدت هذه الحالة جماعة متطوعة تنكر على الفساق ببغداد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأثمرت حياة اللهو كذلك حياة مقابلة لها هي حياة الزهد التي سلكها بعض الناس.
* * *

صفحة رقم 58

الفصل السادس
الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي
كان الإسلام محور الحركة العلمية وأساسها الأول حتى أواخر العصر الأموي، فالعلوم التي يتدارسها المسلمون ويعنون بتدوينها وجمع مسائلها علوم دينية مادتها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وغايتها خدمة الإسلام ودعم أصوله وأركانه.
فمبنى الفقه على الكتاب والسنة الصحيحة، ومدار الحديث على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله المأثورة عنه، وأساس التاريخ سيرة النبي وغزواته.
أما العلوم الدنيوية: كالطب والكيمياء فحظ المسلمين من الاشتغال بها قليل، واهتمامهم بها ضعيف، وأكثر من برعوا فيها واهتموا بها من غير المسلمين.
أما الدولة العباسية فمعلوم لكل أحد أن الحركة العلمية نشطت في عصرها نشاطًا كبيرًا، وتنازعت العلوم الدِّينية والعلوم العقلية اهتمام المسلمين وعنايتهم، فكثر التدوين والتصنيف ورتبت مسائل العلوم، وميِّز كل علم عن غيره واستقل بموضوعه ومنهجه، واستحدثت علوم جديدة كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه، وعني المسلمون بترجمة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء عن اليونان والهند.
فلا غرو أن أثرى هذا النشاط الحركة العلمية في عصر الدولة العباسية -عصر الماتريدي- ثراء عظيمًا، حتى عد هذا العصر بحق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية القائمة على العلم الدِّيني والدنيوي على سواء.
ويمكننا أن نتلمَّس ملامح الحركة العلمية ونقف على آثارها ونتائجها ببيان أهم العلوم التي دونت في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
العلوم المدونة في القرنين الثالث والرابع الهجريين
وعُني المسلمون منذ مطلع القرن الثالث الهجري بتدوين العلوم وجمع مسائلها وترتيب أبوابها، واتسعت دائرة اهتمامهم العلمي لتشمل إلى جانب العلوم الدِّينية العلوم العقلية، وفيما يلي نعرض بإيجاز لأبرز هذه العلوم:
١ - علم القراءات:
القراءات: جمع قراءة، وهي في اللغة: مصدر سماعي لقرأ، وفي الاصطلاح: مذهب

صفحة رقم 59

يذهب إلى إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئتها.
ونستطيع أن نقول: إن الدافع وراء اهتمام المسلمين بهذا العلم والتصنيف فيه خشية جماعة القراء من أن تتأثر قراءة القرآن باللكنة الأعجمية لا سيما بعد دخول الفرس في الإسلام أفواجًا، ومن ثم اهتم هَؤُلَاءِ بضبط القراءات القرآنية وجعلوها علمًا كسائر العلوم.
وبرز في علم القراءات رجال كثيرون، من أشهرهم:
١ - عبد اللَّه بن عامر بدمشق، توفي ١١٨ هـ.
٢ - عبد اللَّه بن كثير بمكة (توفي: ١٢٠ هـ).
٣ - أبو بكر عاصم بن أبي النجود بالكوفة، توفي ١٢٨ هـ.
٤ - حمزة بن حبيب الزيات بالكوفة، توفي ١٥٦ هـ.
٥ - أبو عمر بن العلاء المازني بالبصرة (توفي: ١٦٤ هـ).
٦ - نافع بن أبي نافع بالمدينة (ت: ١٦٧ هـ)، وأخذ عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش (توفي ١٩٧ هـ)، وهو الذي يقرأ له أهل المغرب.
٧ - أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي بالكوفة، توفي ١٨٩ هـ.
وهَؤُلَاءِ هم المعروفون بالقراء السبعة الذين فاقوا غيرهم في الإتقان والضبط، ويليهم في الشهرة:
٨ - أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، توفي ١٣٠ هـ.
٩ - يعقوب بن إسحاق الحضرمي، توفي ٢٠٥ هـ.
١٠ - خلف بن هشام البزار توفي ٢٢٩ هـ.
وقراءات ما عدا هَؤُلَاءِ العشرة قراءات شاذة.
والحق أن أول من تتبع وجوه القراءات، وتقصى أنواع الشاذ منها، وبحث أسانيدها وميز فيها الصحيح من الموضوع هارون بن موسى القاري، (ت: ١٧٩ هـ). أما أول من صنف في القراءات فهو أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: ٢٤٤ هـ).
وخليق بنا أن نسجل في هذا المقام الملاحظة التالية، وهي أن أكثر القراء وأشهرهم وأبرز من دونوا في علم القراءات قد ظهروا في العصر العباسي، وفي الفترة التاريخية التي

صفحة رقم 60

نحن بصددها تحديدًا، عصر الماتريدي.
ولا ريب أن تدوين القراءات وتأصيل مسائلها عاملٌ مهم أورث حركة التشريع الإسلامي شيئًا غير قليل من القوة والازدهار.
٢ - علم التفسير:
سيأتي بمشيئة اللَّه تعالى الكلام عن بيان مفهوم علم التفسير عند الحديث عن التفسير ومناهج المفسرين وكذلك سيأتي الحديث عن نشأة علم التفسير وتطوره، إلا أننا نقول هاهنا في عجالة سريعة إن علم التفسير نشأ في أول أمره فرعًا من فروع الحديث، حيث كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر القرآن لأصحابه ويبين لهم معانيه الخافية عنهم، ثم عني الصحابة من بعده بتفسير القرآن، وأُثِرَتْ عنهم آراء كثيرة في التفسير وأقوال كانت أساسًا صالحًا قامت عليه المدارس التفسيرية فيما بعد.
وقد تطور علم التفسير في عصر التابعين، فجاءت طبقة جمعت الأقوال التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، شأنهم في ذلك شأن المحدثين، كما رحل بعض العلماء لجمع روايات التفسير من الأمصار المختلفة.
ولم يلبث علم التفسير أن انفصل عن علم الحديث، في العصر العباسي، وقام المفسرون بترتيب الروايات التفسيرية وفق ترتيب السور والآيات، ويذكر ابن النديم: أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفراء صاحب كتاب " معاني القرآن " المتوفى سنة ٢٠٧ هـ، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه، فقام الفراء بذلك فوضع كتابًا في التفسير.
ثم وضع ابن جرير الطبري بعد ذلك تفسيرًا، عمادُه الروايات التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، بيد أنه أضاف إلى تفسيره شيئًا من التفسير بالرأي.
فمنذ ذلك التاريخ غدا القرآن الكريم معينًا خصبًا لكثير من العلوم، فعلماء النحو اعتمدوا عليه في استنباط القواعد النحوية، وألفوا كتبًا في إعراب المشكل من آياته، وعني أهل اللغة بتفسير مفرداته وشرح معانيه، كما عَوَّل عليه الفقهاء في بناء آرائهم وتأسيس مذاهبهم الفقهية، وصنفت كتب في تفسير آيات الأحكام، وأخذ العلماء يفسرون القرآن،

صفحة رقم 61

كل بما يتفق مع رأيه، حتى علماء الكلام أَوَّلُوا بعض الصفات بما يتفق مع آرائهم.
٣ - الحديث وعلومه:
علم الحديث هو علم يشتمل على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها.
ولم يدون الحديث النبوي الشريف تدوينًا منظمًا إلا منذ مطلع القرن الثاني الهجري وقبل هذا التاريخ كان الصحابة يكتبون منه ما استقامت لهم سبل الكتابة وتيسرت أسبابها، غير أن تدوينهم كان تدوينًا خلا من النظام والترتيب.
ومن أشهر من كتب الحديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، حتى قال فيه أبو هريرة: " ما من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب ".
ثم رأى عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يجمع حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جمعًا منظمًا ويدونه تدوينًا مستوعبًا، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم: " أن انظر ما كان من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسننه فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ".
ومنذ ذلك التاريخ بدأت عناية المسلمين بتدوين الحديث تقوى وتشتد، وبرز في ميدان جمع الأحاديث أسماء كثيرة نذكرها بكل إجلال وتقدير، وتوزع هَؤُلَاءِ على الأمصار الإسلامية المختلفة:
ففي مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة ١٥٠ هـ.
وفي المدينة مُحَمَّد بن إسحاق المتوفى سنة ١٥١ هـ، ومالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ هـ.
وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة ١٦٠ هـ وحماد بن سلمة المتوفى سنة ١٧٦ هـ.
وفي الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة ١٦١ هـ.
وفي الشام الأوزاعي المتوفى سنة ١٥٧ هـ.

صفحة رقم 62

وفي اليمن معمر بن راشد المتوفى سنة ١٥٣ هـ.
وفي خراسان عبد اللَّه بن المبارك المتوفى سنة ١٨١ هـ.
وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة ١٧٥ هـ.
وكانت طريقتهم في التدوين تعتمد على وحدة الموضوع في أبواب منفصلة يحتوي كل باب على الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، فجمعت أحاديث الصلاة في باب، والزكاة في باب آخر، وهكذا.
ومن أشهر هذه المصنفات موطأ الإمام مالك.
ثم جاءت طبقة أخرى من علماء الحديث انتهجت نهجًا آخر، فكتبت السنة على طريقة المسانيد، وأساسها وحدة الراوي وإن اختلف الموضوع، ومن أشهر المسانيد مسند الإمام أحمد.
وفي القرن الثالث الهجري جاءت طبقة أخرى، وجدت أمامها ثروة عظيمة من الأحاديث، فاتبعت أسلوب الانتقاء والاختيار، فألفت ما عرف بالصحاح، وأفردت الحديث عن غيره من فتاوى الصحابة وأقوالهم، وفي طليعة كتب الصحاح: صحيح البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ هـ، وصحيح مسلم المتوفي سنة ٢٦١ هـ، وحذا حذو البخاري ومسلم الإمام أبو داود المتوفى سنة ٢٧٥ هـ، وأبو عيسى الترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ هـ، وابن ماجه المتوفى سنة ٣٠٣ هـ وغيرهم.
ووجد بجانب المحدثين فريق من العلماء توفروا على نقد رواة الحديث، وجرح بعضهم وتعديل البعض الآخر، وعرفوا بعلماء الجرح والتعديل.
قال الذهبي: أول من زكى وجرح من التابعين -وإن كان قد وقع ذلك قبلهم- الشعبي وابن سيرين؛ حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين.
وذلك لأن الصحابة كانوا عدولا، وكبار التابعين الآخذين عنهم كانوا ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور، والمختار الكذاب.
فلما مضى القرن الأول، وجاء القرن الثاني، كان من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين كان ضعفهم من قبل تحملهم وضبطهم، فتراهم يرفعون الموقوف، ويرسلون كثيرا، ولهم غلط كأبي هارون العبدي.

صفحة رقم 63

فلما كان آخر عصر التابعين -وهو حدود الخمسين ومائة- تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة.
وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم أحمد وابن معين.
قال السيوطي: يعني أنه أول من تصدى لذلك، وإلا فقد سبقهم من الصحابة والتابعين من علمت.
وألف في الجرح والتعديل أئمة في الحديث.
منهم من ألف في الضعاف كالبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني وغيرهم.
ومنهم من ألف في الثقات كابن حبان.
ومنهم من ألف فيهما كالبخاري وابن أبي خيثمة، وابن أبي حاتم.
ومن أشهر علماء الجرح والتعديل: يَحْيَى بن سعيد القطان المتوفى سنة ١٨٩ هـ، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة ١٩٨ هـ، ويحيى بن معين المتوفى سنة ٢٣٣ هـ، وأحمد بن حنبل المتوفى ٢٤١ هـ.
٤ - علم الفقه:
علم الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ظهرت فكرة كتابة بعض الأحكام الفقهية منذ عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر الخلافة الراشدة، غير أننا لا نستطيع أن نقول: إن علم الفقه ظهر في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام؛ لأن هذه الكتابات -وإن سلمنا بوجودها- لا تمثل ظاهرة عامة جديرة بأن تؤسس علما مهما كعلم الفقه؛ له أصوله وقواعده، وغاية الأمر أن هذه الكتابات دليل على أن مسائل علم الفقه شغلت المسلمين منذ طور مبكر، وأنها كذلك إرهاص مؤذن لنشأة علم الفقه في مرحلة تالية، وإن كانت هي بذاتها لا تمثل علما ولا ترقى إلى رتبته، كما نفهم نحن مصطلح العلم من ضرورة أن يتاح له منهج في الدرس ومادة مجموعة ومسائل مرتبة وعلماء يتوفرون عليه.
إن فكرة التدوين الفقهي المنظم وليدة القرن الثاني الهجري، حيث تدلنا المصادر

صفحة رقم 64

التاريخية على أن فقهاء المدينة قاموا بجمع فتاوى ابن عمر وعائشة وابن عَبَّاسٍ ومن بعدهم من كبار التابعين الذين ظهروا بالمدينة.
وكذلك جمع فقهاء العراق فتاوى عبد اللَّه بن مسعود، وقضايا علي بن أبي طالب وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.
وقد وضعت بعض المؤلفات الفقهية في هذا العصر، فقد ألف أبو حنيفة (الفقه الأكبر) وإبراهيم النخعي (فتاوى الشيوخ وآراؤهم)، وغيرهما.
وكانت هذه المؤلفات تجمع بين الفقه والحديث.
وهناك من ألف من الفقه مجردًا عن الحديث: كمُحَمَّد بن الحسن في كتبه الستة التي جمع فيها مسائل الأصول في مذهب إمامه أبي حنيفة وهي: المبسوط، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والزيادات، والسير الصغير، والسير الكبير، ومثل: المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك.
وبجانب هذين النوعين من التدوين وجد تدوين المسائل الفقهيهة مصحوبًا بأدلتها من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، مثل كتاب الأم الذي رواه الربيع عن الإمام الشافعي.
واستمر الفقه في التطور والازدهار حتى أصبح علمًا قائمًا على سوقه.
٥ - علم أصول الفقه:
لم يكن استنباط الأحكام في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدر الإسلام بحاجة إلى أكثر من الرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حيانه وإلى أصحابه بعد مماته، ولكن لما بعدت الشقة بين الناس والعهد النبوي احتاج المسلمون إلى وضع العلوم وتأسيس مناهجها، ومن هذه العلوم أصول الففه.
وقد أخذ الإمام الشافعي على عاتقه مهمة جمع قواعد علم أصول الفقه المبثوثة في بطون الكتب، والموجودة في سنة النبي وآثار الصحابة، ومن قبل ذلك وبعده من القرآن الكريم.
والسبب الذي دفع الشافعي إلى كتابة علم أصول الفقه هو ما ذكره ابن خلدون حينما

صفحة رقم 65

قال: " لما وجد -أي الشافعي- الخلاف والنزاع مستمرًا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر، وأنهم أصحاب حجاج ولسن، وأهل جدال وشغب، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم، والحط من قدرهم وقيمتهم، والرد على رأيهم ومذهبهم، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين، وبخاصة من كان موجودًا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل، وضعف البحث والنظر، وفساد الاستدلال والجدل، وأنهم غير قادرين -القدرة التامة- على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم، والرد على خصومهم، والصمود في وجوههم؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك من المباحث.
لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك.. وضع مؤلفا جامعًا في أصول الفقه، يعين على فهم حقائقه، وإدراك دقائقه، ويكون القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع، وبيان كيفية إثباتها ".
وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم، من هَؤُلَاءِ الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب " الناسخ والمنسوخ ".
٦ - تدوين علم النحو واللغة:
كان لاتساع الفتوحات الإسلامية، ودخول الكثير من العجم في الإسلام، واختلاطهم بالعرب - الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته بـ " علم النحو ".
وقيل: إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو.
وقيل: إنه تعلم أصوله عن الإمام علي، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم، ومن ثم، وضع علم النحو.
وكانت مدرسة البصرة هي أولَى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورًا، تلتها مدرسة

صفحة رقم 66

الكوفة، وقد ألف تلاميذ المدرستين تآليف كثيرة، وتتابع الناس يكتبون في هذا العلم؛ حتى انتهى الأمر إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، فهذب الصناعة، وكمل أبوابها، وأخذ عنه سيبويه، فكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور.
وممن كتب في هذا الفن: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو عمرو بن العلاء، وجميع من ذكرت من علماء البصرة، ومن أشهر علماء الكوفة الذين كتبوا في هذا الفن: الكسائي والفراء.
وكما تسرب اللحن إلى تركيب الجملة تسرب أيضًا إلى الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه، ومن ثم وجدت الحاجة إلى معاجم تحفظ المفردات اللغوية، حتى لا تندرس، فيترتب على ذلك جهل بالقرآن والحديث.
ولذلك شمر علماء اللغة عن سواعدهم، وبدءوا يجمعون الكلمات العربية، ويحددون معانيها، فرحلوا إلى البادية واستقوا اللغة من منابعها الأولى، كما أخذوا عن عرب البدو الذين وفدوا إلى الحضر، وكان من أهم مصادرهم: القرآن الكريم، والشعر العربي الجاهلي والإسلامي الموثوق به.
وقد تم جمع اللغة على مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: جمع المفردات كيفما اتفق.
المرحلة الثانية: جُمعت فيها الكلمات المتقاربة نوعًا من التقارب، أو ما لها موضع واحد.
المرحلة الثالثة: جمع المعاجم، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري حين وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي منهج كتاب العين الذي حصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف عليه، واعتمد فيه على ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده حتى وصل إلى الحروف الشفوية، وجعل أحرُف العلة آخرًا، وبدأ من حروف الحلق بالعين؛ ولذلك سمى كتابه بـ " العين ".

صفحة رقم 67

وفي القرن الثالث الهجري انتشرت المعاجم الواسعة التي سار فيها أصحابها على طريقة الخليل بن أحمد من حيث ترتيب حروف المعجم على المخارج الصوتية والابتداء بحروف الحلق، ثم انتشرت المعاجم بعد ذلك في القرون التالية مصطنعة مناهج جديدة أكثر تيسيرًا، وموجود بين أيدينا الكثير منها الآن.
٧ - الأدب:
تطور الأدب كثيرًا في العصر العباسي، وبخاصة الشعر؛ حيث وجد شعراء مجددون في معاني القصيدة وديباجتها كأبي تمام؛ مما أدى إلى وجود نهضة أدبية وشعرية يمكن أن يقال عنها: إنها فاقت العصور السابقة.
ولم ينل الأدب العناية في جمعه وتأليفه مثلما نالت اللغة، فقد كان جمع الأدب والشعر في العصور الإسلامية الأولى قائما على الانتقاء والاختيار لا الاستقصاء والشمولية؛ ولعل السبب في ذلك أنه لا يستطيع فرد أو أفراد أن يقوموا بذلك.
وقد دون عدد من الكتب في الأدب ونقده في العصر العباسي؛ ككتابي أدب الكاتب، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وتعتبر هذه الكتب أركانًا في الأدب وعلومه.
٨ - التاريخ والجغرافيا:
كان الاعتماد في التاريخ -في بادئ الأمر- على السماع، فكان العرب يتناقلون أخبارهم وسير أجدادهم شفويًّا، ولكن لما جاء القرن الثاني الهجري أخذ البحث في التاريخ وتدوينه يأخذ جانبًا من اهتمام العلماء، وانصرف اهتمام المؤرخين في أول الأمر إلى السيرة النبوية، فكتب ابن إسحاق سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان ذلك في منتصف القرن الثاني الهجري، وفي أواخر هذا القرن وضع هشام بن مُحَمَّد الكلبي والواقدي كثيرًا من المصنفات والرسائل التاريخية شملت العصور المختلفة، ثم جاء ابن هشام أواخر هذا القرن وبداية القرن الثالث فكتب سيرته الشهيرة المتناقلة بين الناس.
وفي القرن الثالث تطور التاريخ تطورًا كبيرًا، فوجدت المصنفات الكبيرة، واتسعت

صفحة رقم 68

مادته باتساع حوادث الدولة الإسلامية، فوجدت مؤلفات في الحوادث، ومؤلفات في الأنساب، ومؤلفات في تاريخ الأمم والملوك، ومؤلفات في تاريخ الأديان: كاليهودية، والنصرانية، ومؤلفات في التراجم.
ومن أشهر المؤلفات في القرن الثالث: كتاب الطبقات الكبرى لمُحَمَّد بن سعد المتوفي سنة ٢٣٠ هـ، وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة المتوفي سنة ٢٧٦ هـ، وكتاب فتوح البلدان للبلازدي المتوفي سنة ٢٧٩ هـ، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدِّينوري المتوفي سنة ٢٨٢ هـ، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري المتوفي سنة ٣١٠ هـ.
ومعنى هذا أن القرن الثالث الهجري شهد نهضة في علم التاريخ لم تشهدها القرون السابقة وربما القرون اللاحقة؛ حيث الاعتماد على هذه المصنفات والمؤلفات في الغالب الأعم.
أما في مجال الجغرافيا فقد بدأ التدوين فيه متأخرًا عن التاريخ، ويعتبر أبو القاسم عبيد اللَّه بن خرداذبة الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهو فارسي الأصل - يعتبر من أقدم علماء الجغرافيا، وقد ألف كتاب: المسالك والممالك. ثم تلاه اليعقوبي المتوفي سنة ٢٨٢ هـ، وألف في ذلك كتاب: البلدان.
٩ - علم الطب:
كان لاختلاط العرب بالعجم أثر في تنمية المعارف، وبخاصة بعد عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة المأمون، ومن العلوم التي نقلها المسلمون عن الأمم الأخرى بفضل حركة الترجمة، علم الطب، فنبغ عدد غير قليل من الأطباء في عصر الرشيد، والمأمون، والمعتصم، وبخاصة عصر الواثق، وكانت مهنة الطلب يزاولها في بداية الأمر غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم، فاشتهر عصر الرشيد بختيشوع المتوفى سنة ٢٤٤ هـ، وفي عهد المعتصم يحيى بن ماسويه المتوفى سنة ٢٤٢ هـ.
وفي عهد الواثق بدأ التأليف الفعلي لعلم الطب، فقد طلب من حنين بن إسحاق المتوفي سنة ٢٧٠ هـ وضع كتاب في الطب، فألف كتابًا ذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء وغيرها من المسائل الطبية. ثم بدأت المصنفات تترى بعد ذلك، وبنيت المستشفيات في بغداد وغيرها.

صفحة رقم 69

الباب الثاني
ترجمة الماتريدي
ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته.
الفصل الثاني: البيئة التي نشأ فيها الماتريدي.
الفصل الثالث: شيوخه وأقرانه وتلاميذه.
الفصل الرابع: قيمة الماتريدي العلمية.

صفحة رقم 71

الفصل الأول
اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته
اسمه وكنيته:
الماتريدي هو: مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود بن مُحَمَّد أبو منصور الماتريدي.
وأصل نسبته: ماتريت أو ماتريد وهي محلة من سمرقند، وأحيانًا تضاف نسبته إلى سمرقند، فيقال: أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي السمرقندي، وكنيته: أبو منصور.
ألقابه:
لُقِّبَ الماتريدي بألقاب كثيرة نذكر منها: " إمام الهدى "، و " إمام المتكلمين "، و " مصحح عقائد المسلمين "، و " رئيس أهل السنة "، وهي ألقاب تومئ إلى ما له من مكانة مرموقة في نفوس مؤرخيه على قلتهم، كما تدل على منزلته العلمية الممتازة بين أصحابه.
نسبه:
قيل: إن نسب الماتريدي يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، وهذه النسبة تشريف له، ودليل على علو قدر أسرته وشرف نسبه؛ إذ إنها تنتهى إلى أبي أيوب الأنصاري، وهو الذي نزل عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين هاجر إلى المدينة.
لهذا يذكره البياضي فيقول: الإمام أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي الأنصاري.
وترجح هذه النسبة لدينا؛ لأن أحد شيوخ الماتريدي وهو أبو نصر العياضي من نسل ابن عبادة الأنصاري، وكذلك جاء في كتاب السمعاني أن أم القاضي الإمام أبي الحسن

صفحة رقم 73

علي بن الحسن وهو من سلالة أبي أيوب الأنصاري كانت بنت الإمام أبي منصور الماتريدي، ولا شك أن شرفاء العرب كانوا يراعون الكفاءة في الزواج في البلاد النائية.
والحقيقة أن كتب التراجم لا تعطينا شيئًا عن أسرة الماتريدي غير ما ذكره الدكتور خليف في مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي، فقد ذكر أن الأستاذ " تربتون " ذهب إلى أن مؤلف كتاب " نقض المبتدعة عن السواد الأعظم على طريقة الإمام أبي حنيفة " - هو أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد الماتريدي (٣٤٢ هـ) وربما يكون شقيق الماتريدي، وأنه تتلمذ على يد الإمام المانريدي، ولا يستبعد الدكتور خليف أن يكون تتلمذ على يده، لكنه يستبعد أن يكون شقيقه، ويرى أن المقصود هو القاضي أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي.
ولعل الذي ذهب إليه الدكتور خليف هو الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن المؤرخين لا يذكرون شيئًا عن هذه القرابة، ولا يعني مجرد الاشتراك في النسبة (الماتريدي) أنهما شقيقان؛ لأنها نسبة إلى الموطن وليست إلى العائلة أو القبيلة، ولقد عُرِفَ أكثر من شخص بالماتريدي، مثل القاضي الماتريدي الحسين الذي كان رفيقًا لأبي شجاع وإليه انتهت رئاسة أصحاب الإمام.
إذن فالباحث عن أسرة الماتريدي يجد صعوبة بالغة، وقد لا يهتدي إلى شيء ذي قيمة؛ نظرًا لإهمال المصادر التاريخية لذلك وسكوتها عنه.
مولده:
لم تذكر المصادر التاريخية شيئًا نطمئن إليه عن تاريخ مولد الماتريدي، ولكن نستطيع أن نتلمس مولده في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وعلى وجه التحديد في عهد المتوكل (٢٣٢ - ٢٤٧ هـ)، وبهذا يكون مولده متقدمًا على مولد أبي الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة على الأقل؛ إذ ولد الأشعري سنة ٢٦٠ هـ، وقيل: سنة ٢٧٠ هـ.
ويرجح كون مولده في عهد المتوكل أن هناك شيخين من شيوخه هما: مُحَمَّد بن

صفحة رقم 74

مقاتل الرازي، ونصير بن يحيى البلخي، مات الأول منهما سنة ٢٤٨ هـ، وتوفي الثاني سنة ٢٦٨ هـ؛ أضف إلى هذا أن من أقرانه من توفي سنة ٢٦٨ هـ وهو مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو الأزدي.
ويعني هذا أن الماتريدي قد ولد قبل عام ٢٤٨ هـ بوقت يسمح له بتلقي العلم عن شيخه الذي مات في تلك السنة.
ومن خلال ما سبق يمكننا القول: إن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، أي ما بين سنة ٢٣٣ هـ وحتى سنة ٢٤٠ هـ؛ لأنه كما سبق أن قررنا منذ قليل -اعتمادًا على رواية وفيات الأعيان- أنه ولد قبل الأشعري ببضع وعشرين سنة، وقيل في إحدى الروايات: إن الأشعري ولد سنة ٢٦٠ هـ، وبضم هذه الرواية إلى الرواية الأخرى التي ذكرت أن وفاة شيخه مُحَمَّد بن مقاتل كانت سنة ٢٤٨ هـ يتبين لنا صحة ما ذهبنا إليه، فقد يكون سنه على أقصى تقدير يوم وفاة شيخه خمسة عشر عامًا، وعلى أدنى تقدير ثماني سنوات، ولا يعقل أن يكون الماتريدي قد بدأ في تلقي العلم قبل الثامنة من عمره؛ لأنه وقتها يكون صغيرًا جدَّا، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يكون على أيدي الشيوخ الكبار أمثال الشيخ مُحَمَّد بن مقاتل، بل يكون على أيدي شيوخ صغار؛ حيث يبدأ الطفل في حفظ القرآن الكريم أولاً، وشيئًا من الحديث والشعر العربي، وعلى أقصى تقدير بعض مبادئ العلوم.
وفاة الماتريدي وضريحه:
اتفقت معظم كتب التراجم على أن الماتريدي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة، بينما ذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ويقطع بهذا بعض المؤرخين المحدثين، أما طاش كبرى زاده فيذكر أنه مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ولكن الصحيح المشهور هو الأول وهو ما أجمع عليه أصحاب الطبقات، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

صفحة رقم 75

الفصل الثاني
البيئة التي نشأ فيها الماتريدي
عرفنا في الفصل السابق أن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ومعنى هذا أن الماتريدي عاش في الفترة ما بين أواخر النصف الأول من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع، وكان ذلك في مدينة سمرقند التي تقع في إطار الدولة السامانية، والتي أشرنا إلى طرف من تاريخها في الفصل الثالث من الباب الأول، وقد رأينا أن نتمم ذلك بهذه الدراسة الموجزة لمدينة سمرقند التي نشأ فيها الماتريدي.
تاريخ سمرقند:
وسمرقند -بفتح السين والميم- ويقال لها: سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر.
قال أبو عون: سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف.
وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب، فسميت شمر كنت، فعربت فقيل: سمرقند.
وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخًا، وفيها بساتين ومزارع وأرجاء، ولها اثنا عشر بابًا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى السور آزاج، وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كل بابين منزل للنواب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض، وفيه أبنية وأسواق.
صفة سمرقند:
وأيًّا من كان الذي بني مدينة سمرقند، فإنها مدينة عظيمة، من أعظم مدن أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي بلد ثري جليل عتيق، ومصر بهي رشيق، رضي كثير الرقيق، وماء غزير بنهر عميق، بناء قوي سني وثيق، ودرس كثير لأهل الفريق، وعيش هنيء إليها الطريق، وحمل المتاع من كل فج عميق، وعلوم كثيرة وصدر نفيق، وخيل ورجال ومال دقيق، ذو رساتيق جليلة ومدن نفيسة وأشجار وأنهار، وتجار، في الصيف

صفحة رقم 76

جنة، أهل جماعة وسنة، ومعروف وصدقة، وحزم وهمة، غير أن في أهلها وهوائها بردًا، جفاة مع الغرباء، بلية في الشتاء، يشغبون على الأمراء، وفيهم نفخ وعجب ومراء، جيدة الجواري ردية الغلمان.
وليس غريبًا أن تكون سمرقند بهذا الوصف، فقد ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن مدينة خلف نهر جيحون تدعى سمرقند، ثم قال: لا تقولوا: سمرقند، ولكن قولوا: المدينة المحفوظة، فقال أناس: يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبحون ويهللون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي: يا دائم، يا دائم، يا اللَّه يا صمد، احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة وخارج المدينة ماء حلو عذب، من شرب منه شرب من ماء الجنة، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخارج المدينة على ثلاث فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها، ويدعون اللَّه بالذكر لهم، وخلف هَؤُلَاءِ الملائكة واد فيه حيات وحية تخرج على صفة الآدميين، تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبد فيها ليلة تقبل اللَّه منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يومًا فكأنما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينًا لا يدخل منزله فقر أبدًا، ومن مات في هذه المدينة فكأنما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة.
وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها: قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد كل شهيد منهم في سبعين من أهل بيته.
وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، بيد أني لم أعثر له على إسناد ولم أجده في كتب الحديث المعتمدة.
وللحق فقد كثر الواصفون لسمرقند حتى لقد استهوت الشعراء واستحفزت قريحتهم، منهم أحد ظرفاء العراق الذي كتب:

صفحة رقم 77

ولكن قلبي حلَّ فيها فعاقني... وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا
وإني لممن يرقب الدهر راجيًا... ليوم سرور غير مغرى بما مضى
وقال البستي:
للناس في أخراهم جنة... وجنة الدنيا سمرقند
يا من يسوي أرض بلخ بها... هل يستوي الحنظل والقند
دخول الإسلام سمرقند:
وأول من دخل سمرقند من المسلمين وفتحها هو سعيد بن عثمان عندما ولي خراسان من جهة معاوية سنة خمس وخمسين من الهجرة، فقد عبر النهر ونزل عليها محاصرًا، لكنه تركها، ومن ثم قال يزيد بن مفرغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
لهفي على الأمر الذي... كانت عواقبه الندامه
تركي سعيدًا ذا الندى... والبيت ترفعه الدعامه
فتحت سمرقند له... وبنى بعرصتها خيامه
وتبعت عبد بني علا... ج تلك أشراط القيامه
وفي سنة سبع وثمانين من الهجرة عبر قتيبة بن مسلم الباهلي النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثم غزا ما وراء النهر عدة غزوات في سنين سبع، وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصنامًا من أحرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأحرقها، فاضطرمت، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
ويمكن أن نقول: إن الماتريدي عاش في عصر الدولة السامانية التي وليت سمرقند ما بين ٢٦١ - ٣٨٩ هـ، وكان ملوكها أحسن الملوك سيرة وإجلالاً للعلم وأهله كما أشرنا من قبل.
لقد نشأ الماتريدي في هذه المدينة التي تتمتع بخصائص ومميزات، سواء من ناحية طبيعتها، أو أهلها، أو حتى حكامها، وهذه أمور تساعد على تحصيل العلم والبروز فيه،

صفحة رقم 78

وقد استفاد الماتريدي من مميزات نشأته في هذه البيئة فبرز في علوم شتى، أهمها: العقيدة، والتفسير فكان واحد عصره إمام دهره.
موقع سمرقند الجغرافي وحدودها:
تقع سمرقند في القارة الآسيوية، وكانت عاصمة لبلاد الصغد فيما وراء النهر، وتقع خلف نهر جيحون على الضَّفة الجنوبية منه، وتقع بخارى على الضفاف السفلى من هذا النهر، ويتبع سمرقند مدن: كرمانة، ودبوسية، وأشروسنة، والشاس، وتخسانجكث.
ولها حصن استدارة حائطه اثنا عشر فرسخًا في أعلاه أبرجة للحرب، وكان لها أربعة أبواب: باب مما يلي المشرق يعرف بباب الصين، مرتفع من جهة الأرض، ينزل إليه بدرج مطل على وادي الصغد، وباب مما يلي المغرب ويعرف بباب النوبهار، وباب مما يلي الشمال يعرف بباب بخارى، وباب مما يلي الجنوب يعرف بباب كش.
سمرقند إداريًّا:
خضعت سمرقند بعد الفتح الإسلامي لحكم الدولة الأموية، ولما سقطت الدولة الأموية صارت إلى الدولة العباسية، حتى جاء عصر الدويلات، فتبادلت عليها ممالك عدة، حتى خضعت لحكم السلاجقة كسائر بلاد ما وراء النهر، ثم خضعت للمغول حتى أجلتها الروس بعد غزوها عام ١٨٧٥ م، فأصبحت خاضعة من الناحية الإدارية للاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي الآن أصبحت تابعة لجمهورية أوزبكستان.
الحركة الثقافية في سمرقند:
تمتعت سمرقند بمكانة علمية وثقافية مرموقة، فقد خرج منها علماء أفذاذ في تاريخ الإسلام، كانت لهم بصمتهم الواضحة في الفكر الإسلامي، بل والإنساني، من أمثال: البخاري، ومسلم، وأبي زيد الدبوسي، وآل البزدوي، والكاساني، وعبد اللَّه النسفي، وأبي الحسن الكرخي، والجصاص الرازي، وأبي بكر الشاشي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي، ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
هذه هي البيئة التي نشأ فيها الماتريدي، وهي بيئة -من غير شك- تساعد على مدارسة العلم وتحصيله والنبوغ فيه، ولقد كان لها أكبر الأثر في نبوغ صاحبنا الماتريدي.

صفحة رقم 79

الفصل الثالث
شيوخه وتلاميذه وأقرانه
أولاً: شيوخه:
إن المصادر التي تحدثت عن هذا الإمام في تلقيه للعلوم والمعارف إنما تحدثت عن الصلة القوية بمدرسة الرأي، تلك المدرسة التي تتصل حلقاتها وتأثرها بالإمام المبجل أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي المولود سنة ثمانين في حياة بعض الصحابة، تلقى علومه على عطاء بن أبي رباح والشعبي والأعرج وابن دينار وخلق كثير، قال فيه الإمام الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم، وتوفي شهيدًا سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.
ولقد تتلمذ الشيخ أبو منصور الماتريدي على يد علماء كبار، ذكرت منهم كتب التراجم أربعة علماء يحتلون مكانة بارزة بين أعلام الفقه الحنفي وبين علماء زمانهم وهم:
١ - أبو نصر العياضي:
أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عياض بن يَحْيَى ابن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الفقيه السمرقندي.
قال في الجواهر المضيَّة عن أبي منصور الماتريدي: تخرج بأبي نصر العياضي، وأبو نصر العياضي ينتسب إلى الأنصار الذين ينتسب إليهم الماتريدي، وهو من أهل العلم والجهاد، لم يكن يضاهيه لعلمه وورعه وجلادته وشهامته أحد، استشهد وخَلَّفَ أربعين رجلاً من أصحابه كانوا من أقران الماتريدي، وله ولدان فقيهان فاضلان: أبو بكر مُحَمَّد، وأبو أحمد.

صفحة رقم 80

وذكره أبو المعين النسفي بـ في كتابه " التبصرة " قائلاً: كان أبو نصر العياضي يحرص أشد الحرص على جهاد أعداء اللَّه الكفرة، وكان من أشجع أهل زمانه وأربطهم جأشًا وأشدهم شكيمة، وكان في العلم بحرًا لا يدرك قعره، أما في الفروع والأصول فلا يدانيه غيره، ومن نظر في كتابه المصنف، في مسألة الصفات، وما أتى فيه من الدلائل على صحة قول أهل الحق وبطلان قول المعتزلة عرف تبحره في ذلك.
وقال أبو القاسم الحكيم السمرقندي: ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحد من أهل البدع والأهواء، وأولى الجدال والمراء في الدِّين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه - إلا تلقاها أبونصر العياضي مبتدئًا بما يفحمه ويقطعه.
وقد تفقه أبو نصر العياضي على الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، تلميذ سليمان بن موسى الجوزجاني، وتفقه عليه جماعة منهم ولداه.
٢ - أبو بكر أحمد الجوزجاني:
الجوزجاني من رجال القرن الثالث الهجري، روى عنه أبو منصور الماتريدي، وقد تتلمذ أبو بكر أحمد الجوزجاني على أبي سليمان الجوزجاني، وكان في أنواع العلوم في الذروة العالية، ومن مصنفاته: (الفروق)، و (التمييز)، و (التوبة) وغيرها.
٣ - مُحَمَّد بن مقاتل الرازي:
مُحَمَّد بن مقاتل هو قاضي الري، رُويَ عن أبي مطيع، وقال الذهبي: إنه حدث عن وكيع وطبقته.
وقيل: تفقه على أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي.
٤ - نصير بن يَحْيَى البلخي:
وقد تفقه على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وأبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي.
ونظرة عامة إلى شيوخ الماتريدي تبين لنا أنهم جميعًا يرجعون في علمهم إلى الإمام أبي حنيفة، فأبو بكر الجوزجاني ونصير البلخي تفقها على الإمام سليمان بن موسى بن

صفحة رقم 81

سليمان الجوزجاني الذي تفقه بدوره على أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن الشيباني تلميذي أبي حنيفة، كما أن مُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصيرًا البلخي قد تفقها على الإمامين: أبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة، وأخذ مُحَمَّد بن مقاتل أيضًا عن مُحَمَّد بن الحسن.
ويدلنا ذلك على أن أساتذة الماتريدي وشيوخه يتبعون في الفقه مذهب أبي حنيفة، ومن ثم فهو يعتبر متخرجًا من مدرسة أبي حنيفة وعلى يد أعلام المذهب الحنفي، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتبع المذهب الحنفي في الفقه، وبلغ فيه شأوًا عظيمًا بين أقرانه.
وفيما يلي نبين في عجالة أبرز الصلات بين أبي حنيفة والماتريدي، وهي صلات علمية ومذهبية وكلامية.
وأول هذه الصلات ما نراه عند الماتريدي من آراء أبي حنيفة الكلامية، فقد كان لأبي حنيفة آراء كلامية، فلقد روي عنه في علم الكلام موقفان:
الأول: يروى أن أبا حنيفة نظر في علم الكلام في مبدأ طلبه للعلم، وبلغ في معرفة أصوله ومذاهبه مبلغًا عظيمًا حتى غدا يشار إليه بالبنان، فمضى عليه زمن يخاصم عنه ويناضل؛ حتى دخل البصرة؛ لأن أكثر الفرق بها، وأخذ ينازع تلك الفرق؛ لأنه كان يعد الكلام أرفع العلوم وأفضلها؛ لكونه في أصول الدِّين.
أما الموقف الثاني: فيتمثل في انصراف الإمام أبي حنيفة عن الكلام وانشغاله بالفقه الذي ذاع صيته فيه، واشتهر به، ولقد ذكر عنه أنه نهى عن الخوض في علم الكلام والاشتغال به، وأنه ذكر أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يشتغلون بعلم الكلام مع أنهم عليه أقدر وبه أعرف، بل نهوا عنه أشد النهي، ولم يخوضوا إلا في الشرائع وأبواب الفقه وتعليم الناس، ومن ثم انصرف أبو حنيفة عن الكلام إلى الفقه.
ويمكن القول: إن الماتريدي قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية التي دونها في رسائله: كالفقه الأكبر، والفقه الأوسط، والعالم والمتعلم، ورسالته إلى أبي مسلم، وهي رسائل صغيرة، اشتملت -وخاصة رسالة الفقه الأكبر- على بيان عقيدة أهل التوحيد، وما يصح الاعتقاد عليه، وبعض الأدلة لبعض القضايا الكلامية، ونفي الإرجاء.

صفحة رقم 82

ولا يغيب عنا في هذا المقام مناظرات أبي حنيفة مع المخالفين في العقيدة.
ولما انصرف أبو حنيفة إلى الفقه استفاد منه الماتريدي أيضًا، غير أن هناك قضايا كلامية كثيرة نشبت ولم يبد أبو حنيفة فيها رأيًا أو جاءت بعد عصره، فخاض فيها الماتريدي ونقد آراء المخالفين، وعالج قضايا لم تكن موجودة مثل قضية المعرفة، كما كتب بحثًا تفصيليًّا عن الصفات وإثبات التوحيد، واستخدام العقل في ذلك، كذلك كان علم الكلام غير مقبول عند أهل السنة قبل الماتريدي، فجاء الماتريدي وأسس منه علمًا قائمًا على سوقه يلقى تأييدًا ويجد قبولاً لدى علماء أهل السنة.
وخلاصة القول: إنه إذا كان يرجع لأبي حنيفة الفضل في القيام بأول محاولة لإقامة مذهب كلامي على اعتقاد أهل السنة، فإن للماتريدي فضل إقامة مذهب متكامل أيده بالحجة والبرهان للتعبير عن اعتقاد أهل السنة، ولكن يبقى الماتريدي منتسبًا إلى أبي حنيفة ومدرسته.
ثانيًا: تلاميذه:
قد تتلمذ على يد الشيخ أبي منصور الماتريدي كثيرون، صاروا شيوخًا وعلماء كبارًا، وأسهموا في نهضة الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في العالم الإسلامي.
ومن هَؤُلَاءِ الذين تخرجوا بأبي منصور الماتريدي:
١ - إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد، أبو القاسم القاضي الحكيم السمرقندي.
قال عنه أبو سعد السمعاني: روى عن عبد اللَّه بن سهل الزاهد، وعمرو بن عاصم المروزي، وتفقه بأبي منصور الماتريدي.
وقد تولى إسحاق قضاء سمرقند أيامًا طويلة، وحمدت سيرته، ولقب بـ " الحكيم "؛ لكثرة حكمته ومواعظه.
ورُويَ عنه عبد الكريم بن مُحَمَّد الفقيه السمرقندي في جماعة.
وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر المحرم يوم عاشوراء، سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

صفحة رقم 83

بسمرقند، ودفن بها.
وذكر صاحب الطبقات السنية آخر يسمى إسحاق بن مُحَمَّد أبو القاسم المعروف بـ " الحكيم السمرقندي "، ثم قال: أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام، ثم قال: ذكره في الجواهر، وقال: أظنه الذي قبله.
والراجح أنهما شخص واحد؛ لأمرين:
الأول: تطابق الاسمين.
الثاني: أن الشيخ المأخوذ عنه في كلتا الحالتين هو الماتريدي.
وقد جمع صاحب الفوائد البهية في ترجمة الحكيم السمرقندي بين ما ورد فيها في الجواهر المضيَّة وما جاء في الطبقات.
٢ - عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو مُحَمَّد الفقيه البزدوي النسفي. قال عنه في الطبقات: تفقه على الإمام أبي منصور الماتريدي، وسمع من منصور أبي طلحة البزدوي صاحب البخاري، وبالبصرة من أبي علي اللؤلؤي، وحدث، وكان زاهدًا مفتيًا، رُويَ عنه أهل سمرقند.
وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمائة.
٣ - أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري:
قال عنه في الجواهر: صاحب أبي القاسم إسحاق بن مُحَمَّد المعروف بـ " الحكيم "، وأستاذهما أبو منصور الماتريدي، وعنه أخذ علم الكلام والفقه. ولم نعرف له سنة وفاة.
ثالثًا - أقرانه:
ومن أقران الماتريدي الذين صاحبوه في أثناء رحلته لطلب العلم وزاملوه:
١ - علي بن سعيد، أبو الحسن الرُّسْتُغْفَنيُّ، وهو من كبار مشايخ سمرقند، ومن

صفحة رقم 84

أصحاب الماتريدي الكبار، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب أهل الطبقات، وهو منسوب إلى إحدى قرى سمرقند.
ولعلي بن سعيد عدة مؤلفات، منها: " إرشاد المهتدي "، و " الزوائد والفوائد ".
وقد وقع خلاف بينه وبين الماتريدي حول مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق: فهو عند أبي منصور يكون مخطئًا في الاجتهاد، وعند أبي الحسن يكون مصيبًا فيه.
٢ - مُحَمَّد بن أسلم بن مسلمة بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو بن عوف الأزدي، وكنيته: أبو عبد اللَّه، ولي قضاء سمرقند في أيام نصر بن أحمد بن أسد بن سامان الكبير.
وقد توفي في شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين ومائتين.
٣ - مُحَمَّد بن اليمان، وكنيته: أبو بكر، الملقب بالسمرقندي الإمام، قال عنه في الجواهر: من طبقة الماتريدي. صاحب كتاب " معالم الدِّين "، وله كتاب " الرد على الكرامية ".
ومن خلال دراسة شيوخ الماتريدي وتلاميذه وأقرانه نتبين أن بيئة الماتريدي كانت غَاصَّةً بالعلماء الكبار من ذوي القدر والسبق، كما يتضح لنا طبيعة الحياة العلمية والفكرية والثقافية الحافلة التي كان يعيشها هذا العالم الجليل أبو منصور الماتريدي، ومدى ما بلغته من نضج وازدهار.
* * *

صفحة رقم 85

الفصل الرابع
قيمة الماتريدي العلمية
تبين لنا مما سبق أن الماتريدي تعلم على أيدي علماء كبار ينتسبون إلى أبي حنيفة، وأنه قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية، ولكنه لم يكن مجرد شارح ومفصل لطريقة أبي حنيفة، بل كان مبتكرًا، له منهجه الخاص به ومذهبه المغاير للمذاهب الكلامية الشائعة آنذاك، ومن ثم فإن علم الكلام استوى على سوقه على يد الماتريدي.
ولكي نتعرف قيمة الماتريدي العلمية لابد أن نعرض لأمرين:
أولاً: مصنفاته:
لم يكن الماتريدي متكلمًا فحسب، بل كان فقيهًا مفسرًا، ولعل أبرز ما يدل على علمه الواسع تلك الآثار والمصنفات الجليلة التي خلفها لنا، وهي على النحو الآتي:
١ - مصنفاته في التفسير والتأويل:
وفي هذا المجال ذكرت له كتب الطبقات كتابًا يسمى: " تأويلات أهل السنة " ذكره بهذا العنوان صاحب كتاب كشف الظنون وهو الكتاب الذي نقدم له ونقوم بتحقيقه.
وقد عنونت له نسخة كوبريلي بـ " تأويلات أبي منصور الماتريدي في التفسير "، ويقول السمرقندي في مقدمة شرح هذا الكتاب: كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ إمام الملة أبي منصور مُحَمَّد بن أحمد الماتريدي السمرقندي.
وذكره أصحاب التراجم والطبقات تحت عنوان " تأويلات القرآن "، وتحمله نسخ موجودة في تركيا وألمانيا ودمشق والمدينة المنورة وطشقند والمتحف البريطاني.
وذكر صاحب كشف الظنون كتابًا آخر يحمل عنوان: (تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد)، جاء في وصفه له أنه أخذه عنه أصحابه المبرزون تلقفًا؛ ولهذا كان أسهل تناولًا من كتبه، جمعه الشيخ الإمام علاء الدِّين مُحَمَّد بن أحمد ابن أبي أحمد السمرقندي صاحب " تحفة الفقهاء " في ثمانية مجلدات.

صفحة رقم 86

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) غير كتاب (تأويلات الماتريدية) عند حاجي خليفة صاحب كشف الظنون.
وبمراجعة بعض نسخ التأويلات المنسوبة للماتريدي تبين لنا:
١ - أن نسخة دار الكتب المصرية التي تحمل عنوان (تأويلات أهل السنة) ينقص منها الورقة الأولى، ولكن الثانية توافق ما يقابلها من نسخة كوبريلي.
٢ - أن نسخة مكتبة علي باشا كاملة غير أنها لا تذكر شيئًا عن المؤلف، وتحمل اسم (تأويلات القرآن)، وتبين من المراجعة أن نسختي دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة علي باشا مأخوذتان عن كتاب واحد، والخلاف فقط في التسمية.
ويتضح من هذا أن هاتين النسختين هما كتاب واحد، فالاختلاف بينهما لا يعدو الاختلاف في الاسم، وهو للماتريدي.
أما (تأويلات الماتريدية) الذي ذكره صاحب كشف الظنون، وذكر أن تلامذته تلقفوه عنه، فهو على ما ذكر حتى وإن أسند في بعض نسخه إلى الماتريدي؛ لأنه أسهل تناولًا من كتبه المصنفة، كما يؤكد ذلك مراجعة نسخة دار الكتب المصرية على الجزء الأول من نسخة (تأويلات الماتريدية).
أما ما ذكره الشيخ علاء الدِّين في مقدمته من أن الكتاب المسمى بـ (تأويلات القرآن أو تأويلات أهل السنة) ليس مما صنفه الماتريدي بنفسه وإنما أخذه عنه أصحابه تلقفًا، فهذا يخالف ما ذكرناه سابقًا، ويخالف ما يقرره الواقع، وما تكشفه الموازنة بين أسلوب الكتاب وكتاب التوحيد الذي اتفق المؤرخون جميعًا على أنه من تأليف الماتريدي، أضف إلى هذا أن وحدة المنهج ووحدة الأسلوب تكشفان عن أن الكتاب من عمل واحد لا جماعة.
وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) الذي نقوم بتحقيقه هو لأبي منصور الماتريدي السمرقندي.
٢ - مصنفاته في علم الكلام:
صنف الماتريدي - رحمه اللَّه - عدة كتب في مجال علم الكلام ذكرتها المصادر،

صفحة رقم 87

منها:
- كتاب: (التوحيد) مخطوط بمكتبة جامعة كامبردج، رقم ٣٩٨، ٣٦٥١ وقد طبع بمطبعة الجامعة بتحقيق الدكتور/ خليف.
- كتاب: (المقالات) مخطوط في مكتبة كيرولو باستانبول، رقم ٨٥٦، وهناك نسخة ناقصة منه بمكتبة إيمنينول باستانبول. أيضًا.
- كتاب: (الرد على القرامطة).
- كتاب: (بيان وهم المعتزلة).
- كتاب: (رد الأصول الخمسة لأبي مُحَمَّد الباهلي).
- كتاب: (رد أوائل الأدلة للكعبي).
- كتاب: (رد وعيد الفساق للكعبي).
- كتاب: (رد تهذيب الجدل للكعبي).
- كتاب: (رد الإمامة لبعض الروافض).
ولقد زاد بروكلمان كتاب (الأصول) في قائمة كتب الماتريدي، وذكر أنه لمؤلف مجهول، وذكر أيضًا أن كتابي (التوحيد) و (المقالات) هما كتاب واحد، بيد أنه أشار في الهامش إلى أنهما كتابان مستقلان في فهارس المرتضى.
ولم يحفظ لنا الزمان من هذه الكتب سوى كتاب (التوحيد) وكتاب (المقالات)، وكتاب (التوحيد) صحيح النسبة إلى الماتريدي، ذكرته كل كتب التراجم قديمًا وحديثًا.
٣ - مصنفاته في الفقه وأصوله:
ذكرت كتب الطبقات للماتريدي في هذا المجال كتابين: كتاب (الجدل)، وكتاب (مآخذ الشرائع).
وهذان الكتابان لهما أهميتهما ومكانتهما في أصول الفقه بين أتباع المذهب الحنفي، فيذكر الإمام علاء الدِّين الحنفي في ميزان الأصول: أن تصانيف أصحابنا قسمان:
قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان؛ لصدوره ممن جمع الأصول والفروع، مثل

صفحة رقم 88

(مآخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما.
وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني وحسن الترتيب، ويذكر الإمام علاء الدِّين أنه قد هجر القسم الأول؛ لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر.
ولم يقع لنا شيء من هذين المؤلفين، غير أن بعض كتب الأصول قد نقلت عنهما، فقد جاء في كتاب كشف الأسرار على أصول البزدوي في أثناء الحديث عن خبر الواحد إذا خالف عموم الكتاب أو ظاهره، وبيان الآراء في صحة تخصيص هذا العموم به: " وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي والإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين: لما أفادت عمومات الكتاب وظواهره، اليقين كالنصوص، والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به. فأما من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند، فيحتمل أن يجوز تخصيصها بها.
وجاء في بدائع الصنائع في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨): " قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي: إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا، لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور ".
٤ - كتب أخرى:
ذكر فؤاد سركين أن للماتريدي رسالة فيما لا يجوز الوقف فيه في القرآن، وهي رسالة صغيرة الحجم، موداعة بدار الكتب المصرية برقم ٣٨٤ قراءات. وعدد صفحاتها خمس، وتدور حول بيان المواضع التي لا يجوز الوقف عليها في قراءة القرآن، وفيما لو تعمد الواقف عليها الوقف بأنه يكفر، ولو وقف ساهيًا فسدت صلاته، وقد بينها الماتريدي -إن صحت نسبتها إليه- في اثنين وخمسين موضعًا في القرآن.
وهذه الرسالة لم يذكرها أحد للماتريدي سوى سزكين، ومع هذا فلا يستبعد أن تكون له؛ لأن الماتريدي كان دائم الاهتمام بالقرآن وتأويله وبيان أحكامه.

صفحة رقم 89

وذكر له بروكلمان أيضًا كتاب (مقتطفات في الوعظ)، ولم يذكره للماتريدي أحد سوى بروكلمان فيما نعلم من كتب الطبقات.
٥ - كتب نسبت إلى الماتريدي:
ومن الكتب المنسوبة إلى الماتريدي:
١ - كتاب: " شرح الفقه الأكبر " وهو مطبوع في حيدر آباد سنة ١٣٦٥ هـ، ذكره فيننسك، وذكر أنه راجع بعض النسخ المخطوطة لهذا الشرح فلم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي، ورجح أن السبب في هذه النسبة وقوع بعض أقوال الماتريدي فيه، وأيد هذا الشيخ أبو زهرة في كتابه عن أبي حنيفة، واستند في ذلك إلى الخلاف مع آراء الأشعرية، والمذهب الأشعري لم يتم إلا بعد الجيل الذي تلا وفاة الأشعري. ومن ثم يترجح أن نسبة هذا الشرح إلى الماتريدي نسبة غير صحيحة.
٢ - كتاب العقيدة، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية مخطوطة تحت رقم (١٤٧) تيمور عقائد، وينفي نسبته للماتريدي السبب السابق نفسه في نفي نسبة كتاب (شرح الفقه الأكبر) إليه؛ إذ اشتمل الكتاب على الخلاف بين الأشعرية والماتريدية.
٣ - كتاب (شرح الإبانة)، وهي نسبة غير صحيحة؛ لافتقارها إلى السند، كذلك لم نر أحدًا نسب هذا الكتاب إلى الماتريدي من أصحاب كتب الطبقات، سواء القدماء أو المحدثون، كذلك لم يرد أن كتاب (الإبانة للأشعري) وصل إلى بلاد ما وراء النهر في عصر الماتريدي.
إذن فنسبة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذا الكتاب إلى الماتريدي غير صحيحة.
وهذه الكتب التي ذكرتها كلها مخطوطة باستثناء كتاب التوحيد، بل إن معظم هذه الكتب مفقود.
ثانيًا: ثناء العلماء على الماتريدي:
ليس غريبًا -بعد هذا كله- أن يثني العلماء على الماتريدي ثناء عظيمًا، ولقد رأينا كيف لقبوه بألقاب هو لها أهل، فقد لقبوه -كما ذكرنا- بإمام الهدى، وإمام المتكلمين، ومصحح عقائد المسلمين وغيرها.

صفحة رقم 90

ولن نحصي ما أثنى عليه به العلماء، ومن ثم نقتطف بعض الومضات الكاشفة عن تقدير العلماء له والمبرزة لمكانته العالية عندهم.
ففي الفواكه الدواني يأتي الماتريدي وأبو الحسن الأشعري على رأس علماء أهل السنة، فيقول: " كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي ".
قال صاحب النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب الوزاني عند كلامه عن الماتريدي: " وكان معاصرًا للأشعري، وسبقه إلى نصرة أهل السنة ".
والفرقة الناجية -كما يرى بعض العلماء- هم الأشاعرة مع الماتريدية الذين تابعوا في الأصول علم الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي.
ويراه بعضهم رئيس مشايخ سمرقند، قال صاحب كشف الأسرار: " وهو مذهب مشايخ سمرقند، رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم اللَّه ".
وقال عنه التميمي: إنه قد فاق الأقران وتجمل به الزمان، وشاعت مؤلفاته، وسارت مصنفاته، واتفق الموافق والمخالف على علو قدره وعظمة محله، فإنه كان من كبار العلماء الأعلام الذين بعلمهم يقتدى وبنورهم يهتدي.
قال التفتازاني: إن المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري، أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة.
وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي، وهو مُحَمَّد بن مُحَمَّد، كان يلقب بإمام الهدى.
ويقول أبو معين النسفي في التبصرة: ولو لم يكن في الحنفية إلا الإمام أبو منصور الماتريدي الذي غاص في بحور العلم، واستخرج دررها وأتى حجج الدِّين، فزين

صفحة رقم 91

بفصاحته، وغزارة علومه، وجودة قريحته غررها، حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم السمرقندي أن يكتب على قبره حين توفي: هذا قبر من حاز العلوم بأنفاسه واستنفد الوسع في نشره وأقياسه، فحمدت في الدِّين آثاره... اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية ما يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين؛ ولهذا كان أستاذه أبو نصر العياضي لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر، وكان كل من رآه من بعيد نظر إليه نظر المتعجب وقال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ).
ويذكر أيضًا أنهم قالوا في تقديره: كان من أكابر الأئمة وأوتاد الملة.
وقال الكفوي في ترجمته: إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره الله بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.
قال صاحب الروضة البهية: اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين: أحدهما: الإمام أبو الحسن الأشعري، والثاني: الإمام أبو منصور الماتريدي، فكل من اتبع واحدًا منها اهتدى وسلم من الزيغ والفساد في عقيدته.
وقال العلامة الدردير: واشتهر الأشاعرة بهذا الاسم -أي أهل السنة- في ديار خراسان والعراق والحجاز والشام وأكثر الأقطار. وأما ديار ما وراء النهر فالمشهور فيها بهذا الاسم هو أبو منصور الماتريدي وأتباعه المعرفون بالماتريدية، وكلام الفريقين على هدى ونور.
وفي مفتاح السعادة: إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما: حنفي، والآخر: شافعي، أما الحنفي: فهو أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي إمام الهدى... وأما الآخر الشافعي: فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدِّين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري.
ويرى الشيخ مُحَمَّد زاهد الكوثري: أنه إذا أطلق أهل السنة فالمراد بهم الأشاعرة

صفحة رقم 92

والماتريدية، وعند التحقيق، والاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية من الكتاب، والسنة، والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي وهم الأشعرية، والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.
الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية ومبادئهم هي مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية.
وقد ذكر العلامة البغدادي: أن أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، وأخرج من هَؤُلَاءِ الحشوية الذين يشترون لهو الحديث، ومن أهل السنة فقهاء هذين الفريقين -الرأي والحديث- وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث.
ويقول الزبيدي عن الماتريدي في شرحه على الإحياء: وحاصل ما ذكروه أنه كان إمامًا جليلاً مناضلاً عن الدِّين مُجليًا لعقائد أهل السنة، قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظراتهم، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم.
وقال عنه صاحب إشارات المرام العلامة كمال الدِّين أحمد البياضي الحنفي -من علماء القرن الحادي عشر الهجري-: " وحقق الأصول في كتبه بقواطع الأدلة، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية ".
فالماتريدي على هذا محقق مدقق، قال الكوثري يصف تدقيقه وتحقيقه: إلى أن جاء إمام أهل السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى، فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها، فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد.
يدلنا هذا كله على مكانة الماتريدي العالية، وقدمه الراسخة في العلم، وذيوع شهرته، ومحبة العلماء له، واقتدائهم به، وأخذهم عنه، فرحم اللَّه - تعالى - الشيخ الماتريدي لقاء ما قدمه للعقيدة الإسلامية الصحيحة من جهود مشكورة في الذب عنها، ودحض شبه المغرضين حولها.

صفحة رقم 93

الباب الثالث
الفرق والمذاهب الإسلامية
ويشتمل على الفصلين الآتيين:
الفصل الأول: الفرق السياسية.
الفصل الثاني: المذاهب الاعتقادية.

صفحة رقم 95

الفصل الأول
الفرق السياسية
السياق التاريخي لنشأة الفرق الإسلامية:
إن الحديث عن الفرق الإسلامية ومذاهبها السياسية وآرائها العقدية يمت بأوثق الأسباب للأحداث السياسية التي ألمت بالمجتمع الإسلامي منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما شجر بين المسلمين من وجوه الخلاف حول بعض المسائل التي طرأت بعد رحيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم مسألة نشب فيها الخلاف ووقع التخاصم والنزاع بسببها بين المسلمين هي مسألة الإمامة أو الخلافة العظمى، بحيث يصح لنا أن نزعم أن مدار الخلاف بين المسلمين وما انبنى عليه من ظهور الفرق المتباينة في الأصول تباينها في الفروع - على الإمامة.
ومن الحق أن نقرر أن الفرق التي نزعت في أول أمرها منزعًا سياسيًّا، وخرجت إلى الوجود من رحم الأحداث السياسية نفسها، لم تلبث أن صارت لها آراء في الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية جميعًا، على نحو مثلت معه هذه الآراء مذاهب مستقلة لعلها أبقى أثرًا وأعظم خطرًا في التاريخ من المعتقدات السياسية التي غدت مسائل تاريخية لا يعول عليها كثيرًا ولا يلتفت إليها إلا قليلاً في واقعنا المعاصر.
ولا غرو في أن ترتبط المذاهب السياسية بالنظريات العقدية في ظل شريعة لا تفصل بين الدِّين والسياسة فصلاً قاطعًا، على غرار الشرائع الأخرى، فالدِّين -في شريعة الإسلام- لب السياسة وقوامها، ووظيفة السياسة منوطة بحماية الإسلام والذود عن أصوله المقررة، وحراسته من عبث العابثين وهجوم المغرضين، وذلك ما سبق إلى الالتفات إليه ابن خلدون حين عرف الخلافة بأنها: " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ".
وثمة أمر آخر نود الإلماح إليه والتنويه به، وهو أن الخلاف بين الفرق الإسلامية لم يمس ركنًا من أركان الإسلام، أو أصلاً من أصوله الثابتة التي نقلت إلينا بالتواتر فغدت

صفحة رقم 97

معلومة من الدِّين بالضرورة لا يسع مسلمًا إنكارها أو التشكيك فيها، " فلم يكن الاختلاف في وحدانية اللَّه تعالى وشهادة أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أن القرآن نزل من عند اللَّه القدير، وأنه معجزة النبي الكبرى، ولا في أنه يروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية كلها جيلاً بعد جيل، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم، ولا في طريق أداء هذه التكليفات، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة ".
وغني عن البيان أن شيئًا من الخلاف بين المسلمين لم يقع إبان عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " فقد كان المسلمون على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا ".
ولا غرابة في ذلك؛ إذ كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوضح للصحابة ما تشابه عليهم من مسائل الدِّين، ويجيب عما يُطْرَحُ عليه من أسئلة جوابًا يُلْقي في ضمير السائل برد اليقين ويقطع من نفسه وعقله دواعي الحيرة والاضطراب.
ويوشك الإجماع أن ينعقد على أن أول خلاف حقيقي واجه الجماعة الإسلامية ظهر بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو خلافهم حول الإمامة، حيث سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للنظر في أمر الإمامة وتعيين من يخلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما يوارِ التراب بعد جسده الطاهر، وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج غير مدافع، ولم يَرْتَبِ الأنصار في أن الإمامة حق لهم، ولا ينبغي أن تخرج عنهم إلى إخوانهم المهاجرين، ولم يعدموا من الأدلة الواضحة والبراهين المفحمة -في نظرهم- ما يسوقونه بين يدي رأيهم ذاك، " فإن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لَبِثَ في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، فما آمن منهم إلا قليل، ولا منعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الأذى ولا أعزوا الدِّين، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به وأعزوا دينه ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءًا وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب، وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راض، وبهم قرير العين، فهم أولى الناس أن يخلفوه ".
بيد أن " نظرية الأنصار " تلك وجدت إنكارًا ومعارضة من المهاجرين؛ إذ لم يكد خبر السقيفة ينتهي إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - حتى قصدا نحو مجتمع الأنصار في

صفحة رقم 98

نفر من المهاجرين، لإبداء الرأي في أمر الخلافة، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الإمامة في قريش " وأن العرب لا تذعن بالطاعة إلا لهم، كما أنهم عشيرة الرسول وذوو رحمه، فهم أول من آمن به، واحتملوا في سبيل نصرته من العنت والمشقة شيئًا كثيرا يُسَوِّغُ لهم أن يرثوا الأمر من بعده.
وكما كان الأنصار أول من أعز الإسلام وانتصر له، كانوا أول من حماه شر الفتنة، وعواقب الخلاف، فأذعنوا لإخوانهم المهاجرين منقادين، ورجعوا إلى الحق طائعين " بعد

صفحة رقم 99

أن قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، من يبارزني؟ وبعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه، واجتمعوا على إمامته، واتفقوا على خلافته، وانقادوا لطاعته ".
وثمة نظرية ثالثة ذهب بعض الباحثين إلى أن لها وجودًا ظاهرًا آنذاك، وهي أن تكون الخلافة في بيت النبي، وأولى الناس من قرابة النبي وأمسهم رحمًا به هو علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - فقُدْمَتُه في الإسلام وسابقته في الذود عنه معروفة ذائعة، ومكانه من النبي مكانه، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، ووالد سبطيه الحسن والحسين، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر.
على هذا النحو رأى القائلون بهذه النظرية أن بيت بني هاشم أحق بالخلافة من سواه، وروي في ذلك أن عليًّا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال: ماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال علي: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ".
يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته.
ومهما يكن من أمر فقد آل أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكانت بيعته بيعة حرة؛ إذ توفي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دون أن يحدد من يخلفه في هذا الأمر، وخلا الكتاب من النص عليه أو تعيينه، " صحيح أنه قد ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر بأن يؤم المسلمين في الصلاة أثناء مرضه الذي مات فيه، وفهم البعض أن الصحابة قد اختاروه لهذا وقالوا: قد اختاره الرسول لأمر ديننا، فأولى أن نختاره لأمر دنيانا، ولكن هذا لا يعد عهدًا، وإن كان في جملته يشير إلى فضل أبي بكر ومقامه بين الصحابة؛ إذ لو كان عهدًا لاستشهد به في السقيفة وحسم النزاع ".
ثم عهد أبو بكر -لما أحس بدنو أجله وخاف على المسلمين شر الفتنة وعاقبة الخلاف

صفحة رقم 100

- بالإمامة لعمر على سبيل الترشيح.
وسكن الخلاف ونامت الفتنة في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر؛ لأنهما أخذا نفسيهما بالعدل الشامل المطلق في دقيق الأمور وجليلها، وانتصف كل واحد منهما من نفسه قبل أن ينتصف من رعيته، وبلغا من العدل والمساواة بين الناس مبلغًا أرهق من أتى بعدهما إذا رغب أن يحذو حذوهما ولا يخالف سيرتهما.
كما شغل المسلمون آنذاك بقمع المرتدين في داخل الجزيرة العربية، وبالجهاد وفتح الأمصار خارجها لنشر الإسلام وإعلان التوحيد، فغدا المسلمون كما كانوا في العهد النبوي على منهاج واحد ورأي واحد أتاح للدولة أن تزدهر في فترة قصيرة من عمر الحضارة الإنسانية.
الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية:
ولي الخلافة عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب - رضوان اللَّه عليهما - بعد أن أعطى المواثيق والعهود بالنصح للأمة، والالتزام بسنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
ورضي المسلمون على خلافة عثمان في ست السنين الأولى، ثم نقموا منه أمورًا رأوا أنه خالف فيها عن سيرة الشيخين وانحرف عن سنة النبي الكريم.
واستحال الإنكار الهادئ والاعتراض الناصح سخطًا عارمًا عم الأمصار المختلفة، وثورة عنيفة عمد المنخرطون فيها إلى خلع الخليفة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وأفضت الثورة المسلحة إلى مقتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بعد أن حوصر في داره أربعين يومًا منع خلالها من إمامة المسلمين في الصلاة.
وقد فتح مقتل عثمان على المسلمين باب الفتنة واسعًا، وأذكى نيران الخلاف بينهم من جديد، وأورث القلوب والضمائر ضغنًا وسوء ظن كان خليقًا بأن يعصف بالوحدة الإسلامية ويقوض أركانها في هذا الطور الباكر.
ولم يستطع علي بن أبي، طالب -الذي بويع بالخلافة من أغلبية المسلمين- أن يرأب صدع الخلاف وينتاش المسلمين من هوة الفتنة السحيقة التي تردوا فيها.

صفحة رقم 101

وكان من أشد المعارضين لعلي طلحة بن عبيد اللَّه والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ رأوا أنه قعد عن نصرة عثمان، وكان في استطاعته رد الناس عنه، وكان من حجة بعضهم أنه -وقد بويع- يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان، ويقول كل من طلحة والزبير: إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى، ومن السابقين للإسلام، ويقول معاوية: إنه أولى الناس رحمًا بعثمان، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه.
يقول أبو الحسن الأشعري: " ثم بويع علي بن أبي طالب - رضوان اللَّه عليه - فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم ".
وأما طلحة والزبير فقُتلا يوم الجمل، وبقي معاوية وحده حاملاً لواء المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب، مستعصمًا بالشام مطمئنًا إلى إخلاص أهله وصدق ولائهم.
لم يجد علي بن أبي طالب مفرًّا من قتال معاوية بن أبي سفيان للقضاء على خطره ورد المسلمين إلى ما كانوا عليه من وحدة وتماسك، فقاتله في صفين وكاد النصر يتم له لولا أن عمد معاوية إلى خدعة التحكيم، " فقال لعمرو بن العاص: ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ قال: بلى، قال: فما المخرج؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال: لك ذلك، ولك به عهد الله وميثاقه، قال: مر بالمصاحف فترفع، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق كتاب اللَّه بيننا وبينكم، البقية البقية، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه، وإن خالفك خالفه أصحابه "، وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص، ففعلوا ذلك، فاضطرب أهل العراق على عليٍّ - رضوان اللَّه عليه - وأبوا عليه

صفحة رقم 102

إلا التحكيم، وأن يبعث عليٌّ حكمًا ويبعث معاوية حكمًا، فأجابهم عليٌّ إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه، فلما أجاب عليٌّ إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكمًا، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكمًا، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور، كالتالي:
أولًا: الخوراج
بينا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين عليٍّ ومعاوية أن أصحاب عليٍّ من أهل العراق قد حملوه حملاً على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح، وقال أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، كتاب اللَّه بيننا وبينكم، وذلك على الرغم من أن عليًّا - كرم اللَّه وجهه - بَيَّنَ لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب اللَّه من مكر وخديعة، فأبوا إلا التحكيم.
فلما وقف هَؤُلَاءِ على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين -أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص- من العهد والميثاق؛ لأن حكم اللَّه في الأمر واضح جلي، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق، وليس يصح هذا الشك؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون -بلا شك- أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية: " لا حكم إلا لله " فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء، وأصبحت شعار هذه الطائفة.
وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته.
فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك باللَّه شيئًا مذ آمن، وهبه أخطأ في قبول التحكيم -مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرًّا لا مختارًا - فلا يعدو أن يكون مجتهدًا أخطأ فله أجر واحد، وإن كان قد أصاب فله أجران، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.

صفحة رقم 103

جماع رأي الخوراج وما جمعهم من مبادئ:
لم تلبث آراء الخوراج السياسية أن تحددت، وأخذت شكل نظرية يسع الدارسين ومؤرخي الفرق إضافتها إلى النظريات السياسية الإسلامية، ولا ريب أن مناظرات رؤسائهم ومجادلاتهم لخصومهم كابن عَبَّاسٍ، وعلي بن أبي طالب وابن زياد وعبد اللَّه بن الزبير قد أسهمت بشكل ملحوظ في بلورة موقفهم السياسي وتحديد معالمه.
ومعلوم أن الخوراج لم يكونوا نحلة واحدة متفقة آراؤها وأنظارها إلى مسائل السياسة والعقيدة، بل تفرقوا أحزابًا شتى ومذاهب متعارضة، بيد أن ثمة مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة، هما:
- القول بإكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بتحكيم الحكمين.
- أما المبدأ العام الثاني: فهو وجوب الخروج على الإمام الجائر.
وقد ذكر الكعبي في مقالاته أن مما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها الإكفار بارتكاب الذنوب، بيد أن عبد القاهر البغدادي ذهب إلى أن رأي الكعبي منابذ للصواب، وأنه قد أخطأ في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم، واحتج البغدادي بأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقيهم، وقد قال قوم من الخوارج: إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص، فأما الذنب الذي فيه حدٌّ أو وعيد في القرآن، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه، مثل تسميته زانيًا وسارقًا، ونحو ذلك.
وقد قالت النجدات: إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين.
يقول عبد القاهر البغدادي: وفي هذا بيان خطأ الكعبي في حكايته عن جميع الخوراج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم.
وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن - رحمه اللَّه - من تكفيرهم عليًّا وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم.

صفحة رقم 104

ومهما يكن من أمر فإن ما ذهب إليه الخوارج من تكفير لأقطاب الصحابة وأعلامهم قد دفع المسلمين إلى البحث في ماهية الكفر والإيمان؟ وتمييز الحدود الفارقة بين المعصية والكفر والفسوق، والتماس العلاقة بين الإيمان وبين العمل، إلى آخر هذه المسائل اللاهوتية التي ترتب عليها نشأة كثير من الفرق الدِّينية.
ومن بين المبادئ التي أذاعها الخوارج في المجتمع الإسلامي أن الخلافة ليست حقًّا مقصورًا قريش دون سائر العرب، بل يتولاها من تحققت فيه شروطها من الكفاية والعدل والبيعة الحرة، وخالفوا في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اشتراط القرشية إعمالاً لحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأئمة من قريش ".
ورأى الخوارج أن عدم اشتراط القرشية ينسجم مع ما جاء به الإسلام من مبادئ العدل والمساواة بين الناس دونما نظر إلى لون أو جنس، فمناط المفاضلة بين الناس التقوى والعمل الصالح.
فرق الخوارج:
الخوارج عشرون فرقة، ذكرها البغدادي صاحب الفرق بين الفرق وهي: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقًا منها: الحازمية، والشعيبية، والمعلومية، والمجهولية، وأصحاب طاعة لا يراد اللَّه تعالى بها، والصلتية، والأخنسية، والشبيبية، والشيبانية، والمعبدية، والرشيدية، والمكرمية، والحمزية، والشمراخية، والإبراهيمية، والواقفة، والإباضية.
والإباضية منهم افترقت فرقًا معظمها فريقان: حفصية وحارثية.
وليس من وكدنا في هذا المقام -وهو مقام إيجاز واختصار وليس مقام بسط وتطويل- أن نستوعب آراء هذه الفرق جميعها، وإنما نجتزئ بذكر فرق خمسة منها، رأى الباحثون قبلنا أنها أشهر فرق الخوارج، وهي:
- المحكمة الأولى.

صفحة رقم 105

- الأزارقة.
- النجدات.
- الصفرية.
- الإباضية.
أولًا: المحكمة الأولى:
وهم من خرج على عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قبل التحكيم، ويقال لهم: محكمة، وشراة، وسموا محكمة؛ لقولهم: " لا حكم إلا لله "، وأما تسميتهم بالشراة فمحمولة على قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، فكانوا يقولون: شرينا أنفسنا في طاعة اللَّه، أي: بعناها بالجنة.
يقول عبد القاهر البغدادي: " واختلفوا في أول من تشرى منهم، فقيل: عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي، وقيل: أولهم يزيد بن عاصم المحاربي، وقيل: رجل من ربيعة من بني يشكر، كان مع عليٍّ بصفين، فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلاً، وحمل على أصحاب عليٍّ وقتل منهم رجلاً، ثم نادى بأعلى صوته، ألا إني قد خلعت عليًّا ومعاوية، وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب عليٍّ حتى قتله قوم من همدان ".
ومهما يكن من أمر فقد انحاز الخوارج بعد صفين إلى حروراء، وهم يومئذ اثنا عشر ألفًا، وزعيمهم يومئذ عبد اللَّه بن الكواء وشبث بن ربعي، فخرج إليهم علي بن أبي طالب يناظرهم فوضحت حجته عليهم، فلم يسع بعض الخوارج إلا الإذعان للحق، فانضموا إلى علي وكان منهم ابن الكواء نفسه، وخرج الباقون إلى النهروان وأَمَّرُوا على أنفسهم رجلين، أحدهما: عبد اللَّه بن وهب الراسبي، والآخر: حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية.
فلما رأى علي انحراف الخوارج عن سماحة الإسلام ومحاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والبطش وليس بالجدال بالتي هي أحسن، عمد إليهم في أربعة آلاف من أصحابه، وناظرهم مرة أخرى، وبين لهم وجه الحق فيما نقموا منه، فاستمال منهم يومئذ ثمانية آلاف، ولم يبق إلا أربعة آلاف أبوا إلا قتال عليٍّ وأَمَّرُوا عليهم -كما ذكرنا-

صفحة رقم 106

عبد اللَّه بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي.
والتقى الجمعان في النهروان، وظهر عليٌّ وصحبه على الخوارج، وقتل عبد اللَّه بن وهب، وذو الثدية، ولم يفلت من الخوارج في هذا اليوم إلا تسعة أنفس:
صار منهم رجلان إلى سجستان، ومن أتباعهما خوارج سجستان، ورجلان إلى اليمن، ومن أتباعهما إباضية اليمن، ورجلان صارا إلى عمان، ومن أتباعهما خوارج عمان، ورجلان إلى ناحية الجزيرة، ومن أتباعهما كان خوارج الجزيرة، ورجل منهم صار إلى تل موزن.
خلاصة رأي المحكمة الأولى:
ذهب المحكمة الأولى -كسائر الخوارج- إلى إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل وصفين، ومعاوية وصحبه، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم.
ومن آرائهم كذلك إكفار كل ذي ذنب ومعصية، والقول بخلوده في النار.
ثانيًا: الأزارقة:
تنسب هذه الفرقة إلى نافع بن الأزرق الحنفي، وهم أقوى فرق الخوارج بأسًا وأعزها نفرًا، يقول البغدادي: " ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددًا ولا أشد منهم شوكة ".
وقد بايع الأزارقة نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين، ولم يلبث أن انضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفًا.
وقد هدد الخوارج الأزارقة الدولة الإسلامية تهديدًا كبيرًا، حيث استولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس، ثم بسطوا نفوذهم على كرمان وجبوا خراجها، فحاربهم عبد اللَّه بن الحارث عامل عبد اللَّه بن الزبير على البصرة، ومنيت الجيوش التي وجهها لقتالهم بهزائم منكرة، فعهد عبد اللَّه بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة بقتالهم، فهزمهم عند الأهواز وقتل نافع بن الأزرق، فبايعت الأزارقة بعده عبيد اللَّه بن مأمون التميمي فقتل، ثم بايعوا قطري بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين، " فقاتلهم المهلب حروبًا كانت سجالاً، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس، وجعلوها دار هجرتهم، وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة، بعضها في أيام عبد اللَّه بن

صفحة رقم 107

الزبير، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق ".
وكان المهلب قبل الواقعة يثير خلافهم، فتحتدم المناقشة بينهم احتدامًا شديدًا، ثم يلقاهم وهم على هذا الخلاف؛ ولذا أخذ شأن الخوارج يضعف في عهد قطري بن الفجاءة؛ لاختلافهم فرقًا من جهة، ولأثر هذا الاختلاف في مواقفهم في ميدان القتال من جهة ثانية، وتألب المسلمين عليهم من جهة ثالثة، وغلظتهم في معاملة مخالفيهم من جهة رابعة.
وقد توالت هزائمهم على يد المهلب ومن جاء بعده من قواد الأمويين حتى انتهى أمرهم.
خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة:
أجمل عبد القاهر البغدادي مبادئ الأزارقة في مسائل أربعة:
أولاً: قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون: إنهم كفرة لا مشركون.
ثانيًا: قولهم: إن القعدة -ممن كان على رأيهم- عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم.
ثالثًا: أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم: أن يُدْفعَ إليه أسير من مخالفيهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله قالوا: هذا منافق ومشرك وقتلوه.
رابعًا: استباحوا قتل نساء مخالفيهم، وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.
ومن آرائهم كذلك: أن مرتكب الكبيرة والمعصية كافر مخلد في النار، وأن دار مخالفيهم دار كفر، كما يكفرون -كسائر الخوارج- عليًّا في التحكيم، والحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص.

صفحة رقم 108

ومن الآراء الفقهية التي انفرد بها الأزارقة:
أنهم ينكرون حد الرجم على الزاني المحصن، وحجتهم في ذلك أن القرآن لم ينص على ذلك، فيهملون بذلك السنة الصحيحة في رجم الزاني المحصن.
كما يرون أن حد القذف لا يثبت إلا لمن يقذف محصنة بالزنى، ولا يثبت على من يقذف المحصنين من الرجال؛ لأنهم أخذوا بظاهر النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤). فلم يذكر حد قذف المحصنين من الرجال.
ثالثًا: النجدات:
وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي، والسبب في ظهور هذه الفرقة أن بعض الخوارج الأزارقة قد نقموا من رئيسهم نافع بن الأزرق براءته من القعدة عنه بعد أن كانوا على رأيه وإكفاره إياهم، وأنه استحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم؛ ففارق نافعًا جماعة من أتباعه منهم أبو فديك وعطية الحنفي، وراشد الطويل وغيرهم، وذهبوا إلى اليمامة، وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم، كما أكفروا من قال بإمامة نافع.
ومن المسائل التي خالف فيها النجدات الأزارقة استحلالهم دماء أهل الذمة، وأما الأزارقة فذهبوا إلى تحريم دمائهم احترامًا لذمتهم التي دخلوا بها في أمان أهل الإسلام.
وقال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام، من ناحية الشرع، وأن إقامة إمام واجبة وجوبًا مصلحيًّا، فإذا أقام المسلمون حدود الدِّين والتزموا أحكام الشريعة وتناصفوا فيما بينهم، فليس ثمة حاجة إلى وجود خليفة أو إمام.
وقد ابتدع النجدات مبدأً جديدًا لم يكن معروفًا عند الخوارج آنذاك، وهو مبدأ التقية ومعناه: " أن يظهر الخارجي أنه جماعي؛ حقنًا لدمه، ومنعًا للاعتداء عليه، ويخفي عقيدته حتى يحين الوقت المناسب لإظهارها ".

صفحة رقم 109

وقد تولى نجدة أصحاب الحدود ممن هم على مثل رأيه، وقال: لعل اللَّه يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه.
وزعم النجدات كذلك أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ثم أصر عليها فهو مشرك، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم.
فمناط الشرك في ارتكاب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إنما هو الإصرار عليها، فمن أصر على صغيرة فهو مشرك، ومن لم يصر على كبيرة فهو مسلم، وإن شاب إسلامه شيء من نقص، يلحقه بأهل المعصية.
ومن بدع نجدة وضلالاته أنه أسقط حد الخمر.
وجماع مذهب النجدات أن الدِّين أمران:
أحدهما: معرفة اللَّه تعالى ومعرفة رسوله، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم.
والثاني: الإقرار بما جاء من عند اللَّه جملة.
وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع، فإن الناس يعذرون بجهلها، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ.
ولم يلبث النجدات أن ثاروا على رئيسهم نجدة وخرجوا عليه لأمور نقموها منه، وقد تشعبوا لهذا إلى ثلاث فرق:
١ - فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان، وتبعهم خوارج سجستان؛ ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت: عطوية.
٢ - وفرقة صارت مع أبي فديك حربًا على نجدة، وهم الذين قتلوا نجدة.
٣ - وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته.
رابعًا: الصفرية:
تنسب هذه الفرقة من الخوارج إلى زياد بن الأصفر، وقد اختلف الخوارج الصفرية في

صفحة رقم 110

الحكم على مرتكب الكبيرة، وتباينت آراؤهم في ذلك أشد التباين:
فمنهم من ذهب إلى الحكم عليه بالشرك، شأنهم في ذلك شأن الأزارقة.
وزعم بعضهم أن الذنب الموضوع له حد لا نتجاوز تسمية اللَّه فيه من أنه زانٍ أو سارق أو قاذف وليس صاحبه كافرًا ولا مشركًا، أما الذنب الذي لم تقرر له الشريعة حدًّا كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر.
وثمة من الصفرية من رأى أن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده.
ولم ير الصفرية -خلافًا للأزارقة- فتل أطفال مخالفيهم وسبي نسائهم، كما أنهم لا يوافقون الأزارقة فيما ذهبوا إليه من عذاب الأطفال.
ومن أئمة الصفرية: عمران بن حطان السدوسي، وأبو بلال مرداس الخارجي.
فأما أبو بلال مرداس، فقد خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله ابن زياد، فأرسل إليه عبيد اللَّه من قتله.
فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إمامًا، وهو الذي رثى مرداسًا بقصائد يقول في بعضها:

وليس اختياري سمرقند محلة ودار مقام لا اختيار ولا رضا
أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وكان عمران بن حطان هذا ناسكًا شاعرًا شديدًا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثه في بغض علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم، وقال في ضربه عليًّا:
يا ضربة من منيب ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكره يومًا فأحسبه أوفى البرية عند اللَّه ميزانًا
قال عبد القاهر: وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا:

صفحة رقم 111

ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة في شأن هذه الفرقة: " ومن أخبار الذين تولوا أمر هذه الطائفة من الخوارج نتبين أنها لا ترى إباحة دماء المسلمين، ولا ترى أن دار المخالفين دار حرب، ولا ترى جواز سبي النساء والذرية، بل لا ترى قتال أحد غير معسكر السلطان ".
خامسًا: الإباضية:
وإمام هذه الفرقة عبد اللَّه بن إباض، به تعرف وإليه تنسب، وقد افترقت إلى فرق أربعة، بيد أن ثمة مبادئ مشتركة تجمع بينها وتسوغ للباحث ردها إلى أصل واحد أو فرقة واحدة، ومنها:
القول بأن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفار، وكفرهم كفر نعمة لا كفر اعتقاد؛ وذلك لأنهم لم يكفروا باللَّه، ولكنهم قصروا في جنب اللَّه تعالى.
وصحح الإباضية مناكحة مخالفيهم والتوارث بينهم، وأجازوا شهادتهم.
وذهب الإباضية إلى أن دماء مخالفيهم حرام، وإن أسروا ذلك في أنفسهم ولم يعلنوه.
واستحل الإباضية من غنائم المسلمين الخيل والسلاح، وسواهما من أدوات الحرب وأسباب القوة، دون الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابهما عند الغنيمة.
ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة عن الإباضية: " وهم أكثر الخوارج اعتدالًا، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرًا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو؛ ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد الزنجبار، ولهم آراء فقهية، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم، وذلك في الميراث بولاء العتاقة، فإن القانون المصري أخره عن كل الورثة حتى عن الرد على أحد الزوجين، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية ويسبق الرد على أصحاب الفروض الأقارب ".
ثانيا: الشيعة
نشأ المذهب الشيعي -كما ألمحنا إلى ذلك آنفًا- كنتيجة مباشرة لإشكالية الإمامة التي

صفحة رقم 112

أورثت الجماعة الإسلامية شيئًا غير قليل من الفرقة والاختلاف، ومزقتهم شيعًا وأحزابًا متصارعة.
ولم يكن لدى أعضاء هذا الحزب في مبدأ ظهوره تصور محدد أو فكرة واضحة عن نظرية الإمامة، غاية الأمر أن ثمة من المسلمين من رأى أن عليًّا أحق بالخلافة من سائر أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أولى قرابته بها، فيذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن من الصحابة من فضلوا عليًّا، وذهبوا إلى القول بأن الخلافة حق له، منهم: عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي بن كعب، وحذيفة، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم بن التيهان، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وبنو هاشم كافة.
تلك هي الفكرة المبدئية التي قام على أساسها مذهب الشيعة، ثم تطورت هذه الفكرة نتيجة عوامل متباينة إلى نظرية لها أصول محددة وقواعد مجمع عليها من جانب الشيعة.
وأول هذه العوامل: الشعور العاطفي الذي خامر نفوس أكثر المسلمين بسبب الاضطهاد الذي وقع على آل بيت النبي عامة، وآل عليٍّ خاصة، والأحداث المحزنة التي تعاقبت على عليٍّ وآله، ونستطيع أن نلتمس هذه الأحداث في " مصرع عليٍّ على يد الخوارج، ثم في التِياثِ (١) الأمر على ابنه الحسن، وتخاذل الناس عن نصرته حتى اضطر إلى التسليم، ثم في موته في ظروف مريبة غامضة يرى شيعته أنها من تدبير أعدائه، فبموته ضاع الأمل الذي كان باقيًا في أن حقه ربما كان سيعود إليه بعد وفاة معاوية. ثم في قسوة زياد -الذي ألحقه معاوية بنسبه- على رجال الشيعة واضطهاده لهم، وإرساله حجر بن عدي -من زعمائهم ومن أشراف العرب ومن خير الناس تقوى وعبادة، وأبطال فتح نهاوند- إلى الشام ليقتل؛ وذلك لاتهامه بأنه كان يعمل لإحداث ثورة في الكوفة، ثم في تقرير معاوية العهد لابنه يزيد، فأغلق الباب نهائيَّا على أي أمل في عودة أبناء علي إلى الخلافة.
وأخيرًا وهذه هي الطامة الكبرى والفاجعة التي حفرت في قلوب الشيعة وقلوب المسلمين آثارًا عميقة من الحزن واللوعة، لا يمكن أن يمحوها الزمن: ألا وهي مقتل الحسين. كل هذه الأحداث أو المآسي المتتابعة هي التي كونت فرقة الشيعة ودفعتهم إلى إنتاج آرائهم، وأعطتهم هذه القوة التي جعلت منهم أكبر هيئة في المعترك السياسي الدِّيني،

(١) الِالْتِيَاثُ: الاختِلاط وَالِالْتِفَافُ؛ يُقَالُ: الْتاثَتِ الخطُوب، والتاثَ برأْس الْقَلَمِ شعَرة، وإِنَّ الْمَجْلِسَ لِيَجْمَعُ لَوِيثَةً مِنَ النَّاسِ أَي أَخلاطاً لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَاقَةٌ ذاتُ لَوْثٍ أَي لَحْمٍ وسِمَنٍ قَدْ لِيثَ بِهَا. وَالْمُلَاثُ والمِلْوَث: السَّيِّدُ الشَّرِيفُ لأَنَّ الأَمر يُلاثُ بِهِ ويُعْصَب أَي تُقْرَنُ بِهِ الأُمور وتُعْقَدُ، وَجَمْعُهُ مَلاوِث. اهـ (لسان العرب. ٢/ ١٨٧).

صفحة رقم 113

ومكنتهم من أن يصيروا الحزب الخالد الذي لا يزال باقيًا بتمام قوته ووجوده إلى اليوم ".
إذن فقد أسهمت هذه الأحداث المفجعة في تكوين فرقة الشيعة وفي إنتاج آرائها في السياسة ثم في العقيدة، وبَيَّنٌ أن هذا العامل التاريخي يستند على الشعور والوجدان أكثر مما يقوم على البرهان والحجة.
وثمة عامل آخر ساعد بشكل كبير على قوة التيار الشيعي، ومنحه ذيوعًا وانتشارًا، وتأثيرًا في الحياة السياسية، ألا وهو انضمام الموالي الفرس إلى الحركة الشيعية.
والحق أن فكرة الشيعة عن الخلافة وما ذهبوا إليه من ضرورة تخصيصها بعلي وبنيه لاءمت إلى حد كبير نظرية الحق الملكي المقدس التي اعتنقها الفرس؛ يقول الأستاذ دوزي موضحًا حقيقة هذا العامل: " إن الشيعة فرقة فارسية في حقيقتها وجوهرها... إن الفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب، فهذه الفكرة غير معهودة له وغير معقولة، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه هو مبدأ الوراثة، وكل الذي كان هو في حاجة إليه، وقد تغيرت بيئته واعتنق دينًا جديدًا، هو أن ينقل ولاءه ويحول وجهة شعوره من أفراد أسرة مقدسة إلى أخرى. فليس من المبالغة إذن في شيء -وإن كان الدافع ونوع العاطفة ولا شك مختلفين وكان حدوث العملية غير شعوري- أن يقال: إن " البيت النبوي "، وقد مثله آل علي، قد حل في قلوب الفرس واعتبارهم محل بيت آل ساسان ".
ويسعنا أن نضيف سببًا آخر يفسر لنا انضمام الفرس إلى الشيعة وهو دفاعهم عما رأوه حقًّا لعلي وبنيه، وهو اضطهاد الأمويين للموالي والذي أورثهم شعورًا مؤلمًا بانخفاض مستواهم المعيشي، وتدني مكانتهم الاجتماعية عن العرب.
نتج عن العوامل السابقة مجتمعة تطور الفكرة الشيعية وتبلور ملامحها، وغدا للشيعة رأي محدد في الإمامة ذكره ابن خلدون فقال: " إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بتعيينهم، بل هي ركن الدِّين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر، وإن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الذي عينه صلوات الله

صفحة رقم 114

وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة ".
أبرز فرق الشيعة:
يطلق مصطلح الشيعة على فرق عدة منها المتطرف ومنها المقتصد، عد منها البغدادي عشرين فرقة اعتبرها معدودة في فرق الأمة، وما سوى هذه الفرق العشرين، فليسوا من فرق الإسلام وإن كانوا منتسبين إليه.
ونكتفي هاهنا بذكر أبرز فرق الشيعة:
الزيدية:
تنسب هذه الفرقة إلى زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان زيد قد خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة فقتل وصلب، ويقول المسعودي في سبب خروجه:
كان زيد دخل على هشام، فلما مثل بين يديه لم ير موضعًا يجلس فيه فجلس حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى اللَّه ولا يصغر دون تقوى اللَّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابًا إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت سكت عنه، فقال هشام: بل أجب قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن يبعثه اللَّه نبيًّا، وجعله اللَّه للعرب أبًا، فأخرج من صلبه خير البشر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:

يا ضربة من كفور ما استفاد بها إلا الجزاء بما يصليه نيرانا
إني لألعنه دينًا وألعن من يرجو له أبدًا عفوًا وغفرانًا
ذاك الشقي لأشقى الناس كلهم أخفهم عند رب الناس ميزانًا

صفحة رقم 115

شرده الخوف وأزرى به كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الكمين يشكو الجوى تنكثه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة والموت حتم في رقاب العباد
إن يحدث اللَّه له دولة يترك آثار العدا كالرماد
فمضى إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فلما قامت الحرب انهزم عنه أصحابه، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتل بهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً:
أذل الحياة وعز الممات وكلا أراه طعامًا وبيلاً
فإن كان لابد من واحد فسيري إلى الموت سيرًا جميلاً
وانتهى الأمر بقتله.
والحق أن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية وأكثرها اعتدالاً؛ فهي لم ترفع الأئمة إلى مرتبة النبوة، بل لم ترفعهم إلى مرتبة تقاربها بل اعتبروهم كسائر الناس، ولكنهم أفضل الناس بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والزيدية لا يؤمنون بأن الإمام الذي أوصى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد عينه بالاسم والشخص، بل عرفه بالوصف، وأن الأوصاف التي عرفت تجعل الإمام عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الإمام من بعده؛ لأن هذه الأوصاف لم تتحقق في أحد بمقدار تحققها فيه. وهذه الأوصاف توجب أن يكون هاشميا ورعا تقيا، عالمًا سخيا، يخرج داعيًا لنفسه، ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميًّا أي من ذرية السيدة فاطمة رضي اللَّه عنها.
الإمامية:
وهم يجعلون الإمام بعد علي زين العابدين مُحَمَّد الباقر لا زيد بن علي، وأهم فرقهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.
والاثنا عشرية هي الفرقة التي تقول باثنى عشر إمامًا، هم: علي المرتضى، والحسن المجتبى، والحسين الشهيد، وعلي زين العابدين السجاد، ومُحَمَّد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومُحَمَّد النقي، وعلي التقي، والحسن العسكري الزكي، ومُحَمَّد المهدي الذي اختبأ واختفى سنة ٢٦٠ هـ وما يزال مستورًا حتى يظهر في آخر الزمان؛ ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا.

صفحة رقم 116

أما الإسماعيلية فساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل، وإليه تنسب هذه الفرقة.
وافترقت الإسماعيلية فرقتين:
- فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.
- وفرقة قال: كان الإمام بعد جعفر سبطه مُحَمَّد بن إسماعيل بن جعفر، حيث إن جعفرًا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه مُحَمَّد بن إسماعيل.
وقد نشأ ذلك المذهب بالعراق كغيره من مذاهب الشيعة، واضطهد كما اضطهد غيره، وقد فر المعتنقون له بتأثير الاضطهاد إلى فارس وخراسان، وما وراء ذلك من الأقاليم الإسلامية كالهند والتركستان، وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة، والأفكار الهندية، وتحت تأثير ذلك انحرف كثيرون منهم فقام فيهم ذوو أهواء؛ ولذلك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة، بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وبعضهم انحرفوا بما انتحلوا من نحل لا يتفق ما اشتملت عليه مع المقرر الثابت من الأحكام الإسلامية، وقد سموا الباطنية أو الباطنيين؛ وذلك لاتجاههم إلى الاستخفاء عن الناس، الذي كان وليد الاضطهاد أولًا، ثم صار حالة نفسية عند طوائف منهم.
ومن الآراء الشاذة التي قال بها الإسماعيلية الباطنية:
- زعمهم أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبًا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.
- تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلًا يورث تضليلًا، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق.
وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.

صفحة رقم 117

كما زعموا أن تكاليف الدِّين وشعائره ليست إلا للعامة ولا يلزم الخاصة أن يعملوا بها.
ويقول البغدادي موضحًا خطر الباطنية: " اعلموا -أسعدكم اللَّه- أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأن الذين ضلوا عن الدِّين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر.
الكيسانية والراوندية:
سميت الكيسانية بذلك نسبة إلى كيسان رئيس جند المختار ابن عبيد اللَّه الثقفي الذي خرج ودعا إلى مُحَمَّد بن الحنفية.
ْومنهم من يزعم أن مُحَمَّد بن الحنفية لا يزال حيًّا بجبال رضوى.
ومنهم من قال: إن الإمام بعد ابن الحنفية ابنه عبد اللَّه بن مُحَمَّد أبو هاشم الذي أوصى لمُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس بالإمامة، ومن ثم انتقلت الإمامة من أبناء علي إلى أبناء العباس.
ومن الكيسانية نشأت الراوندية، حيث أوصى مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس إلى ابنه إبراهيم، وإبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية.
والراوندية فرقة تشيعت للعباسيين ولم تكتف بمدح العباس بل أنكروا على أبي بكر وعثمان أن تقلدوا الخلافة مع وجود العباس، وأنه ما كان يجوز لأحد أن يتولاها إلا العباس وعلي؛ لأن العباس أذن له فيها.
بل ذهبوا إلى أبعد من هذا حينما قَالَ بَعْضُهُمْ بالتناسخ، أي: حلول روح آدم في زعيم لهم، وروح جبريل في آخر.

صفحة رقم 118

ثالثًا: المرجئة
يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك - قد ارتبط ارتباطًا مباشرًا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعًا، واعتبار العمل جزءًا من إيمان صاحبه، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة.
وعلى العكس من معتقد الخوارج، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ووليٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ، من أهل الجنة.
ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان -وكان من كبار المرجئة-: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلًا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً.
وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية، أنهم سموا بذلك؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدِّين، ويفوضون أمره إلى ربه.
ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر اللَّه، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليًّا والقائلين بالتحكيم، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان، والفريقان جميعًا -الشيعة والخوارج- يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة،

صفحة رقم 119

والأمويون يقاتلون الجميع ويرون أنهم ضالون مضلون، " فظهرت المرجئة تسالم الجميع، ولا تكفر طائفة منهم، وتقول: إن الفرق الثلاث: الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب، فلنترك أمرهم جميعًا إلى اللَّه، ومن هَؤُلَاءِ بنو أمية، فهم يشهدون أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رسول اللَّه، فليسوا إذن كفارًا ولا مشركين، بل مسلمين نرجىء أمرهم إلى اللَّه الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها ".
والحق أن هذه الفرقة قد وجدت لنفسها من مواقف بعض الصحابة تجاه الفتنة مستندًا دعمت به وجهة نظرها، بل يصح لنا أن نعتبر مواقف هَؤُلَاءِ الصحابة البذرة الأولى التي نبتت منها المرجئة، وتفصيل ذلك أن ثمة من الصحابة فئة لما رأوا الفتنة محدقة بالمسلمين، ومقالة الكفر فاشية بين الناس جارية على ألسنتهم يرمون بها كل أحد مهما علا قدره وتميزت مكانته -: اعتصمت هذه الفئة من الصحابة بالصمت، وأحجمت عن الانخراط في الفتنة، وتمسكت بحديث أبي بكرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ستكون فتن: القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول اللَّه، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة ".
ومن الصحابة الذين امتنعوا عن المشاركة في الفتنة عملًا بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: سعد ابن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو بكرة راوي الحديث وعمران بن الحصين، وروي أن سعد بن أبي وقاص كان يقول إذا سئل القتال: " لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول: هذا مؤمن وهذا كافر ".
" وبهذا أرجئوا الحكم في أيِّ الطائفتين أحق، وفوضوا أمورهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى. وقد قال النووي في ذلك: " إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا

صفحة رقم 120

الصواب ".
إن الحقيقة التي ينبغي التنويه بها والإشارة إليها في هذا المقام، أن فرقة المرجئة على الرغم من خروجها من رحم الأحداث السياسية، فإنها مذهب ديني فلسفي، موضوعه البحث عن حقيقة الإيمان وعلاقة العمل به، وكانت الغاية التي تهدف إليها -أصلًا- الامتناع عن التسرع في إصدار الأحكام على أعمال الصحابة والتابعين، ولا سيما تلك التي صدرت في خلال المنازعات التي وقعت بينهم، فنظرة هذا المذهب إذن كانت إلى الماضي، وكان حكمه على أعمال تاريخية.
وقد صور ثابت قطنة -شاعر المرجئة- عقيدة الإرجاء خير تصوير في قصيدة له، نجتزئ منها بهذه الأبيات:

يا هند فاستمعي لي إن لسيرتنا أن نعبد اللَّه لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم والمشركون استووا في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنبًا بالغ أحدًا م الناس شركًا إذا ما وحدوا الصمدا
بدع المرجئة وضلالهم:
إن تحرج المرجئة من الحكم على أعمال الصحابة، وتأثمهم من تكفير صاحب الكبيرة يحمد لهم من غير مماراة، وهم في ذلك لا يخالفون المسلمين من حيث تفويض أمر مرتكب الكبيرة إلى اللَّه، إن شاء عذبه، وإن شاء تغمده برحمته وأدخله الجنة.
بيد أن المرجئة المتأخرين قد بالغوا في فصل الإيمان عن العمل، فأتوا بدعًا وضلالات تخرجهم من دائرة الإسلام أصلاً، فزعموا -كما أشرنا في صدر الحديث عنهم- أنه لا يضر مع الإيمان ذنب جلَّ أو صغر، كما لا يجدي مع الشرك والكفر طاعة، فالإيمان في القلب واللسان، وهو المعرفة باللَّه تعالى، والمحبة والخضوع له بالقلب.

صفحة رقم 121

وزعم أبو الحسين الصالحي أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة.
بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل: أعلم أن اللَّه قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها، كان مؤمنًا.
ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة، غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنًا، ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه شاك في هذه الأمور، فإن عاقلًا لا يستجيز عقله أن يشك في أن الكعبة إلى أي جهة هي، وأن الفرق بين الشاة والخنزير ظاهر.
على هذا النحو هوَّن المرجئة من شأن العمل، وجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي، وإن دل عمل الجوارح على خلافه.
فلا غرو أن أطمع هذا المذهب الفساق في عفو اللَّه، واتخذوا من أقوال المرجئة ذريعة يبررون بها آثامهم، حتى غدا الإرجاء دين المستهترين وعقيدة المذنبين، وقد أثر عن زيد ابن علي بن الحسن أنه قال: " أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو اللَّه ".
والخلاصة أن المرجئة ينقسمون إلى قسمين:
قسم: توقف في الحكم على أعمال الصحابة، وتحرج من تصويب مواقفهم أو تخطئتها.
والقسم الثاني: منكر لأن يكون العمل جزءًا من الإيمان، وأن عفو اللَّه يسع الصالحين والمذنبين جميعًا، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الشرك طاعة.
* * *

صفحة رقم 122

الفصل الثاني
المذاهب الاعتقادية
توطئة:
امتاز الإسلام بعقيدته الواضحة الصافية، التي تخاطب العقل والوجدان جميعًا، وتسلك في سبيل إقناع الناس بها طريقًا وسطًا بين المنطق والعاطفة لا تجد فيه أمتًا ولا عوجًا، ولسنا نقصد بالمنطق ذلك العلم الذي تقررت أصوله وتحددت قواعده لدى اليونان، واتسم بغير قليل من الغموض والتعقيد، وإنما نريد به لفت العقول المستقيمة إلى ما يغص به الكون الفسيح من أعلام واضحة وأدلة مقنعة على وجود اللَّه وقدرته ووحدانيته، والتي لا تملك هذه العقول أمامها إلا الإذعان والتسليم؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال كذلك: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) والحق أن الآيات التي تؤدي هذا المعنى وتلفت إليه في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى.
ولا ريب أن وجود رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين يميط اللثام لصحابته عما التبس عليهم من مسائل العقيدة، ويجيب عما يضطرب في نفوسهم وضمائرهم من أمور مشكلة قد اشتبهت عليهم - قد عصم المسلمين من التردي في هوة الخلاف والجدل الذي ينفي من القلوب يقين الاعتقاد، ويبث فيها بذور الشك والارتياب.
وتدلنا الآثار الصحيحة أن شيئًا من التفكير في أصول الدِّين والنظر في بعض مسائله قد مس عقول نفر من الصحابة مسًّا رفيقًا، وإن لم يمعنوا النظر أو يُوغلوا في الدرس، فقد روي أن أحد الصحابة حين أخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن كل إنسان قد كتب مقعده من النار أو الجنة قال: ففيم العمل إذن يا رسول اللَّه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وروي أيضًا عن أبي ذر الغفاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين أخبره بأن من مات من أمته لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، سأله أبو ذر بقوله: وإن زنى وإن سرق؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وإن زنى وإن سرق ".

صفحة رقم 123

ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة.
ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام، بل كانت صادرة -هي وغيرها- عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدِّين وتدبر مراميه، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد.
فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة، فقال اللَّه فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧).
وقد اتخذ أُولَئِكَ من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك باللَّه؛ قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨).
ومهما يكن من أمر هَؤُلَاءِ المشركين، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدِّين، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب اللَّه دون المماراة فيه أو تأويله، وتفويض أمر المتشابه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وحسبك شاهدًا على صدق مقالتنا أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه؛ " لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف، ويقطع

صفحة رقم 124

في الموضوع ".
فلا غرو أن كان المسلمون على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعد وفاته بقليل على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا على حد تعبير البغدادي.
ويسعنا أن نضيف إلى ما سلف أن المسلمين في عهد أبي بكر الصديق قد شُغِلوا بقمع المرتدين، وفتح الأمصار والأقاليم لنشر الدعوة الإسلامية وبثها في الآفاق، فصرفوا إلى الدعوة نفسها أكثر مما عنوا بالنظر فيها والجدال حولها.
بيد أن الفتح نفسه وما ترتب عليه من اتساع رقعة الإسلام كان عاملًا من عوامل الاختلاف حول العقائد الإسلامية، وسببًا أصيلًا من أسباب الشقاق الفكري الذي صار معلمًا بارزًا من معالم الحياة الإسلامية حتى الآن، على نحو ما سوف نشير إليه بعد قليلٍ.
نَعِمَ المسلمون بتلك الحالة التي أشرنا إليها من الاستقرار الدِّيني والهدوء الفكري مدة خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب وشطرًا من خلافة عثمان بن عفان - رضي اللَّه عنهم أجمعين - وعرف الاختلاف طريقه إلى المسلمين منذ عهد عثمان نفسه، وكان مقتله ذروة هذا الاختلاف الذي تجاوز المناقشات الفكرية والحوارات الهادئة إلى المناجزة العنيفة في ميادين القتال وساحات الوغى، ونشأ من هذه وتلك فرق سياسية اصطرعت حول " مبدأ الخلافة "، وأدلى كل منها بما يحسبه صوابًا في ميدان السياسة، وهي: الشيعة والخوارج ثم المرجئة ويمكن أن يضاف إليها الحزب الأموي " وهذه الأحزاب وإن كانت في الواقع سياسية، إلا أنها لم تتخذ الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسيًّا يقتتلون دينيًّا، ولكل حزب أدلته الدِّينية التي يؤيد بها رأيه، وأخذ كل حزب يؤول في القرآن حسبما يوافق نزعته ورأيه ".
وأثارت هذه الفرق مسألة مرتكب الكبيرة، واحتدم النزاع فيما بينها حول نسبته إلى الكفر أو الإيمان، وهل هو كافر مخلد في النار أم مؤمن يدخله اللَّه برحمته الجنة، " ولقد ساقهم الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف في تعريف الكفر والإيمان والكبائر والصغائر ونحو ذلك، وتكون من كل منهم فرق لها آراؤها في الأصول والفروع مما كان أساسًا فيما بعد لعلم الكلام ".

صفحة رقم 125

الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى:
لم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى كان المسلمون قد ضموا إلى دولتهم أقطارًا شاسعة متباينة في الدِّين والعقيدة تباينها في نمط الحياة وطريقة العيش، ففتحت بلاد العراق وفارس وما وراءهما، والشام ومصر وما يليهما، وأوغل المسلمون في الفتح فعبروا المحيط الأطلسي إلى أوربا ومدوا نفوذهم إلى الأندلس.
والحق أن حركة الفتوحات هذه قد امتد تأثيرها ليشمل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية الدِّين والعقائد وما يرتبط بهما من شئون الفكر وألوان الثقافة، وذاك أمر ما نعلم أن أحدًا من الدارسين أو الباحثين قد شكك فيه أو غض الطرف عنه، بل جلُّ الباحثين الذين ينظر إليهم بعين الاحترام والاعتبار قد أرجعوا نشأة علم الكلام والتفكير الفلسفي في الإسلام إلى هذا السبب، بالإضافة إلى أسباب أخرى أشرنا إلى بعضها وقد نشير فيما بعد إلى بعضها الآخر، ولا غرابة في ذلك إذا نحن علمنا أن هذه البلاد المفتوحة لها عقائدها ودياناتها وثقافاتها المختلفة فتجد النصرانية في مصر والشام والعراق وإفريقية، وتطل عليك اليهودية من العراق وشمال الحجاز، ولو قد مددت ببصرك إلى فارس وما وراء النهر لرأيت الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وتستطيع أن تقف في غير ما صعوبة ومشقة على الفلسفة اليونانية منبثة في ثنايا هذه الأقطار.
إذا علمت ذلك كله -وما نحسب ذلك أمرًا عسيرًا- فإنك لا محالة تتبين أثر هذه الثقافات المختلفة والديانات المتباينة في العقيدة الإسلامية، ومدى ما أسهمت به في تطورها عما كانت عليه في العهد الأول، وما أضافته إلى البحث الدِّيني والإسلامي من مسائل وأفكار لم يكن للمسلمين عهد بها ولا تفكير فيها، ودونك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة:
تحدث اليهود في النسخ ولم يجيزوا القول به، فالشريعة عندهم ابتدأت بموسى وتمت به، واهتموا بمسائل الذات والصفات إذ وجدوا في توراتهم ما يدعو إلى ذلك من النزول عند طور سيناء انتقالًا، والاستواء على العرش استقرارًا، وجواز الرؤية وغير ذلك.
كما ناقش اليهود فكرة القدر وانقسموا حولها إلى فريقين: فريق يرى الجبر والاستسلام، وفريق يرى القدرة والاختيار.
وقال اليهود بالرجعة، فزعموا أن هارون مات وسيرجع، ومنهم من قال: غاب وسيرجع.

صفحة رقم 126

أما النصارى ففي ثقافتهم الدِّينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط، وهل صفات اللَّه زائدة عن ذات اللَّه أو هو هي، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين.
وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية: كالتناسخ والحلول والاتحاد.
" وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن اللَّه اصطفاهم للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة، وأنهم ظل اللَّه في أرضه... وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم ".
ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء، ولسنا حين نقرر ذلك بدعًا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة.
إن انتقال مسائل العقائد الدِّينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحًا لديانات مختلفة، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم؛ قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) " وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببًا في تبادل الأفكار بين الفريقين ".

صفحة رقم 127

ويسعنا أن نضيف إلى ذلك أن ثمة من أهل هذه الديانات من أسلم بلسانه ولم يطمئن قلبه للإسلام؛ رغبة في الكيد له والطعن فيه، بل إن من أسلم منهم صادقًا مزج -عن غير قصد الإساءة- بين العقيدة الإسلامية، وما درج عليه من عقائد دينه القديم، فأسهم بغير شك في تطوير العقيدة الإسلامية، وتغييرها.
أمست العقيدة الإسلامية -لما أسلفنا من أسباب- مفتقرة إلى من ينافح عنها ضد خصومها من أهل الديانات الأخرى، الذين طمسوا معالمها أو كادوا، وشوهوا صفاءها ونقاءها، بما ألصقوه بها من آراء غريبة عنها وأفكار مناقصة لها، بل إن حاجة العقيدة الإسلامية إلى من يدافع عنها فاقت حاجتها لمن يدعو لها ويروج لمبادئها.
ودعت الظروف الفكرية التي أحاطت بالمسلمين آنذاك إلى أن يتسلح من ندبوا أنفسهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلحة الخصوم نفسها وهي المنطق والفلسفة وأدوات الحجاج العقلي والصراع الجدلي؛ إذ كان من أهل الديانات المناوئة للإسلام من حذق الفلسفة اليونانية واصطنع أدواتها في تقرير عقائده والدعوة لها، " وهكذا خاض المسلمون منذ عصر الأمويين في العقائد بمنهج جدلي عقلي غير ملتزمين بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أدى هذا الاتجاه إلى اختلاف المسلمين ووجود الفرق المختلفة التي حاولت كل منها أن تظهر رأيها على أنه الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية الصحيحة عن طريق جذب النصوص الشرعية إلى رأيها الخاص، وقد وجدوا في المتشابه مجالًا لذلك، فأخذوا يؤولون ويخرجون النصوص تخريجًا يجعلها سندًا لهم ".
وننناول الحديث عن أهم هذه الفرق فيما يلي:
أولاً: المعتزلة
أشرنا آنفًا إلى أن العقيدة الإسلامية قد مست حاجتها إلى من ينافح عنها، ويدحض شبه الطاعنين فيها من أهل الديانات الأخرى، وأن من يقوم بهذه المهمة ينبغي عليه أن يقف على أدوات الحجاج العقلي ووسائل الجدل التي أتقنها الخصوم، وهي المنطق والفلسفة، والحق أن المعتزلة قد قاموا بهذه المهمة خير قيام، وأسهموا في ميدان الدفاع عن الإسلام وتبيين عقائده والاستدلال لها استدلالًا عقليًّا ممتازًا - ما يحمد لهم، ويذكر في كفة حسناتهم بغير قليل من الإكبار والاحترام، " فالمعتزلة تعد من أوائل الفرق الكلامية التي نظرت في العقائد وأيدتها بالبراهين العقلية، وخاضت في الجدل والكلام، وبرعت في

صفحة رقم 128

مناظرة الخصوم وإفحامهم ".
وينتظم حديثنا عن هذه الفرقة الكلامية عدة محاور:
أولًا: النشأة وسبب التسمية.
ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة.
ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد.
رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة.
أولًا: النشأة وسبب التسمية:
تنسب هذه الفرقة -كما هو مقرر معلوم- إلى واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١ هـ) الذي كان تلميذًا للحسن البصري أشهر علماء زمانه وأبرزهم.
وثمة خلاف شجر بين الدارسين حول سبب تسمية هذه الفرقة للمعتزلة، أثمر -أي هذا الخلاف- ثلاثة آراء متباينة لا بأس من ذكرها، ثم نختار من بينها ما نراه صوابًا.
أما الرأي الأول: فيذكره الشهرستاني صاحب الملل والنحل، حيث روى أن رجلًا دخل على الحسن البصري فقال له: يا إمام الدِّين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان؛ لأن العمل عندهم ليس ركنًا من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ ففكر الحسن في هذه المسألة وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء -الذي كان حاضرًا مجلس الحسن البصري-: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل مجلس الحسن إلى مكان آخر من المسجد، فلما رآه الحسن وبعض أصحابه قال:
اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة.
والرأي الثاني حكاه المسعودي في مروج الذهب حيث قال: سموا بذلك؛ لأنهم قالوا باعتزال صاحب الكبيرة، فيكون الاعتزال وصفًا لمرتكب الكبيرة في الأصل، وسميت به الفرقة؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين.

صفحة رقم 129

أما الرأي الثالث: فقد ذكره البغدادي حين قال: سموا بذلك؛ لأنهم اعتزلوا قول الأمة، فالخوارج كانوا يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، والمرجئة يقولون: إنه مؤمن، والحسن البصري -وهو ممثل علماء التابعين آنذاك- يرى أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام.
والذي نميل إليه ونأخذ به هو الرأي الثالث؛ " لأن التسمية فيه تكون متعلقة بالجوهر وهو الآراء، لا بالعرض وهو انتقال واصل ومن معه من حلقة من المسجد إلى حلقة أخرى؛ إذ إن هذا الانتقال الحسي ليس بالأمر الهام ذي الخطر الذي من شأنه أن تسمى بسببه فرقة هامة كالمعتزلة ".
ومهما يكن من أمر فقد نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده: " وأول ما ظهر مذهب الاعتزال وشاع إنما ظهر من واصل بن عطاء، أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد ابن الحنفية الذي قيل: إنه كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه هو وأخوه الإمام الحسن بن مُحَمَّد ابن الحنفية... ولكن ظهر واشتهر الاعتزال من واصل بن عطاء أبي حذيفة المعروف بالغزال ".
وقُدِّرَ لهذه الفرقة أن تملأ العالم وتشغل الناس، يؤمن بعقائدها الخلفاء وأهل السياسة، فقد اعتقد آراءهم المأمون وحمل الناس عليها حملًا، وامتحنهم بها امتحانًا، وتبعه المعتصم والواثق، فلما جاء المتوكل ناهض المعتزلة وأمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة، بيد أن المتوكل لم يستطع أن يقضي على آراء المعتزلة ولم يتمكن من اقتلاع أفكارهم من المجتمع الإسلامي، بل ظلت هذه الآراء والأفكار باقية بعده، وبالرغم من العبث بتراثهم وإتلاف كتبهم، فإن آراءهم لا تزال باقية حتى اليوم.
ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة:
أشرنا فيما سبق إلى نشأة الاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء، فعُدِّت البصرة لذلك المركز الأول للمعتزلة والمدرسة الرائدة لهم.

صفحة رقم 130

بيد أن ثمة مركزًا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة، ألا وهو " بغداد ".
والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانًا رفيعًا، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها، وكانت سنة ٢١٨ هـ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره، ولم تقبل شهادته.
على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى.
وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين:
- أولها: أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعًا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد.
- ثانيها: أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالًا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية.
ولا غرابة في ذلك، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم.
- وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو " أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد، فمثلًا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من اللَّه؛ لأن طبيعة اللَّه من شأنها الإيجاد بالطبع، ولا يمكن أن يتخلف ذلك، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم؛ لأن طبيعة اللَّه لا تتغير، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم ".

صفحة رقم 131

على هذا النحو كان تأثر معتزلي بغداد بالفلسفة اليونانية عظيمًا، ولقد مزجوا هذه الفلسفة بدرس العقائد الإسلامية، على نحو ما سنعرف عند حديثنا عن منهج المعتزلة.
وقد افترقت المعتزلة إلى اثنتين وعشرين فرقة وهي: الواصلية، والعمروية، والهذلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمرداوية، والهاشمية، والثمامية، والجاحظية، والخابطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمريسية، والشحامية، والكعبية، والجبائية، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم الجبائي.
فهذه -كما يذكر البغدادي- ثنتان وعشرون فرقة، فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر، وهما: الخابطية والحمارية، وعشرون منها قدرية محضة.
على أن ثمة أصولًا مشتركة تؤلف بين هذه الفرق المختلفة، درج الباحثون على نعتها بالأصول الخمسة، ونرجئ الحديث عنها بعد أن نلم بمنهج المعتزلة في درس العقائد.
ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد:
أشرنا فيما سبق إلى أن للسلف - رضوان اللَّه عليهم - طريقة في فهم العقيدة تنهض على ساق من النصوص -القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة- وساق من المعرفة العميقة باللغة العربية والفقه الواسع بأسرارها، ولم يكونوا ينحرفون قليلًا أو كثيرًا عن هذا المنهج الذي أرسى دعائمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ما اشتبه عليهم أمر من أمور العقيدة توقفوا فيه وفوضوا أمره إلى الحق تبارك وتعالى.
ولسنا في حاجة إلى أن نقرر أن السلف الصالح قدموا النقل على العقل، وكانت مهمة العقل لديهم مقصورة على فهم النصوص دون تأويل، فلا غرو أن كان العقل تابعًا للنقل أو النص أو الوحي، سمه ما شئت.

صفحة رقم 132

أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادًا كبيرًا، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقًا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل.
بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعًا، وقد أشار إلى ذلك الإسفراييني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول، وأقاموا سياجًا قويًّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها.
ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية.
ويقول أحد الباحثين معلقًا على ذلك:
" وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران:
الأول: أنهم وجدوا فيها -أي في الفلسفة اليونانية- ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري، وجعلوا فيها مرانًا عقليًا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة.
الثاني: أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هَؤُلَاءِ للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم ".
وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدِّينية بين العقل والنقل، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول، ويرونه قادرًا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول.
وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافًا كبيرًا حيث يقدم هَؤُلَاءِ الدليل النقلي على الدليل العقلي، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام

صفحة رقم 133

منها.
ولقد حمل هذا المنهج الاعتزالي أحد المشتغلين بالفكر الفلسفي في الإسلام إلى التصريح بأن المعتزلي لم يكن يأبه أن تكون النصوص الدِّينية متوافقة مع أصوله الفلسفية أو غير متوافقة، وأن كل ما يرمي إليه هو دعم الأصل العقلي الذي وصل إليه.
كان المعتزلة يرون أن العقل أصل والسمع -أي النقل- فرع، ولا يجوز تقديم الفرع على الأصل، ومن هنا كان تقديمهم العقل على النقل.
ويتمثل النقل لدى المعتزلة في ثلاثة أدلة: الكتاب، والخبر المجمع عليه، والإجماع، " وقد عولوا جميعًا في بحوثهم على القرآن، أما الحديث فقد اختلفوا في موقفهم منه، فواصل لم يقبل منه إلا المتواتر أو المشهور، وعمرو بن عبيد شكك في الرواية والرواة، وأبو الهذيل العلاف يرفض المتواتر، وبلغت هذه النزعة أوجها عند النظام الذي أنكر بعض الأحاديث، ورفض الإجماع، ولكن هذه النزعة قد خفت ومالت إلى الاعتدال عند المتأخرين من المعتزلة، وخاصة القاضي عبد الجبار وتلاميذه الذين اعتدوا بالحديث ".
وللدليل النقلي عند المعتزلة ضوابط وشروط، لا يأخذون به إلا عند تحققها فيه، وهي:
أولًا: ألا يتعارض مع العقل؛ لأن العقل حجة اللَّه والشرع حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.
ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فهم لا يأخذون بأحاديث الآحاد ولا يعولون عليها في مسائل الاعتقاد.
ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة بحيث لا يحتمل تأويلًا.
رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة:
ثمة أصول خمسة أجمع المعتزلة -مع تعدد فرقهم وتباينها- على القول بها، ولم ينتحل نحلة المعتزلة متكلم إلا وقد آمن بها؛ قال أبو الحسن الخياط في كتابه الانتصار: " وليس أحد يستحق اسم الاعتزال، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

صفحة رقم 134

فإذا جمع هذه الأصول فهو معتزلي ".
١ - التوحيد:
لا مراء في أن التوحيد جوهر الإسلام وحجر الزاوية في عقيدته، وما من نبي أو رسول إلا دعا قومه إليه ودلهم على شواهده وبراهينه في الكون.
ويقوم التوحيد على تنزيه اللَّه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقد سلك السلف فيه طريقًا وسطًا بين النفي والإثبات دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تجسيم.
أما المعتزلة فلهم طريقة مخصوصة في فهم التوحيد، يدلنا عليها أبو الحسن الأشعري بقوله: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أولًا سابقًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، ولم يزل عالمًا قادرًا حيا، ولا يزال كذلك، لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره، ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء، أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء. آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه احتزار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام، ليس بذي غاية

صفحة رقم 135

فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء ".
ونستطيع أن نزعم أن طريقة المعتزلة في فهم التوحيد تتكئ عندهم على بعض آيات القرآن الكريم التي اصطبغت بصبغة التنزيه؛ كقوله تعالى: (ليَس كَمِثلِهِ شَيءٌ)، وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
ومهما يكن الدافع الذي سلك بالمعتزلة هذا الطريق في النظر إلى التوحيد، فإن هذا الأصل عندهم ترتب عليه نتائج أخرى تكشف عن رأيهم في بعض مسائل الاعتقاد.
رأي المعتزلة في الصفات:
الصفات عند المعتزلة قسمان: صفات سلبية تسلب عن اللَّه ما لا يليق به، وصفات ثبوتية أو إيجابية.
ولم يجد المعتزلة في إثبات الصفات السلبية لله سبحانه ما يتعارض مع مفهومهم عن التوحيد، أو يمس فكرة التنزيه كما يفهمونها من القرآن الكريم.
من هذه الصفات: القدم، وتنفي هذه الصفة عن اللَّه الحدوث، والوحدانية وتنفي عن اللَّه التعدد، ومخالفة الحوادث.
" أما الصفات الثبوتية أو الإيجابية التي تتعلق بإثبات معنى زائدٍ على الذات -ومن هذه الصفات: العلم والقدرة والإرادة والحياة- فقد نفى المعتزلة اتصاف اللَّه بها أو أكثرها؛ لأن إثباتها يتعارض مع فهمهم للتوحيد ".
فقد رأى المعتزلة أن إثبات هذه الصفات لله يجعلها مشاركة له في القدم، ويعني هذا تعدد القدماء مع ما فيه من معارضة لفكرة التوحيد، كما يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التعدد الذي وقع فيه النصارى الذين قالوا بوجود ثلاثة أقانيم في الذات الإلهية، الآب والابن والروح القدس. ولا يخفى أن منهج المعتزلة في النظر إلى صفات اللَّه يتعارض مع القرآن الكريم الذي أثبت هذه الصفات لله، وكذا فهمها الصحابة ولم يجادلوا فيها.
وثمة صفات أخرى تصف اللَّه بما يوهم مشابهته للإنسان: كوصف اللَّه بأن له وجهًا أو عينًا أو يدًا، ووصفه بالاستواء على العرش والنزول إلى السماء وغير ذلك.
وقد وجد المعتزلة أن الإيمان بهذه الصفات دون تأويل يقود إلى التجسيم الذي

صفحة رقم 136

يتعارض مع التوحيد، فلا غرو أن أولوا هذه الصفات، فاليد لديهم تعني القدرة، والعين تدل على الرحمة، والوجه يعني الذات.
والحق أن السلف آمنوا بهذه الصفات دون تأويل، وما أدق عبارة الإمام مالك بن أنس في الإنباء عن منهج السلف في فهم الصفات حين سئل عن الاستواء فقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ".
القول بخلق القرآن:
ذهب المعتزلة إلى نفي صفة القدم عن القرآن الكريم، وزعموا أن القرآن مخلوق؛ لأن القول بقدمه يقود إلى تعدد القدماء، وهو ما يتنافى مع مفهومهم للتوحيد.
وقد حاول المعتزلة إجبار غيرهم من المسلمين على الأخذ برأيهم، غير أن بعض العلماء من أصحاب الاتجاه السلفي رفضوا هذا الرأي، وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن البحث في هذه المسألة مبتدع لم يثبت عن السلف، ومن ثم لا ينبغي الخوض في هذه الأمور بل ينبغي الوقوف عند رأي السلف.
إنكار رؤية اللَّه:
يقول أبو الحسن الأشعري: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه سبحانه وتعالى لا يرى بالأبصار، واختلفت: هل يرى بالقلوب؛ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى اللَّه بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان هذا وذلك ".
إن القول برؤية اللَّه عند المعتزلة ينطوي على إلحاق الجسمية به سبحانه؛ إذ يجري عليه عند ذلك ما يجري على المرئيات الجسمية، والجسمية تتنافى مع التوحيد. وقد لجأ المعتزلة لإنكار رؤية اللَّه إلى تأويل الآيات التي تثبت هذه الرؤية، كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
كما طعنوا في صحة الأحاديث التي تثبت هذه الرؤية؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " رواه البخاري ومسلم.
٢ - العدل:
هذا هو الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي اتسم بها المعتزلة، ويتخذ أهمية عظيمة

صفحة رقم 137

لديهم، ويمثل مع التوحيد الأصلين اللذين بهما عرف المعتزلة ونسبوا إليهما حتى قيل: " أهل العدل والتوحيد ".
والعدل صفة من صفات الحق تبارك وتعالى واسم من أسمائه الحسنى، غير أن المعتزلة نظروا إلى " العدل " نظرة مغايرة لما عليه جمهور المسلمين، وفلسفوه فلسفة خاصة أثمرت عددًا من المسائل العقدية نوجزها فيما يلي:
وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه تعالى:
ويعني ذلك أنه إذا كان ثمة أمران أحدهما صلاح والآخر فساد، وجب على اللَّه تعالى فعل الصلاح منهما، وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على اللَّه تعالى فعل الأصلح.
" وقد وجه إلى رأي المعتزلة كثير من الاعتراضات وهي في جملتها وتفصيلها قائمة على أساس أن في إيجاب الصلاح والأصلح تقييدًا لإرادة اللَّه؛ ولذلك أخطأ المعتزلة في القول بإيجاب الصلاح والأصلح على اللَّه، وتطاولوا على مقام الألوهية، وأساءوا الأدب مع اللَّه كما وصفهم الماتريدي بذلك ".
الإنسان مريد لأفعاله:
إن مسألة الجبر والاختيار مسألة هامة من مسائل علم الكلام الإسلامي، وركن أصيل من أركان الفكر الاعتزالي؛ وتدور هذه المسألة حول العلاقة بين قدرة اللَّه تعالى وأعمال العباد، من حيث إن هذه الأعمال مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة للعبد.
فقد فرق المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد أحدهما ضروري اضطراري، والثاني: اختياري، وحكموا بأن أفعال النوع الأول ليس للإنسان فيها اختيار.
أما أفعال النوع الثاني فالإنسان فيها فاعل مختار، " ومن ثم قالوا: إن الأفعال الاضطرارية مخلوقة لله تعالى، ولا دخل لقدرة العبد فيها، وأما الأفعال الاختيارية فقد ذهبوا فيها إلى أنها واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال، وهذه القدرة أوجدها اللَّه تعالى في العبد باختياره ".
وقد رأى المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في أفعاله انسجامًا مع العدل الإلهي؛ إذ مما

صفحة رقم 138

يتعارض مع هذا العدل أن يحاسب اللَّه الإنسان على أفعال ليست من إرادته أو اختياره.
كما يترتب على عدم القول بذلك بطلان التكليف والأوامر والنواهي؛ لأن الاختيار مناطها، كما يبطل الثواب والعقاب؛ لأنه لا معنى لأن يعاقب المرء أو يثاب على غير فعله، وتنتفي الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وثمة دليل آخر احتج به المعتزلة على حرية الإنسان وإرادته، خلاصته: أن اللَّه تعالى لو كان هو الفاعل المريد لأفعال العباد، لنسب إليه عَزَّ وَجَلَّ ما يقع على أيديهم من المعاصي والشرور والقبائح، وهو أمر لا يصح أن يوصف اللَّه به.
واستدل المعتزلة لصحة ما ذهبوا إليه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تثبت للإنسان إرادة حرة واختيارًا مقصودًا؛ كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾، وكقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا).
على هذا النحو كان رأي المعتزلة في حرية الإنسان، ورأوا أن القول به يجعل التكليف مستساغًا والثواب مقبولًا والعقاب عادلًا وينزه اللَّه تعالى عن الشرور والآثام التي تجري على يد الإنسان.
٣ - الوعد والوعيد:
ربط المعتزلة بين العمل والجزاء ربطًا وثيقًا، فجاء قولهم بالوعد والوعيد ملائمًا لهذا الربط، فاللَّه تعالى وعد الطائعين ثوابًا عظيمًا وجنة خالدة وأوعد المذنبين عقابًا أليمًا ونارًا يصلونها، والواجب على اللَّه تعالى ألا يخلف وعده أو وعيده؛ لما ينطوي عليه ذلك من فعل القبيح واللَّه لا يفعل القبيح.
يقول أحد الباحثين مصورًا رأي المعتزلة في وجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية:
" أما وجوب الثواب على الطاعة فلأن التكاليف الشاقة التي كلفنا اللَّه بها ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها؛ إذ ليس بمعقول أن يكلفنا اللَّه بشيء لا لغرض لأن ذلك عبث، فيستحيل صدوره من اللَّه لقبحه؛ فوجب أن يكون التكليف لغرض وهذا الغرض ينبغي ألا يكون عائدًا إلى اللَّه لتنزهه وتعاليه عن الانتفاع والضرر، بل يجب أن يكون هذا الغرض عائدًا إلى العبد وحده، ثم يقال: لا يجوز أن يكون عائدًا عليه في الدنيا لأن الإتيان

صفحة رقم 139

بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدًا عليه في الآخرة، وحينئذ يقال: إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدًّا، لا يليق أن يتصف به اللَّه؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه: إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو اللَّه عنه، بل يجب عقابه؛ لأن اللَّه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده، والكذب في خبره، وهو محال.
وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب، بل يكون ذلك تقريرًا له على ذنبه، وإغراء للغير عليه، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات.
وإذن فالثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار ".
والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلًا منه ورحمة مصداقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه منه بفضل ورحمة ".
أما العاصي فيعاقبه اللَّه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته، ولا نوجب شيئًا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة.
إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة اللَّه على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته، والعفو عنهم لا يلحق باللَّه نقصًا أو قبحًا؛ لأنه يعفو -إذا عفا- عن قدرة، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو.
ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرًا على إرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وتقييدًا لرحمته.

صفحة رقم 140

٤ - المنزلة بين المنزلتين:
إن هذا الأصل قسمة مميزة من قسمات الفكر الاعتزالي، انفردوا به ولم يشاركهم فيه أحد، والقول به سبب نشأة المعتزلة كما أشرنا آنفًا.
ويتعلق هذا الأصل بالحكم على مرتكب الكبيرة، حيث اشتجر الخلاف بين المسلمين حوله وافترقوا شيعًا وأحزابًا؛ يقول البغدادي: " وكان واصل من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة وكان الناس يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق: فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك باللَّه وكان هذا قول الأزارقة من الخوراج وزعم هَؤُلَاءِ أن أطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم، وكانت الصفرية من الخوارج يقولون في مرتكبي الذنوب بأنهم كفرة مشركون كما قالته الأزارقة غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال، وزعمت النجدات من الخوارج أن صاحب الذنب الذي أجمعت الأمة على تحريمه كافر مشرك وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حكم على اجتهاد أهل الفقه فيه وعذروا مرتكب ما لا يعلم تحريمه بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه فيه، وكانت الإباضية من الخوارج يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عَزَّ وَجَلَّ وبما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك، وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق والمنافق شر من الكافر المظهر لكفره.
وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من اللَّه تعالى ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند اللَّه حق ولكنه فاسق بكبيرته وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام وعلى هذا القول الخامس مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها ".
أما واصل بن عطاء -رأس المذهب وزعيم نحلة الاعتزال- فقد خرج عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.
ويعلل واصل بن عطاء لرأيه فيقول: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت

صفحة رقم 141

سمي المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستكمل خصال الخير، ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر أيضًا؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا الفريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ولكنه تخفف النار عليه ".
ويتضح من كلام واصل بن عطاء أن المعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة خالد في النار وقد ترتب على هذا المبدأ " أن مرتكب الكبيرة لا حظَّ له من شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فالشفاعة -عند المعتزلة- ليست لأصحاب الكبائر؛ لأن العدل يقتضي أن يعذب العاصي على معصيته، والشفاعة تتنافى مع هذا العدل، فالشفاعة عندهم ليست لهَؤُلَاءِ وإنما هي للصالحين، والمعتزلة بهذا الرأي ينكرون أو يؤولون كثيرًا من الأحاديث التي تثبت الشفاعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولغيره من العلماء والشهداء والصالحين، وهذه الشفاعة تنال أصحاب المعاصي فيخرجون بفضلها من النار، فلا يبقى في النار بعد الشفاعة إلا من حبسهم القرآن المجيد وهم الكفار؛ لأن هَؤُلَاءِ لا يغفر اللَّه لهم ولا تنالهم رحمته ".
٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة المتفق عليها، فقد قرروا ذلك على المؤمنين أجمعين، نشرًا لدعوة الإسلام وهداية للضالين، ودفعًا لهجوم الذين يحاولون تلبيس الحق بالباطل؛ ليفسدوا على المسلمين أمر دينهم، ولذلك تصدوا للذود عن الحقائق أمام سيل الزندقة التي اندفعت في أول العصر العباسي، تهدم الحقائق الإسلامية، وتفكك عرا الإسلام عروة عروة، كما تصدوا أيضًا لمناقشة أهل الحديث والفقه، وحاولوا حملهم على اعتناق آرائهم بالحجة والبرهان أو بالشدة وقوة السلطان.
تلك هي الأصول الخمسة التي أجمع عليها المعتزلة، ولا يستحق متكلم أن ينسب إلى اعتزال دون أن يؤمن بها.
* * *

صفحة رقم 142

ثانيًا: الأشاعرة
اشتدت خصومة الفقهاء والمحدثين للمعتزلة، واحتدم النزاع بين الفريقين في النظر إلى مسائل الاعتقاد، ومرد ذلك إلى تباين المنهج الذي يصطنعه كل منهما، فالفقهاء والمحدثون ينزعون منزعًا سلفيًّا يقدم النقل على العقل، والمعتزلة يعتدون بالعقل اعتدادًا جعلهم يؤولون ما يتعارض مع أدلته من آيات القرآن، أو ينكرون ما يناقضها من أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فخالفوا جمهور المسلمين في أمور كثيرة؛ كالقول بخلق القرآن وإنكار الشفاعة ورؤية اللَّه يوم القيامة وغير ذلك مما يصدم المشاعر الدِّينية للمسلمين.
ولم تَخْلُ الساحة الفكرية للمعتزلة فحسب، بل كان هناك الحشوية من الحنابلة، وكانوا على الطرف المقابل للمعتزلة حيث أجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة والرؤية، كما أثبتوا له ما وصف به نفسه في القرآن الكريم -كأن له عينًا أو يدًا أو وجهًا- إثباتًا ماديًّا يوهم التجسيم والمشابهة للحوادث، واعتمدوا في ذلك على أحاديث فهموها فهمًا حرفيًّا وقاسوها على ما يتعارف من صفات الأجسام؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق آدم على صورة الرحمن "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "، و " وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله ".
على هذا النحو مست حاجة المسلمين إلى منهج جديد تتحقق فيه الوسطية التي دعا إليها الإسلام، فيسلك بالمسلمين السبيل الذي سلكه الصحابة قبلهم في شئون الاعتقاد، منهج ينزل العقل مكانه الصحيح فيعرف له حدوده وطاقته، ولا يسرف في الاعتداد به،

صفحة رقم 143

منهج يعيد للنقل مكانته التي ضاعت على يد المعتزلة حين جعلوا الدليل النقلي فرعًا يتبع الدليل العقلي.
" فظهر في آخر القرن الثالث رجلان امتازا بصدق البلاء: أحدهما: أبو الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة، والثاني: أبو منصور الماتريدي ظهر بسمرقند، وقد جمعهما مقاومة المعتزلة ".
وينسب مذهب الأشاعرة إلى أبي الحسن الأشعري " ٢٦٠ - ٣٣٠ هـ ".
ولد أبو الحسن بالبصرة وتخرج في أصول الاعتقاد على المعتزلة، حيث تتلمذ على شيخ من شيوخهم المبرزين هو أبو علي الجبائي ولازمه ملازمة أتاحت له شيئًا غير قليل من النبوغ حتى عُدَّ من كبار رجال المعتزلة، فلا غرو أن كان الجبائي ينيبه عنه في حضور كثير من المجادلات والمناظرات التي كان المعتزلة يخوضونها مع خصومهم ومخالفيهم.
الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة:
ولم يكد أبو الحسن الأشعري يبلغ الأربعين من عمره حتى تحول عن مذهب المعتزلة وأنكر طريقتهم في درس العقائد، وكفر بآرائهم وأصولهم.
ويورد الدارسون أسبابًا تبرر هذا التحول، لعل من أهمها تلك المناظرة الشهيرة التي كانت بين الأشعري وشيخه الجبائي حول: وجوب فعل الصلاح والأصلح على اللَّه، حيث سأل الأشعري أستاذه الجبائي عن حال ثلاثة أخوة: الأكبر فيهم مؤمن تقي، والأوسط كافر شقي، والثالث مات صغيرًا قبل بلوغه سن التكليف، قال الجبائي: أما التقي ففي الجنة، وأما الكافر ففي النار، وأما الثالث فلا يثاب ولا يعاقب فهو من أهل السلامة؛ لأنه ليس مكلفًا.
فعاد الأشعري وساله: فماذا يقول اللَّه للصغير إن هو أراد أن يكون مثل أخيه الأكبر في الجنة؛ محتجًّا بأنه لو طال عمره لأطاع واستحق الجنة؟! فرد الجبائي بأن اللَّه يقول له: كنت أعلم أنك لو كبرت لوقعت في المعاصي، ولدخلت النار؛ فكان الأصلح لك أن تموت صغيرًا.
قال الأشعري: فما الرأي لو قال الأخ الأوسط المعذب في النار: لم لم تمتني يا رب صغيرًا حتى لا أعصيك ولا أعذب في النار؟! فلم يستطع الجبائي الإجابة على هذا السؤال

صفحة رقم 144

الذي يهدم أصلاً من أصول المعتزلة وهو مبدأ الصلاح والأصلح.
ولا ريب أن هذه المناظرة -ولا نستبعد وقوع مناظرات أخرى غيرها- قد زعزعت إيمان الأشعري فيما يؤمن به من آراء اعتزالية، وحملته على إعادة النظر فيها، وامتحانها عله يهتدي إلى وجه الحق، فعكف في بيته مدة ينظر في كتب المعتزلة، ويزن أدلتهم، حتى اهتدى إلى فسادها وبطلانها، فرقى المنبر يوم الجمعة بالمسجد الجامع بالبصرة وقال:
" أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن اللَّه تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم، معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللَّه تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا، ورمى ثوبًا كان عليه ".
والحق أن إعلان الأشعري السابق بضلال المعتزلة عن المنهج القويم في أمور الاعتقاد قد تضمن إشارة إلى أبرز وجوه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وهي: القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وإنكار رؤية اللَّه تعالى، وحرية الإرادة الإنسانية والزعم أن الإنسان خالق أفعاله.
وذهب بعض الباحثين إلى أن العامل الحاسم في تحول أبي الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة إنما هو مذهبه الفقهي الذي كان يتعبد به، وهو المذهب الشافعي، وأمر الخصومة بين الفقهاء -ومنهم الإمام الشافعي- والمتكلمين لا سيما المعتزلة أظهر من أن نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه، فلقد ذم الشافعي علم الكلام وكان يعني بذلك المعتزلة، وهاجمهم في بعض كتبه ولم يقبل شهادتهم، وللشافعي نفسه آراء في الاعتقاد تخالف ما ذهب إليه المعتزلة، فهو يعتقد أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن اللَّه يُرى بالأبصار يوم القيامة، ويقول بالشفاعة، ويؤمن بالقدر خيره وشره.
فلا غرو أن أحس الأشعري بتناقض كبير بين أصول مذهبه الفقهي، وآراء مذهبه

صفحة رقم 145

الكلامي أو الاعتقادي الذي رضيه لنفسه.
إذن فإن التكوين الفكري للأشعري نفسه كان يحمل بذور الشك في الفكر الاعتزالي وينطوي على أسباب الثورة والتمرد عليه، على نحو ينتفي معه العجب من تحوله عن مذهب المعتزلة.
وثمة أمر آخر قد يحسن بنا أن نشير إليه في هذا المقام، هو أن الأشعري كان معجبًا بتوسط الإمام الشافعي في آرائه الفقهية بين أهل الرأي وأهل الحديث، فحاول هو أن يقوم بدور الشافعي في علم الكلام بأن يوازن بين العقل والنقل أو بين غلو المعتزلة في العقل ووقوف بعض الحنابلة عند النقل.
ومن هذه النقطة نفسها ننطلق إلى بيان نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية جميعًا:
أولًا: نقد الأشعري للمعتزلة:
لم يكتف الأشعري بالتحول عن الاعتزال حين انقدح له الرأي في مذهبهم بعد نظر وتأمل، بل طفق يهدم هذا المذهب، ويقوض أركانه ودعائمه، ويفند ما يستند عليه من أدلة وبراهين، ويكتسب نقد الأشعري للمعتزلة أهمية خاصة من كونه قد انتسب للمعتزلة فترة غير قصيرة، وانتحل نحلتهم انتحالًا أتاح له الوقوف على نقاط ضعفه وأسباب تهافته، فكان نقده لهم نقد العالم الخبير المستند إلى رصيد ضخم من المعرفة بما ينقد.
والناظر في منهج الأشعري وموقفه من المعتزلة ومناظرته لهم يتبين له أن قوام نقده للمعتزلة إنما هو الإسراف في الاعتداد بالعقل وتقديمه على النص، والاستناد إليه في كل أمر من أمور الاعتقاد، فأقحموه بذلك في ميدان وعرٍ تضل فيه الأفهام إذا لم يكن رائدها الوحي، وتزل فيه الأقدام إذا تخلت عن النقل.
وقد أداهم ذلك إلى آراء خاطئة تخالف ما اصطلح عليه جمهور الأمة، فنفوا عن الحق سبحانه وتعالى الصفات التي أثبتها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
والناس في نظر المعتزلة خالقون لأفعالهم سواء كانت شرًّا أم خيرًا، متمتعون بحرية الإرادة سواء خالفت مراد اللَّه من الخلق أم اتفقت معه.
ويترتب على قول المعتزلة أن الناس مشاركون لله تعالى في أخص صفاته وهي الخلق، وهو ما تأباه العقيدة الصحيحة؛ إذ لا خالق في الكون إلا اللَّه، فلا غرو أن كان

صفحة رقم 146

المعتزلة في رأي الأشعري شر من مذهب المجوس الذين جعلوا لله شريكًا واحدًا وهو الشيطان.
وساق الغلو في استخدام المعتزلة للعقل إلى القول بوجوب الصلاح والأصلح على اللَّه، وهو المبدأ الذي هدمه الأشعري في مناظرته لأستاذه أبي علي الجبائي، وكان أحد الأسباب المباشرة في رفض الأشعري لمنهج المعتزلة وانصرافه عنه، فمن نحن حتى نوجب على اللَّه شيئًا؟! فالعقيدة الصحيحة أن اللَّه يثيب الطائع ويدخله الجنة لا بعمله، ولكن بتفضله ورحمته.
ومن المسائل الكبرى التي أخذها الأشعري على المعتزلة القول بخلق القرآن، " فجعلوه مشابها في الخلق والحدوث لجميع الأشياء الحادثة التي تنقصها القداسة، ونفوا أن يكون صفة لله تعالى، فخالفهم الأشعري في ذلك وقرر في كتاب الإبانة: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو رأي السلف الذي تمسك به الإمام أحمد بن حنبل، غير أن الأشعري قدم بين يديه أدلة سمعية وأخرى عقلية، وبذل جهده لإبطال رأي المعتزلة ".
والخلاصة أن الأشعري لم يرض عن طريقة المعتزلة في النظر إلى العقيدة، وهي طريقة سداها ولحمتها التعويل على العقل والاستقلال به في تأسيس الأحكام في أصول الدِّين، مما جعلهم يفسرون العقيدة والتوحيد تفسيرًا لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من الأئمة، وصدق فيهم قول جولد تسيهر: " إنهم رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمور الدِّين والإيمان ".
نقد الأشعري للحشوية:
يطلق مصطلح الحشوية على طائفة من الحنابلة وجماعة من الشيعة، تمسكوا بحرفية النصوص، وحملوها على ظاهرها حملًا انتهى بهم إلى القول بالتشبيه والتجسيم؛ يقول الشهرستاني: " إن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه، قالوا: إن معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمية يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن ".
واستدل هَؤُلَاءِ على رأيهم بنصوص من القرآن أثبتت لله سبحانه وتعالى بعض الصفات

صفحة رقم 147

من الاستواء واليد والعين والوجه، فأثبتوها إثباتًا ماديًّا، فأجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة، كما عولوا على بعض الأحاديث التي يؤدي معناها المادي الظاهري معنى التجسيم؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق اللَّه آدم على صورته "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ".
وقد انتقد الأشعري هذه الطائفة وشدد النكير عليها، ورماهم بضعف النظر العقلي الذي أداهم إلى آرائهم الشاذة في التجسيم الذي يتنافى مع الوحدانية الصحيحة، وألف رسالة سماها: " استحسان الخوض في علم الكلام "، أشار فيها إلى ضرورة النظر العقلي في مسائل الاعتقاد، وأننا لن نعدم من الأدلة القرآنية ما يؤيد أن المنهج السليم ينبغي أن يقوم على النقل والعقل جميعًا فقال:
" إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدِّين، وطعنوا على من فتش في أصول الدِّين، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجوهر والعرض والجزء والطفرة بدعة وضلالة، مستدلين بأن شيئًا من ذلك لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه ولو كان خيرًا لتكلموا فيه ".
فأجابهم الأشعري بقوله: لم قلتم: إن البحث في ذلك بدعة مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقل بأن من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعًا ضالاًّ؟! فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالاً؛ لأنكم قلتم ما لم يقله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم إن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق موجود في قصة إبراهيم - عليه السلام - وأفول الكواكب والشمس والقمر.
وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ دليل الوحدانية في القرآن الكريم، وكلام المتكلمين في التوحيد والتمانع والتغالب فإنما مرجعه هذه الآية.
وطريقة إلزام الخصم نأخذها من القرآن الكريم، فحينما جاء الحبر السمين وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ يريد بذلك إنكار نبوة مُحَمَّد، فرد القرآن عليه: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ وهذا إلزام أقر به الخصم.
كما استدل الأشعري على إبطال حوادث لا أول لها من سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " فمن

صفحة رقم 148

أعدى الأول ".
على هذا النحو أثبت الأشعري أن القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يهملا النظر العقلي ولا حرما أدلته، بل حثَّا على الأخذ بهما في إلزام الخصوم ودحض شبههم، وحسبك دليلا أن القرآن نفسه قد تضمن شيئًا غير قليل من هذه الأدلة.
ويقول أحد الباحثين:
" وقد اضطر الأشعري للنظر العقلي للأسباب الآتية:
١ - أنه تخرج على المعتزلة وتربى على موائدهم الفكرية، فنال من مشربهم وأخذ من منهلهم، واختار طريقهم في إثبات العقائد، وإن خالفهم في النتائج.
٢ - أنه تصدى للرد عليهم فلابد أن يتبع طريقتهم.
٣ - أنه تصدى للرد على الفلاسفة والقرامطة والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة، وكثير من هَؤُلَاءِ لا يقنعه إلا أقيسة البرهان، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلا دليل العقل، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.
ومن رد الأشعري على المعتزلة وعلى الحنابلة نرى أن الدفاع عن المنهج الأشعري هو نقطة البداية لعلم الكلام السني من غير أن يتطرف في التأويلات العقلية كالمعتزلة، أو

صفحة رقم 149

يستهجن البحث الكلامي كالحنابلة، ولكنه استطاع أن يوفق بين الجانبين -كما فعل الماتريدي- واعتمد على النظر العقلي فوضع للفتن الدِّينية حدًّا، فقضى على مذهب المعتزلة وحل مكانه ".
منهج الأشعري:
تبين لنا من نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية أنه وقف على علة ضلالهما وفساد ما انتهوا إليه من آراء وتصورات في العقيدة، وهذه العلة إنما هي الاقتصار على النقل وإهمال العقل، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل، أما المعتزلة فاستقلوا بالعقل في تأسيس مذهبهم الاعتقادي وظنوا أنه مرقاة إلى العقيدة السليمة، فأداهم ذلك إلى آراء شاذة تنكرها النصوص الشرعية الثابتة، من نفي الصفات والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والشفاعة، وفي سبيل ذلك أولوا آيات القرآن الكريم وطعنوا في السنة الصحيحة والضعيفة جميعًا.
وأما الحشوية فالتزموا بالنقل التزامًا حرفيًّا، ولم يجعلوا للعقل حظًّا من فهمه والاستدلال عليه بأدلته، فزلت أقدامهم في القول بالتجسيم والتشبيه، ورأوا كذلك أن النظر العقلي في أصول الدِّين بدعة، حيث لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحبه - رضوان الله عليهم - فصنف الأشعري للرد عليهم رسالة: " استحسان الخوض في علم الكلام " بين فيها أن القرآن والسنة يشتملان على أصول النظر العقلي والاستدلال المنطقي على صحة العقيدة الإسلامية، وذهب إلى أن تأييد الشرع بالعقل ليس بدعة وإنما هو واجب لابد من أن ينهض بأدائه علماء المسلمين.
اجتهد الأشعري -مستهديًا بنقده للمعتزلة والحشوية- في تأسيس مذهب جديد يُؤَلِّفُ في منهجه بين النقل والعقل ويوائم بينهما " فكان يفهم النص في ضوء العقل أو يسير وراء العقل في حدود الشرع، ويجعل الشرع هاديًا للعقل؛ لأن العقل إذا ترك وشأنه اتبع هواه، لكنه بالشرع يتبع هداه ".
وإذا كان الأشعري قد جمع في منهجه بين العقل والنقل، فإنه قدم النقل على العقل؛ لأن مبنى العقائد على الغيبيات وطريقها الوحي لا العقل، ونص الأشعري صراحة في مقدمة كتابه " الإبانة عن أصول الديانة " على أنه يتمسك بكتاب اللَّه وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كما نص على أن الإمام الذي يتبعه هو

صفحة رقم 150

أحمد بن حنبل.
ونستطيع أن نقرر أن هذا المنهج الذي سلكه أبو الحسن الأشعري امتاز بالوسطية التي دعا إليها الإسلام وأكدها القرآن الكريم في غير آية، حين حث على إعمال النظر والتفكر في الكون وتدبر إحكام صنعته، فلم يهمل العقل ولا حرم استخدامه، ولقد ألمحنا فيما سبق إلى أن القرآن نفسه اشتمل على أدلة عقلية وبراهين قوية ألزم بها خصومه، بالإضافة إلى ما احتواه من أدلة سمعية.
" ولا ريب في أن الأشعري استطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام وأن يجعله من علوم الدِّين، وأن يحسن للعلماء الخوض فيه، واستطاع أيضًا بمنهجه أن يرسخ قواعد المذهب وأن يجذب إليه الكثيرين، وأن يحد من انتشار مذهب المعتزلة، وأن يضيق الدائرة الحشوية، وما ذلك إلا لوسطيته التي التزمها وحرص على تحقيقها في آرائه، والوسط غالبًا ما يكون أقرب إلى الصحة والاعتدال، فكلا طرفي الأمور ذميم، وإذا كان الناس قد تقبلوا مذهب الشافعي في الفروع لتوسطه بين أهل الحديث وأهل الرأي، فإنهم تقبلوا مذهب الأشعري في الأصول؛ لتوسطه بين الحنابلة والمعتزلة، أو بين أهل النقل وأهل العقل ".
وثمة إشكال في " منهج الأشعري الكلامي " يثيره كتابه " اللمع " الذي اقترب فيه -في رأي عدد من المهتمين بعلم الكلام بصفة عامة وبفكر الأشعري بصفة خاصة- من المعتزلة من حيث الاعتداد الكبير بالأدلة العقلية ومن حيث تأويل النصوص الشرعية، الأمر الذي حمل بعض الدارسين على القول بأن الأشعري قد مر في آرائه الكلامية بمرحلتين متعاقبتين مختلفتين أشد الاختلاف:
المرحلة الأولى: ويقترب فيها من العقيدة السلفية اقترابًا شديدًا، ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة ".
المرحلة الثانية: ويقترب فيها من المذهب الاعتزالي، ويمثلها كتابه " اللمع ".
إذ الناظر في كتاب اللمع يجده خاليًا من الإشادة بالإمام أحمد ومن الانتساب إليه خلافًا لما ذكره في الإبانة؛ وكذلك فإن كتاب اللمع خلا من بعض المسائل التي أتى بها

صفحة رقم 151

في الإبانة مثل: إثبات الوجه واليدين والاستواء على العرش.
وقد اتخذ البعض من هذين الكتابين ذريعة لاتهام الأشعري بالتناقض في منهجه الكلامي، أو على أقل تقدير اتخذوا من ذلك دليلًا على تطور عقيدة الأشعري، وتحولها في المرحلة النهائية إلى صورة أقرب للمعتزلة منها إلى أهل السنة.
ويدافع أحد الباحثين عن وحدة المنهج الأشعري، مبينًا أن التباين في المنهج الذي احتذاه الأشعري في كتابيه الإبانة واللمع يرجع إلى اختلاف الفرقة التي يرد عليها وينقد آراءها، فيقول:
إن الأشعري حين ألف الإبانة كان يريد أن يحسم موقفه مع المعتزلة ويبين العقيدة التي يعتنقها ويسير عليها ويدافع عنها، فجاء منهجه متحاملا على المعتزلة غير مهادن لهم؛ لأنه كما نعلم أخذ على نفسه عهدا أن يكشف أمرهم ويظهر فضائحهم، ومن ناحية أخرى فإنه أظهر أن الإمام الذي يسير على منهجه هو الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف ضد المعتزلة وقفته المشهورة، فكتاب الإبانة من هذه الناحية يعتبر تقريرًا لعقيدة الأشعري بملامح منهجية جديدة.
أما كتاب اللمع فقد ألفه ليرد على الدهرية ونفاة الصانع بجانب رده على المعتزلة بعد أن تم له النصر عليهم فجاءت آراؤه بعيدة عن التحامل؛ فالكتاب والأمر كذلك تعبير عن منهج قد نضج فعلاً، وقد دافع إمام الحرمين عن منهج الأشعري، ولم يشر إلى أي مراحل منهجية مع أن الجويني كان إذا تصدى لمسألة فإنه يذكر الأقوال فيها، ويبين طرقها المختلفة، ويفند الأمر من وجهة نظره تفنيدًا منهجيًّا، ولم يطلعنا وهو يرد على خصوم شيخه على أي اختلاف لمنهج الأشعري، فلما طعن المعتزلة على الأشعري في تصدير كتابه اللمع بالدلالة القرآنية وبمفهومها الشارح لها، بين الجويني في الشامل أن السبب الذي جعل الأشعري يسلك هذا المنهج هو أن اللَّه تعالى احتج على الكفرة والمنكرين بالحجج التي صدر بها الأشعري اللمع حتى تكون حجته موافقة للقرآن، فقال: " وما اعترضوا به من قولهم: إن الاستدلال بالقرآن على الدهرية ونفاة الصانع لا يتحقق باطل؛ لأن شيخنا ما استدل عليهم بنفس الآية وإنما استدل عليهم بمعناها، وهي تنطوي على وجه الحجاج، والذي يوضح ذلك أن الرب تعالى احتج بما ذكره على الكفرة والمنكرين، وذكره الأشعري ليقيم الاحتجاج به على حسب ما أراد اللَّه من الاحتجاج ".

صفحة رقم 152

ومهما يكن من أمر، فإن المذهب الأشعري نفسه قد تطور بعد وفاة رائده الأول أبي الحسن على يد الأشاعرة المتأخرين الذين كانوا في آرائهم ومنهجهم أدنى إلى المعتزلة، من حيث الاعتماد على العقل في الاستدلال والاستنباط، وإن كانوا لا يردون الشرع ولا يهملونه؛ لأنهم يرون أن الشرع حجة اللَّه والعقل حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.
ويبدو قرب منهج الأشاعرة المتأخرين من منهج المعتزلة في موقفهم من الدليل السمعي والشروط التي وضعوها له، والتي من أهمها ما يلي:
أولًا: أن يكون غير مستحيل في العقل، وهذا يتفق مع قولهم: إن العقل والشرع حجتين لله تعالى، وحجج اللَّه تتعاضد ولا تتعارض؛ فلا يوجد في نظرهم دليل سمعي قطعي مستحيل في العقل.
ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد؛ لأنها ليست قطعية الثبوت.
ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة، فإذا كان السمعي قطعي الثبوت، ولكنه يحتمل التأويل، كان غير قطعي الدلالة.
بعض آراء الأشعري:
رأينا أن نختم حديثنا عن المذهب الأشعري، بأن نذكر طرفًا من آراء أبي الحسن وشيعته في بعض مسائل الاعتقاد، والتي كانت ثمرة من ثمار المنهج الذي اصطنعوه، من أجل أن يكون تصور القارئ عن هذا المذهب أدنى إلى الكمال وأقرب إلى الوضوح.
١ - اقترب الأشعري في بحثه لصفات اللَّه تعالى من أهل السنة إلى حد بعيد، حيث أثبت لله الصفات جميعًا بقسميها أي الصفات السلبية والصفات الثبوتية كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات، بيد أنه لم يقف عند هذا الحد، بل تابع البحث في الصفات بحثًا عقليًّا فانتهى إلى ما يلي:
أولًا: أن الصفات زائدة على الذات، وليست عين الذات كما يرى المعتزلة، ويرى الأشعري أن هذا التصور لصفات اللَّه لا يترتب عليه تصور التعدد أو التركيب في ذات اللَّه، والدليل على صدق كلامه زيادة صفات الإنسان على ذاته دون أن تؤدي إلى تعدد في

صفحة رقم 153

ذات الإنسان.
ثانيًا: هذه الصفات متغايرة فيما بينها، فالعلم صفة لله تختلف عن صفة القدرة وكلتاهما مختلفتان عن صفة الإرادة.
ثالثًا: هذه الصفات الإلهية أزلية لابداية لها، فهي تشترك في القدم مع الذات، " ويدلل الأشعري على هذا الرأي بدليل يثبت به أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون حادثة؛ لما يترتب على ذلك من نتائج باطلة، ويعلل ذلك بقوله: إننا إذا افترضنا جدلًا أن هذه الصفات حادثة، فسنكون أمام احتمالات أو فروض ثلاثة:
الأول منها: أن يحدث اللَّه هذه الصفات في نفسه، وهذا باطل؛ لأنه يجعل اللَّه محلاًّ للحوادث ومقارنًا لها، وما يتصل بالحوادث حادث عند المتكلمين.
والفرض الثاني: أن يحدثها اللَّه في غيره، وهذا باطل أيضًا؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون هذا الغير موصوفًا بصفات اللَّه تعالى، فيكون مريدًا بإرادة اللَّه تعالى، وعالمًا بعلمه، وهذا باطل.
والفرض الثالث: هو أن تكون الصفة الحادثة مستقلة بذاتها، وهذا باطل أيضًا؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى موصوف تقوم به.
وإذا بطلت هذه الفروض الثلاثة لم يكن أمامنا إلا التسليم بقدم هذه الصفات وأزليتها ".
٢ - ذهب الأشعري إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، متابعًا في ذلك رأي السلف الذي دافع عنه وأوذي بسببه الإمام أحمد بن حنبل، بيد أن الأشعري قدم بين يدي رأيه أدلة سمعية وعقلية، خلاصتها أن القرآن كلام اللَّه فلا ينبغي أن يكون حادثًا؛ لما ينبني على ذلك من إلحاق صفة الحدوث باللَّه تعالى.
٣ - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة رؤية اللَّه في الآخرة، حيث ذهب إلى إثباتها، غير أنه نفى أن تكون هذه الرؤية رؤية إحاطة؛ لأن اللَّه تنزه عن أن تدركه الأبصار، ونفى أيضًا عن الرؤية معاني التجسيم والتشبيه، ورأى أن الرؤية المقصودة أقرب إلى الرؤية القلبية، فوقف بذلك موقفًا وسطًا بين المعتزلة المنكرين لها والمشبهة الذين أثبتوها وأثبتوا

صفحة رقم 154

ما تؤدي إليه من الجسمية والمكان.
٤ - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة حرية العباد في أفعالهم، ووقف موقفًا وسطًا بينهم وبين الجبرية حيث قال بنظرية الكسب، وتعني أن الفعل خلق وإبداع من اللَّه وكسب من العبد.
٥ - هدم الأشعري مبادئ المعتزلة في وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه وإنكار الشفاعة، والقول بخلود أصحاب الكبائر في النار، ومال في ذلك كله إلى رأي السلف.
على هذا النحو اختلفت آراء المذهب الأشعري عن آراء المعتزلة والحشوية، وكانت وسطًا بينهما، ولعل هذه الوسطية التي تحققت في فكر الأشعري ومدرسته هي السبب في ذيوع مذهبه وانتشاره في أكثر البلاد الإسلامية.
* * *

صفحة رقم 155

ثالثًا: الماتريدية
أسس هذا المذهب العلامة مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود أبو منصور الماتريدي مصنف هذا الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه، وقد سبقت ترجمتنا له.
وقد كان الماتريدي مشهورًا بالاعتدال والتوسط حتى اتفق الناس على علو قدره وتميز منزلته، حتى قيل: لو لم يكن في الحنفية إلا هذا الإمام لكفاهم.
وكنا قد أشرنا إلى أن الماتريدي كان أحد اثنين قاما بالذود عن عقيدة أهل السنة، وتفنيد آراء المعتزلة المخالفة لها.
ومن الحق أن نقرر أن الماتريدي اتخذ منهجًا امتاز بالوسطية والاعتدال، على نحو ما صنع معاصره أبو الحسن الأشعري، فاحتلت شخصيته مكانة تليق به كواحد من أفاضل علماء أهل السنة والجماعة في بلاد المشرق الإسلامي.
وسوف نفصل القول في بيان مذهب الماتريدية، والمسائل التي خالف فيها الماتريدي أبا الحسن الأشعري.
فنقول:
يعد الماتريدي -بحق- واحدًا من أبرز المؤسسين لعلم الكلام الإسلامي؛ إذ ينسب إليه المذهب الماتريدي، وهو مذهب يهدف إلى فهم أصول الشريعة وقواعد الإسلام في ضوء الأسس العقلية السليمة، فهو مذهب يجمع بين العقل والنقل، وإن كان العقل تابعًا، مهمته فهم أصول التوحيد التي نقلت إلينا من طريق الوحي.
وقد أشرنا في غير موضع إلى تشابه المذهب الأشعري مع المذهب الماتريدي، وأن كلا المذهبين قد نشأ في سياق فكري واحد.
وقامت الماتريدية بالرد على المخالفين والمغالين وبخاصة المعتزلة والروافض والمشبهة، وكان المنهج الذي اعتمده علماء هذا المذهب في الرد على المخالفين ومناقشة المسائل الكلامية منهجًا معتدلاً يوازن بين العقل والنقل، وهو المنهج نفسه الذي عول عليه الأشعري.
أثمر اتفاق -أو قل تطابق- المنهجين اللذين اصطنعهما الأشاعرة والماتريدية، اتفاقًا بينهما في أمهات المسائل الكلامية؛ مثل: وجود اللَّه وصفاته، وجواز رؤيته في الدنيا، وتحقق الرؤية للمؤمنين في الآخرة... إلى آخر هذه المسائل المثبتة في كتب التوحيد

صفحة رقم 156

وعلم الكلام.
ونذكر هنا على سبيل الإجمال المسائل التي اختلف فيها السادة الأشعرية مع السادة الماتريدية وقد تقدم بيان أن مدار جميع عقائد الملة الإسلامية على قطبين من أقطاب العلوم الشرعية: أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري، والآخر الإمام أبو منصور الماتريدي.
وقبل ذكر هذه المسائل يجدر بي أن أبين أن الأشاعرة والماتريدية متفقون على الأصول العامة لعقيدة أهل السنة والجماعة، والخلاف الظاهر بينهما في بعض المسائل الجزئية، وهو أمر لا يقدح في نسبتهما جميعًا إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يوجب القول بأن أحد الفريقين مبتدع، مخالف للعقيدة السليمة.
قال الخيالي في حاشيته على شرح العقائد: " الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور، وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل؛ كمسألة التكوين وغيرها ". اهـ.
وقال السكستلي في حاشيته عليه: " المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة - أي. طريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والجماعة - أي: طريقة الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، وبين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول؛ كمسألة التكوين ومسألة الاستثناء في الإيمان، ومسألة إيمان المقلد. والمحققون من الفريقين لا ينسب أحدهما الآخر إلى البدعة والضلالة ". اهـ.
وقال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك... وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية، أعني الكتاب والسنة

صفحة رقم 157

والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسألة التكوين ومسألة التقليد.
الثالثة: أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية " اهـ.
وليعلم أن كلا من الإمامين أبي الحسن وأبي منصور -رضي اللَّه عنهما وجزاهما عن الإسلام خيرًا- لم يبتدعا من عندهما رأيًا ولم يشتقا مذهبًا، إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأحدهما: قام بنصرة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه، والثاني: قام بنصرة نصوص مذهب أبي حنيفة وما دلت عليه، وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا وولوا منهزمين، وهذا في الحقيقة هو أصل الجهاد الحقيقي، فالانتساب إليهما إنما هو باعتبار أن كلًّا منهما عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في تلك المسالك والدلائل يسمى أشعريًّا وماتريديًّا.
ويقول الدكتور مُحَمَّد حسن أحمد حسانين:
فالماتريدية والأشاعرة متفقون في المذهب، أما الناحية المنهجية: فإن بينهم بعض الاختلاف الذي لا يضر في العقيدة ولا يبدع أحدًا منهم؛ فالأمور المختلف فيها جزئية فرعية، معظمها مبني على شبه الألفاظ وتعيين المعنى المراد منها.
وهي عند النظر السليم لا تخرج عن كونها اختلافات مثل ما بين أصحاب الأشعري وأصحاب أبي حنيفة.
وقال العلامة السبكي في الطبقات: ولي قصيدة نونية جمعت فيها هذه المسائل وضممت إليها مسائل اختلف الأشاعرة فيها... وقال في شرح عقيدة ابن الحاجب: ثم تصفحت كتب الحنفية، فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث

صفحة رقم 158

عشرة مسألة، منها معنوي ست مسائل والباقي لفظي، وتلك الستة المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم.
قلت: ومطلع القصيدة التي ذكرها السبكي هي:

الوَرْدُ خَدُّك صِيغَ من إنسانِ أم في الخُدودِ شَقائقُ النعْمانِ
والسيفُ لحظُك سُلَّ من أجفانهِ فسطا كمثل مُهَندٍ وسِنَانِ
تاللَّه ما خُلقتْ لِحَاظُكَ باطلًا وسُدًى تعالى اللَّه عن بُطْلَانِ
ثم ذكر في البيت التاسع والستين وما بعده:
هذا اعتقادُ مشايخِ الإسلامِ وَهـ وَالدِّينُ فلْتَسْمعْ له الأذنانِ
الأشعري عليه ينصره ولا يألو جزاه اللهُ بالإحسانِ
وكذاك حالته مع النعْمان لم ينقض عليه عقائد الإيمان
يا صاح إن عقيدة النعمان والـ أشعري حقيقة الإتقان
فكلاهما واللَّه صاحب سنَّةٍ بهدى نبي اللَّه مقتديانِ
لا ذا يُبَدِّع ذا ولا هذا وإن تَحْسَبْ سِواه وَهِمْتَ في الحُسْبانِ
من قال إن أبا حنيفة مبدعٌ رأيًا فذلك قائلُ الهَذيَانِ
أوْ ظَنَ أن الأشعري مُبدِّعٌ فلقد أساء وباء بالخُسرانِ
كل إمام مقتد ذو سنَّةٍ كالسيف مسلولًا على الشيطانِ
والخلفُ بينهما قليلٌ أَمْرُه سهل بلا بِدْع ولا كفران
فيما يقل من المسائل عَدُّهُ ويهون عند تطاعُن الأقرانِ
ولقد يئول خِلافُها إما إلى لفظٍ كالاستثناء في الإيمانِ
ويدلنا النظر في كتب العقائد وتأمل مصنفات الأصول أن ما بينهما من خلاف إنما هو خلاف فرعي لا يمس شيئًا من الأصول.
وفيما يلي نجمل المسائل التي كانت محل خلاف بين الأشاعرة والماتريدية، ثم نذكر نبذة يسيرة عن كل مسألة: مع بيان المسائل المختلف فيها لفظًا والمختلف فيها معنى.
فأما المسائل المختلف فيها لفظًا فهي:
١ - السعادة والشقاء.

صفحة رقم 159

٢ - بقاء الرسالة.
٣ - الإرادة والرضا.
٤ - الاستثناء في الإيمان.
٥ - إيمان المقلد.
٦ - الكسب.
٧ - الكافر منعم عليه أم لا.
والمسائل المختلف فيها معنويًّا:
١ - تكليف ما لا يطاق.
٢ - الثواب والعقاب.
٣ - التكوين.
٤ - كلام اللَّه.
٥ - معرفة اللَّه تعالى بالعقل أم بالشرع؟
٦ - عصمة الأنبياء عليهم السلام.
أولاً: المسائل المختلف فيها لفظًا:
المسألة الأولى: السعادة والشقاوة
السعادة والشقاوة في اللغة والاصطلاح:
أ - في اللغة:
السعادة: خلاف الشقاوة، والسعيد: نقيضه الشقي، والسعد: هو اليمن ونقيضه
النحس.
ب - في الاصطلاح:
السعادة: هي ما يجده القلب من الطمأنينة عند تنزل الغيب، وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده ويطمئن صاحبه في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنظر إلى وجه الرحمن سبحانه وتعالى، ودخول الجنة.

صفحة رقم 160

والاختلاف في هذه المسألة اختلاف حول الإجابة عن سؤال مهم، ألا وهو:
هل يسعد الشقي أم لا، وهل يشقى السعيد أم لا؟ حيث اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في الإجابة عن هذا السؤال.
فعند الماتريدية:
يرى الماتريدية أن السعادة والشقاوة تكونان في الحال، وليستا أزليتين، وبذلك يكون السعيد عندهم هو المؤمن في الحال، ولو مات على الكفر فقد انقلب شقيًّا بعد أن كان سعيدًا، والشقي هو الكافر في الحال، ولو مات على الإيمان فقد انقلب سعيدًا.
أما عند الأشاعرة:
فمفهوم السعادة عندهم هو الموت على الإيمان، وذلك - باعتبار تعلق علم اللَّه - تعالى - أزلًا بذلك.
وكذلك فالشقاوة عندهم هي الموت على الكفر.
وبذلك يكون السعيد عندهم سعيدًا في الأزل، والشقي شقيًّا في الأزل، ولا يتبدل السعيد شقيًّا، أو الشقي سعيدًا.
والحق أن الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة خلاف لفظي، ومحصور في مسألة بعينها ألا وهي: حال من أسلم بعد الكفر: هل هو شقي أم سعيد؟ والفريقان متفقان على أنه سعيد بإسلامه، لكنهم قد اختلفوا فيما إذا كان قد تبدل بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة أم أنه سعيد أزلًا في علم اللَّه تعالى، وليس هناك تبدل، والكفر عرض له.
فقد ذهب الماتريدية إلى أنه قد تحول بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة، وذلك غير مخالف لما في علم اللَّه أزلًا.
أما الأشاعرة: فقد ذهبوا إلى أنه سعيد، ولم يتبدل حاله من حيث السعادة والشقاوة، فهو في حالة الكفر كان سعيدًا أيضًا تبعًا للخاتمة.

صفحة رقم 161

المسألة الثانية
حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل
قبل عرض المسألة والخلاف فيها ينبغي أولًا أن نعرف بالرسول في اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين النبي.
ففي اللغة:
الرسول: يقال: أرسلت رسولاً، أي: بعثته برسالة يؤديها، فهو فعول بمعني مفعول.
وفي الاصطلاح:
الرسول: هو من اختصه اللَّه بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي، وأمر بتبليغه.
الفرق بين الرسول والنبي:
النبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لإنبائه عن اللَّه -تعالى- إذ هو المتلقي لوحي السماء، وهو -اصطلاحًا-: من اختصه اللَّه -سبحانه وتعالى- بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا.
وبذلك يكون الفرق بين الرسول والنبي أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا.
ولقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل على ما يلي:
الماتريدية:
وعندهم أن الرسل والأنبياء يظلون كذلك حتى بعد موتهم.
وأما الأشاعرة:
فيرون أن الأنبياء والرسل بعد موتهم في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصله.
وبذلك يتضح أن الفريقين يتفقان في أصل المسألة وهي أن الرسالة باقية إلى الآن، لكن الخلاف فيما إذا كانت الرسالة باقية حقيقة أم في حكم الرسالة.

صفحة رقم 162

المسألة الثالثة
الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا
الإرادة: في اللغة والاصطلاح:
في اللغة:
الإرادة: هي القصد، والمشيئة، يقال: أراد كذا، أو شاء كذا، أي: قصده.
وفي الاصطلاح:
هي صفة ثبوتية قديمة قائمة بذاته تعالى وزائدة عليها، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة.
وقد اختلف السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة بعد اتفاقهم على أن اللَّه تعالى مريد، وأن ما يقع في الكون من خير وشر فهو مراد له تعالى - في أنه: هل هناك تلازم بين الإرادة والرضا بالمراد أم لا؟
فالماتريدية:
يثبتون إرادة اللَّه تعالى الشاملة لأفعال العباد؛ لأن أفعال العباد من خلقه تعالى، والقول بعدم إرادة اللَّه الشاملة معناه عدم قدرة اللَّه على أفعالهم، فالقول بالقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والعلم المطلق لازم لتمام صفات الألوهية.
غير أن الماتريدية يقولون: إنه لا محبة في صفة الإرادة، وأن هذه الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة؛ إذ الكفر غير مرض، وهو مراد لله تعالى، وأن الإرادة والمشيئة لفظان مترادفان، كما أن إرادة اللَّه صفة أزلية ليست حادثة، وهي متعلقة بجميع الممكنات تعلق تخصيص، ويترتب على ذلك نفي التلازم بين الإرادة والرضا والمحبة؛ لأن الماتريدية يرون أن معنى الرضا ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه، ومعنى المحبة استحماده تعالى له، والإرادة عامة. وبذلك يكون بين الإرادة والرضا والمحبة عموم وخصوص وجهي.

صفحة رقم 163

أما الأشاعرة:
فيرون أن الإرادة هي الرضا والمحبة؛ إذ المحبة هي الإرادة والرضا كذلك معناه الإرادة، والإرادة تستلزم الرضا والمحبة، وبهذا تكون الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والاختيار كلها بمعنى واحد، مثلما يكون المعرفة والعلم بمعنى واحد.
وفي هذا يقول الإمام البغدادي في المسألة السادسة:
أجمع أصحابنا أن إرادة اللَّه تعالى مشيئته واختياره، وعلى أن إرادته للشيء كراهيته لعدم ذلك الشيء كما قالوا: إن أمره بالشيء نهي عن ضده، وقالوا أيضًا: إن إرادته صفة أزلية قائمة بذاته، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع مراداته على وفق علمه بها فما علم منها كونه أراد كونه، خيرًا كان أو شرًّا وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. ولا يحدث في العالم شيء لا يريده اللَّه ولا ينتفي ما يريده اللَّه؛ وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والحق أن الفريقين يتفقان في أصل الإرادة ويختلفان في المراد، ويرجع هذا الخلاف إلى الجهة التي نظر منها كل منهما إلى مفهوم الإرادة، فالماتريدية نظروا إلى جهة العلم، وبذلك فقد ذهبوا إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضا؛ إذ ليس هناك تلازم بين الإرادة والرضا، بينما نظر الأشعرية إلى أنها عامة وشاملة للكائنات كلها، وبذلك ذهبوا إلى أن كل مراد مرض، وهناك تلازم بين الإرادة والرضا.
المسألة الرابعة
الاستثناء في الإيمان
التعريف بالإيمان في اللغة والاصطلاح:
الإيمان في اللغة:
الإيمان: التصديق، وهو ضد الكفر، والتصديق ضد التكذيب، من: آمن بالشيء، يؤمن به، إيمانًا، فهو مؤمن قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).

صفحة رقم 164

الإيمان في الاصطلاح:
لقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في التعريف بالإيمان ومفهومه في الشرع على ما يلي:
مفهوم الإيمان عند الماتريدية:
يعرف الماتريدية الإيمان بأنه " تصديق بالقلب وإقرار باللسان ".
مفهوم الإيمان عند الأشاعرة:
ويعرفه الأشعرية بأنه " التصديق باللَّه تعالى "، وهذا هو ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري، وقد حدد المقصود بالتصديق بأنه التصديق القلبي، وهذا التصديق القلبي عند الأشاعرة هو: " الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات وأنه ليس كمثله شيء ".
الاستثناء عند الماتريدية:
ذهب الماتريدية إلى منع دخول الاستثناء في الإيمان، فالمؤمن عندهم يكون مؤمنًا حقًّا، وليس مؤمنًا بالمشيئة؛ وذلك لأن الماتريدية يرون أن الاستثناء شك في إيمان المؤمن وشرائطه التي لا تقبل الشك.
يقول الإمام الماتريدي: الأصل عندنا قطع القول بالإيمان والتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه؛ لأن كل معنى في اجتماع وجوده تمام الإيمان عندهم إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى؛ نحو أن يقول: أشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إن شاء اللَّه، أو: محمدًا رسول الله إن شاء اللَّه، وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب... فالعرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه -أي: الاستثناء- في موضع الإحاطة والعلم، ومن سمع ذلك استعظم القول، كمن أشار إلى محسوس ويستثني.
الاستثناء عند الأشاعرة:
يذهب الأشاعرة إلى جواز الاستثناء في الإيمان، فيمكن للمؤمن أن يقول:
أنا مؤمن إن شاء اللَّه.
يقول الإمام البغدادي: كل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان

صفحة رقم 165

قال بالموافاة، وكل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافى بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنًا، والواحد من هَؤُلَاءِ يقول: أعلم أن إيماني حق وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنًا حقًّا، فيستثني في صحة إيمانه.
وبذلك يظهر أن محل الخلاف هو أن الماتريدية لا يجيزون الاستثناء في الإيمان، بينما الأشعرية يجيزون ذلك.
المسألة الخامسة: إيمان المقلد
وقع اختلاف بين السادة الماتريدية والسادة الأشاعرة في صحة إيمان المقلد، وكذلك صحة تسميته مؤمنًا، وهل يكتفي بالتقليد في العقائد الدِّينية أم لا؟
فالماتريدية:
يذهبون إلى القول بصحة إيمان المقلد؛ لأن مع هذا الإيمان تصديقا، والتصديق هو أصل الإيمان، وعند الماتريدية يصح الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدِّينية، إلا أن المقلد يعد عاصيًا بتركه للنظر إذا كان قادرًا على ذلك؛ ولذلك قيل: إن النظر واجب وجوب الفروع، وليس وجوب الأصول، وإلا كان هذا المقلد كافرًا.
يقول أبو منصور الماتريدي:
" ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي، ولكن إذا بني اعتقاده على قول الرسول، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كافٍ لصحة إيمانه ".
أما الأشاعرة:
فإنهم يقولون بأنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدِّينية، ولكن لابد من الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل؛ لأن الإيمان من المسائل الأصولية، وهذه قليلة يمكن الإحاطة بها، وتكفي فيها المعرفة على الإجمال، ولا يشترط عندهم القدرة على التعبير عن ذلك؛ لأننا مأمورون بأن نتبع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والرسول - عليه السلام - مأمور بتحصيل العلم بتلك الأصول، والتصديق لا يوجد بدون العلم والمعرفة، والمقلد لا علم له حتى يحصل عنده التصديق، فإن لم يحصل هذا التصديق عنده فلا يحصل الإيمان.

صفحة رقم 166

ويذهب الأشاعرة إلى أن المقلد عاص بتركه النظر والاستدلال، ولكنه ليس مشركًا أو كافرًا، ويجوز أن اللَّه تعالى يغفر له، فإذا عوقب على المعصية دخل الجنة.
يقول البغدادي:
إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه، وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها ".
والمتأمل للمسألة يرى أن الماتريدية والأشعرية يتفقان على أن المقلد قد خرج بتقليده عن الكفر والشرك، لكنهما يختلفان في تسمية المقلد مؤمنًا أو لا، فالماتريدية يسمونه مؤمنًا، بينما يمنع الأشعرية ذلك.
المسألة السادسة: الكسب
الكسب: هو ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفعٍ وتحصيل حظ، وقد يستعمل فيما يظن أنه يجلب منفعة ثم جلب مضرة.
وقال ابن الكمال: هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر.
وينبغي ذكر أن السادة الماتريدية قد اتفقوا مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة اللَّه تعالى، وللعباد فيها الكسب، لكن الماتريدية يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب.
فالماتريدية:
يثبتون للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل، ولا أثر لها في الإيجاب والإحداث، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية، وتتمثل هذه القدرة في القصد والاختيار للفعل، واللَّه سبحانه وتعالى يخلق للعبد القدرة على الفعل، وتكون نتيجة الفعل عليه.
وبذلك يثبت الماتريدية أن للعبد اختيارًا في أفعاله، وهذه الأفعال هي التي يترتب عليها

صفحة رقم 167

المدح والذم في الدنيا، كما يترتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة، ولم يمنع الماتريدية إضافة الأفعال إلى اللَّه تعالى؛ إذ إنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.
أما الأشاعرة:
فيذهبون إلى أن قدرة العباد التي وقع بها الفعل غير مخلوقة، وأن أمرها بأيديهم، وعليها مدار تكليفهم. والإرادة عند الأشاعرة هي الإرادة الجزئية، أما الإرادة الكلية عندهم فهي مخلوقة لله تعالى.
المسألة السابعة
الكافر منعم عليه أم لا؟
التعريف بالنعمة والكفر في اللغة والاصطلاح:
أ - اللغة:
النعمة: هي اليد والصنيعة والمنة، وكذلك: النعمى، وهي النعماء والنعيم، والجمع: أنعم.
أما الكفر: فهو نقيض الإيمان، يقال: كفر يكفر كفرًا وكفورًا وكفرانًا.
ب - في الاصطلاح:
النعمة: ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض.
أما الكفر: فهو ستر نعمة المنعم بالجحود أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم.
وقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة فيما إذا كان الكافر منعمًا عليه أم لا، وكذلك في هذه النعمة وهل هي نعمة دين أم دنيا أم هما معًا، وهل هي نعمة على الحقيقة أم لا؟ وذلك على ما يلي:
رأي الماتريدية:
يرى الماتريدية أن الكافر مُنْعَمٌ عليه، لكن هذا الإنعام إنما وقع في الدنيا فقط.

صفحة رقم 168

يقول الإمام أبو حنيفة: إن الكافر منعم عليه في الدنيا، حيث خوله اللَّه تبارك وتعالى قوى ظاهرة وباطنة، وجعل له أموالًا ممتدة، فالنعمة دنيوية والنقمة أخروية.
رأي الأشاعرة:
ويرى الأشاعرة أن الكافر لم ينعم عليه لا في الدِّين ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
يقول الأشعري: إن اللَّه تعالى لم ينعم على الكافر دنيا ولا أخرى، وإن كان قد أنعم عليه نعمة الدنيا بأن خلقه ورزقه، فإن الحياة في حد ذاتها نعمة بشرط أن يكون الإنسان موفقًا في طاعة اللَّه تعالى، فإذا وجدت تلك النعمة مع فقد التوفيق في المكلف فليست الحياة نعمة إطلاقًا.
ونرى أن الخلاف بين الفريقين في هذه المسألة ليس خلافًا كبيرًا ذلك أن الماتريدية القائلين بأن الكافر منعم عليه إنما يعنون النعم التي يعطاها الكافر في الدنيا حتى ولو لم تكن عقباه محمودة.
أما الأشاعرة الذين يقولون بأن الكافر غير منعم عليه فقد حصروا النعمة في مجال خاص، إذ قصدوا بالنعمة ما ينعم به على الإنسان ويكون محمود العاقبة، والمتأمل للمسألة يجد أن الفريق الأول -وهم الماتريدية- قد نظر إلى النعم نظرة خاصة لمفهوم النعم ذاته، وبينما نظر الفريق الثاني -وهم الأشاعرة- إلى هذا المفهوم -وهو مفهوم النعم- نظرة أخرى.
ثانيًا: المسائل المختلف فيها معنويًّا:
المسألة الأولى التكليف بما لا يطاق
التكليف: في اللغة والاصطلاح:
التكليف في اللغة:
التكليف من الكلفة، وهي التعب والمشقة، يقال: تكلف الأمر إذا فعله على كلفة ومشقة.

صفحة رقم 169

التكليف في الاصطلاح:
التكليف هو: إلزام الكلفة على المخاطب.
وقبل أن نبين رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة فإن ثمة أقسامًا وأركانًا للتكليف يجب أن نعرضها وهي:
أقسام التكليف:
ينقسم التكليف باعتبار اللفظ الوارد به، أو باعتبار الحكم:
فباعتبار اللفظ الوارد به يكون ثلاثة أقسام:
الأول: التكليف بالأمر، مثل قول اللَّه تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
الثاني: التكليف بالنهي، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾.
الثالث: التكليف بالخبر، وهو إما خبر في معنى الأمر؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أو خبر في معنى النهي؛ مثل قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾.
أما باعتبار الحكم فيكون خمسة أقسام:
الأول: تكليف موجب؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
الثاني: تكليف محرم؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾.
الثالث: تكليف يدل على أن ما ورد به سنة؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾.
الرابع: تكليف يدل على أن ما ورد به مكروه؛ مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن أبغض الحلال عند اللَّه الطلاق ".

صفحة رقم 170

الخامس: تكليف يدل على إباحة ما ورد به من غير وجوب ولا حظر ولا كراهة ولا استحباب؛ مثل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾.
أركان التكليف:
وللتكليف ثلاثة أركان:
الأول: المكلِّف.
الثاني: المكلَّف.
الثالث: المكلَّف به.
مراتب التكليف:
وهما مرتبتان:
الأولى: التكليف بما يطاق.
الثانية: التكليف بما لا يطاق.
أما رأي الماتريدية والأشاعرة في المسألة فهو كما يلي:
الماتريدية:
يذهبون إلى عدم جواز أن يكلف اللَّه تعالى عباده بما لا يطيق العباد، فالماتريدية يرون أن التكليف يكون فيما يُقدر على إتيانه، أما غير المقدور على إتيانه فلا تكليف فيه.
يقول الماتريدي: " تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل ".
الأشعرية:
ويذهب الأشاعرة إلى أن قدرة اللَّه تبارك وتعالى قدرة مطلقة، ويجوز لله أن يكلف عباده بما لا يطيقون.
يقول أبو بكر الباقلاني: " يجوز لله أن يكلف عباده ما لا يطيقون، إلا أن التكليف بما لا يطاق على نوعين:
أحدهما: العجز أصلًا عن الفعل، وذلك ينتفي التكليف به لوجود مانع، وهو العجز.
الثاني: إذا كان المراد عدم القدرة على الفعل لتركه والاشتغال بضده، فذلك جائز

صفحة رقم 171

التكليف به لارتفاع العجز المانع أصلًا ".
وبعد عرض رأي كل من الماتريدية والأشعرية يظهر لنا أن الماتريدية والأشعرية متفقون في حكم أقسام التكليف ما عدا التكليف بالمحال لغيره، وهو أدنى مراتب التكليف بما لا يطاق، فقد ذهب الماتريدية إلى منعه إلا في المقدور على إتيانه، أما ما لا يمكن إتيانه فلا تكليف فيه، لكن الأشعرية قد ذهبوا إلى جوازه؛ لأن قدرة اللَّه تعالى قدرة مطلقة.
المسألة الثانية: الثواب والعقاب
من الواضح أن كلًّا من السادة الماتريدية والأشاعرة يتفقان في القول بعدم جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي.
أما محل الخلاف بينهما فهو في المدرك، حيث ذهب الماتريدية إلى أن المدرك لذلك هو العقل والشرع.
وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن المدرك لذلك هو الشرع.
وقد ترتب على ذلك أن الماتريدية منعوا جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي، بينما أجاز ذلك الأشعرية، وفي ذلك خلاف سنفصل القول فيه على ما يلي:
الماتريدية:
لقد ذهب الماتريدية إلى القول بمنع تعذيب المطيع عقلاً أو شرعًا.
يقول الإمام أبو حنيفة: " لا يجوز مطلقًا لا عقلًا ولا شرعًا أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى العبد الطائع؛ إذ لا يجوز في بداهة العقل أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى المطيع ".
وجاء في المسايرة لابن الهمام: " القول في تجويز تعذيب المحسن عقلًا عدمه، فوقوع ذلك منه تعالى مقطوع بعدمه وفاقًا بالشرع ".
الأشعرية:
أما الأشعرية فيذهبون إلى جواز تعذيب اللَّه تعالى للعبد الطائع وإدخاله النار عقلاً، وإدخال الكافر الجنة، كما أن لله تعالى إيلام البهائم والأطفال والمجانين؛ لأنه عدل في حكمه متصرف في ملكه.

صفحة رقم 172

يقول أبو عذبة: إنه لو وقع منه -سبحانه وتعالى- تعذيب العبد الطائع لم يكن ذلك منه ظلمًا ولا عدوانًا؛ لأنه متصرف في ملكه بالتعذيب وتركه، فله ما يختار منهما، لكنه سبحانه وتعالى جاد في حق العباد بالإحسان إليهم بترك العقاب.
وبذلك يظهر أن تعذيب الطائع لا يقع من اللَّه سبحانه وتعالى شرعًا عند كل من الماتريدية والأشاعرة، لكن الأشاعرة يجيزون وقوع ذلك عقلًا؛ لأن اللَّه تعالى متصرف في ملكه.
المسألة الثالثة: التكوين
لقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في مسألة التكوين، فقد أثبتها الماتريدية، ونفاها الأشاعرة، كما سيظهر فيما يلي:
الماتريدية:
يقول السادة الماتريدية بأن التكوين صفة حقيقية زائدة غير القدرة والإرادة؛ إذ هو صفة أزلية، وغير المكون الحادث، وقدم التكوين لا يستلزم قدم المكوَّن، وأما كون التكوين غير المكوَّن؛ لأنه لو كان التكوين عين المكوَّن لم يكن من اللَّه تعالى شيء يوجب كونه خالقًا للعالم سوى أن ذات الباري أقدم من العالم، وكون ذاته أقدم من غيره لا يوجب كونه خالقًا. والقول بأن التكوين عين المكوَّن يؤدي إلى قدم العالم، وكونه بنفسه لا بغيره، وما لا يحتاج في حصوله إلى غيره كان قديمًا، فدل ذلك على أن التكوين غير المكوَّن.
يقول الماتريدي: " إن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته، فيقال: اللَّه خالق ورحمن ورحيم وقد سمى به ذاته ".
الأشاعرة:
أما الأشاعرة فيقولون بأن التكوين ليس صفة حقيقية له، لكنه أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر، وإضافته إليه، فهو من صفات الأفعال، وهي عند الأشعرية حادثة، لا من الصفات الذاتية، والتكوين عين المكوَّن، والتخليق هو القدرة

صفحة رقم 173

باعتبار تعلقها بالمخلوق، كما أن الترزيق هو القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق.
والمتأمل للمسألة يرى أن الخلاف بين الفريقين راجع إلى المعنى لا إلى اللفظ، فعند الماتريدية مبدأ الإيجاد عندهم هو صفة التكوين، وعند الأشاعرة التكوين لا يعد صفة حقيقية لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر.
المسألة الرابعة: كلام اللَّه تعالى
إن هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام بصفة عامة، ولقد اشتدت أهميتها بعد الجدل الذي دار حول مسألة قدم القرآن وحدوثه، والمحن التي تعرض لها علماء كثيرون بسبب ذلك، وقبل عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة نبين أن ثمة قياسين يعارض كل منهما الآخر:
فالأول: هو أن كلام اللَّه -تعالى- صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، وبذلك يكون كلامه تعالى قديما.
وأما الثاني: فهو أن كلام اللَّه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما من شأنه ذلك فهو حادث، ويكون بذلك كلام اللَّه تعالى حادثا.
ولقد اختلف المسلمون وافترقوا بين من قال بصحة القياس الأول، وبين من قال بصحة القياس الثاني، حيث نجد أن أهل السنة والحنابلة يقولون بصحة القياس الأول، بينما يقول المعتزلة ومعهم الكرامية بصحة القياس الثاني.
أما فيما يخص السادة الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة فعلى النحو التالي:
الماتريدية
لقد ذهب الماتريدية إلى أن الكلام صفة لله تعالى؛ لأنه -سبحانه وتعالى- متكلم بكلام واحد، وهو صفته الأزلية القائمة بذاته، وهي صفة منافية للسكوت والآفة، واللَّه سبحانه وتعالى بهذه الصفة آمر، ناه، مخبر.
ويرى السادة الماتريدية كذلك أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تكون على الموافقة والمجاز، كما يقول المرء: سمعت كلام فلان وقول فلان، ويكون ذلك على

صفحة رقم 174

المجاز وليس على الحقيقة، وذلك لأنه لم يسمع قول فلان حقيقة؛ ولم يسمع كلامه وإنما سمع صوتًا يفهمه به.
وبناء على ذلك فإن الماتريدية يقولون بأن موسى -عليه السلام- لم يسمع كلام اللَّه، وإنما سمع صوتًا دالاًّ عليه، ولقد خلق اللَّه تعالى هذا الصوت، وليس ذلك لأحد من خلقه.
فالماتريدي يرى أن كلام اللَّه القديم لا يسمع، وأن ما نسمعه من الحروف والأصوات ليست هي كلام اللَّه بذاتها! وذلك لأنها عرض، والعرض لا يبقى زمانين.
الأشاعرة:
يقول الأشاعرة بأن الكلام إنما يراد به الصفة القديمة.
يقول البيجوري في شرح الجوهرة عن الكلام: " إنه صفة أزلية قائمة بذاته، ليست بصوت ولا حرف منزهة عن التقديم والتأخير، ومنافية للسكوت والآفة ".
ويقول أبو الحسن الأشعري: " إن كلامه واحد، هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام ".
ويجب أن يعرف أن الإمام أبا الحسن الأشعري لا ينكر الكلام اللفظي، وإنما يثبت الكلام النفسي واللفظي، ويتضح ذلك من قوله: " وأجمعوا على إثبات حياة لله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل بها حيًّا، وعلمًا لم يزل به عالمًا، وقدرة لم يزل بها قادرًا، وكلامًا لم يزل به متكلمًا، وإرادة لم يزل بها مريدًا، وسمعًا وبصرًا لم يزل بهما سميعًا بصيرًا ".
ويتضح من عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة أن الماتريدية يتفقون مع الأشاعرة في إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن الماتريدية يرون أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تسمع على سبيل الموافقة والمجاز.
ويظهر الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة فيما سمعه موسى - عليه السلام - أن الماتريدية يذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - لم يسمع كلام اللَّه القديم وإنما سمع أصواتًا دلت عليه، وخص موسى بذلك؛ لأنه بغير واسطة الكتاب والملك.

صفحة رقم 175

أما الأشاعرة فيذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - سمع كلام اللَّه القديم بلا حرف ولا صوت.
المسألة الخامسة: معرفة اللَّه تعالى
لقد اتفق علماء الكلام على أن النظر هو طريق المعرفة، لكن الاختلاف بينهم في طريق ثبوت هذه المعرفة، وهل هو واجب بالشرع أم بالعقل.
فالماتريدية:
يذهبون إلى أن معرفة اللَّه -تعالى- واجبة بالشرع، لكنهم يرون أن العقل آلة لوجوب المعرفة، واللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- هو الموجب.
ويرى الماتريدية -أيضًا- أن العقل ليس مُوجِبًا بذاته ولكنه سبب لوجوب.
يقول الماتريدي: " يجب على الصبي العاقل معرفة اللَّه تعالى، فالحق -سبحانه وتعالى- قد فطر الناس على فطرة يعرفون وحدانيته وربوبيته بعقول مركبة فيهم ".
وبذلك يذهب الماتريدي إلى أن العقل هو أساس المعرفة ويعاونه السمع في ذلك، وقد يسر اللَّه سبحانه السبيل إلى الوصول إلى الدِّين، ومعرفة اللَّه تعالى إنما هي عن طريق العقل والسمع، والعقل هو المختص بمعرفة اللَّه تعالى، والسمع مختص بمعرفة الشرائع والعبادات.
ويقول أبو منصور الماتريدي في موضع آخر:
" إن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل، أما معرفة اللَّه -تعالى- فإن سبيل لزومها العقل، فلا يكون لهم في ذلك على اللَّه حجة؛ لأن الله خلق في كل واحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على وجود اللَّه ووحدانيته وربوبيته، واللَّه قد بعث الرسل ليقطع عليهم الاحتجاج ".
ولا عذر عند الماتريدية في معرفة اللَّه تعالى عند من له عقل؛ لأن من يملك العقل يستطيع معرفة اللَّه عن طريق التفكر في خلق الكون وما فيه.
أما الأشاعرة:
فيرون أن معرفة اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- واجبة على الإنسان المكلف، والشرع هو طريق وجوب هذه المعرفة، وهو كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه الكريم.

صفحة رقم 176

ويذهبون إلى أن الواجبات ثابتة بالسمع، فالحسن عندهم هو ما حسنه الشرع، والقبيح عندهم هو ما قبحه الشرع، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب.
يقول الإمام الغزالي: " إنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة اللَّه تعالى وشكر نعمته خلافًا للمعتزلة ".
المسألة السادسة: عصمة الأنبياء
العصمة في اللغة والاصطلاح:
العصمة في اللغة:
العصمة: المنع، يقال: عصمه الطعام من الجوع، أي: منعه.
وهي -كذلك-: الحفظ، يقول اللَّه تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يحفظك.
العصمة في الاصطلاح:
هي: عدم خلق اللَّه تعالى ذنبًا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا تكون أمرًا إعداميًّا.
وهذا بصفة عامة، وقد اختلف تعريف الماتريدية للعصمة عن تعريف الأشاعرة لها وذلك على ما يلي:
الماتريدية
يعرف السادة الماتريدية العصمة بأنها عدم القدرة على المعصية، أو خلق مانع فيها.
الأشعرية:
ويعرفها الأشعرية بأنها: " ألا يخلق اللَّه فيهم ذنبًا "، وذلك بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار.
أما عن رأي كل من السادة الماتريدية والأشعرية في مسألة العصمة، فذلك على ما يلي:
الماتريدية:
يقول السادة الماتريدية بعصمة الأنبياء من الكبائر والقبائح وخصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبيلغ الأحكام وإرشاد الأمة.

صفحة رقم 177

ويذهب الماتريدية إلى أن الأنبياء معصومون من الصغائر، وأوجبوا تأويل كل ما أوهم في حقهم عليهم السلام من الكتاب والسنة مما اغتر به بعض من أجاز عليهم الصغائر، فالأنبياء منزهون عن الصغائر والكبائر ومن جميع المعاصي.
يقول شارح الفقه الأكبر:
" إن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب، خصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدًا وإما سهوًا: عمدًا فبالإجماع، وسهوًا عند الأكثرين، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي، وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، وأما سهوًا فجوزه الأكثرون ".
الأشاعرة:
يتفق الأشاعرة مع الماتريدية -وغيرهم من سائر الفرق- على أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقًا، قبل البعثة وبعدها.
وفيما يخص الصغائر، فهي عندهم نوعان:
أحدهما: صغائر قبل النبوة.
ثانيهما: صغائر بعد النبوة.
ويذهب الأشاعرة إلى أن الأنبياء تصدر عنهم هذه الصغائر قبل النبوة إذا لم تكن خسيسة وليس هناك دليل على منع ذلك، سواء أكان ذلك عمدًا أم سهوًا، أما بعد النبوة فإن الأنبياء معصومون عن تعمد كل ما يخل بصدقهم حتى إذا كان من الصغائر.
يقول الآمدي في الأحكام: " وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن اللَّه تعالى ".
وبهذا يتضح أن محل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة أن الماتريدية يرون وجوب العصمة أيضًا من الصغائر، لكن بعض الأشاعرة يجيز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل البعثة وبعدها كذلك سهوًا.

صفحة رقم 178

الباب الرابع
حول تفسير القرآن الكريم
ويشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره.
الفصل الثاني: مدارس التفسير.
الفصل الثالث: المناهج التفسيرية بين القديم والحديث.

صفحة رقم 179

الفصل الأول
نشأة التفسير وتطوره
تمهيد:
يجدر بنا قبل الخوض في بيان نشأة التفسير وتطوره بيان معناه، والفرق بينه وبين اصطلاحات قريبة المعنى منه؛ ذلك أن فكرة التفسير والتأويل وما في معناهما كلفظ " المعنى " شغلت كثيرًا من العلماء القدامى والمحدثين على السواء، فمثلاً يقول ابن فارس: " معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى والتفسير والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد متقاربة ".
ونقل صاحب اللسان عن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى أن " المعنى والتفسير والتأويل واحد ".
وسنتناول هذه الاصطلاحات الثلاثة في عجالة في الصفحات الآتية:
أولا: التفسير:
التفسير لغة:
مصدر فَسَّرَ -بتشديد السين- مأخوذ من الفسر، والمحور الذي تدور عليه هذه المادة هو الكشف مطلقا، سواء أكان هذا الكشف لغموض لفظ أم لغير ذلك؟ يقال: فَسَّرتُ اللفظ فَسْرًا من باب ضرب ونصر.
ويستعمل التفسير لغة في الكشف الحسي، وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.
ومن المعنى اللغوي يمكن القول: إن التفسير بوصفه علمًا يقصد منه كشف المغلق من المراد باللفظ، فالمفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه.

صفحة رقم 181

وقد استعمل القرآن الكريم المادة بهذا المعنى من الكشف والإبانة في قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣)، قال ابن عَبَّاسٍ: يعني بيانًا وتفصيلاً.
التفسير اصطلاحا:
قدم كثير من العلماء تعريفات عدة للتفسير، وعلى ما بينها من أوجه اختلاف فإنها تنص على أن التفسير: علم يبحث عن مراد اللَّه، سواء جاء ذلك تلميحًا أو تصريحًا.
وهذا التعريف شامل لكل ما يتوقف عليه المعنى وفهمه وبيان المراد منه.
ثانيًا: التأويل
التأويل لغة:
يدور حول معنيين لا ثالث لهما:
الأول: بمعنى الرجوع والعود والعاقبة.
والثاني: بمعنى تفسير الكلام وتبيين معناه.
وقد أشارت كتب اللغة إلى المعنيين، ففي اللسان أن التأويل من " الأول: الرجوع، آل الشيء يئول أولا ومآلا: رجع... وفي الحديث " من صام الدهر فلا صام ولا آل "، أي: لا رجع إلى خير، وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره ".

صفحة رقم 182

وقد كثر استعمال لفظ " التأويل " في القرآن الكريم بمعنييه، فمن الأول قول اللَّه تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما يئول إليه في وقت بعثهم ونشورهم.
ومن الثاني قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، فالتأويل هنا يعني التفسير والتعيين والتوضيح.
التأويل اصطلاحًا:
التأويل عند السلف في تعريفه غيره عند الخلف؛ فالتأويل عند السلف يأتي على معنيين:
الأول: تفسير الكلام وبيان معناه، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين.
والثاني: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشيء المخبر به.
وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام: كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل فيه القلب واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلية، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها؛ ولهذا يمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن الكريم من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني.
أما الخلف من المتفقهة والمتكلمين والمتصوفين وغيرهم فقد رأوا أن التأويل يعني: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
والمتأول عندهم يحتاج إلى أمرين:
الأول: أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد.
الثاني: أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، وإلا كان تأويلاً فاسدًا وتلاعبًا بالنصوص.
ومن ثم قال الزركشي: " التأويل: التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على

صفحة رقم 183

الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط؛ تجويزًا له وازديادًا ".
وأوضح من هذا ما قاله صاحب جمع الجوامع وشرحه: " التأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً في الواقع ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ".
ثالثا: المعنى:
المعنى لغة واصطلاحًا:
يراد بالمعنى لغة: القصد والمراد، جاء في اللسان: " عنيت بالقول كذا: أردت، ومعنى كل كلام ومعناته ومعنيته: مقصده، ويقال: عرفت ذلك في معنى كلامه ومعناة كلامه وفي معنى كلامه ".
وله علاقة بالإظهار والوضوح، كما تقول: عنت القربة: إذا لم تحفظ ماءها بل أظهرته، ومنه عنوان الكتاب، أي: الجزء الظاهر منه والمنبئ عما بداخله.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك لفظًا رابعًا له اتصال ما بألفاظ التفسير والتأويل والمعنى، وهو لفظ البيان، ويعني: إظهار المتكلم المراد للسامع، وهو أعم من الألفاظ الثلاثة جميعًا؛ لشموله كلاًّ من بيان التغيير وبيان التقرير، وبيان الضرورة، وبيان التبديل.
الفرق بين التفسير والتأويل:
يمكن القول: إن حاصل ما تضمنته عبارات العلماء العديدة في هذا المقام لا يخرج عن اتجاهين:
الاتجاه الأول: أن التفسير والتأويل ترجمة عن معنى واحد، بحيث إذا قلنا أحدهما على شيء قلنا الآخر عليه بلا أدنى فرق، وإلى هذا ذهب أبو عبيد والطبري وطائفة.
والاتجاه الثاني: أن التفسير والتأويل يختلف مدلول أحدهما عن الآخر اصطلاحًا كما اختلفا لغة، وقد حمل لواء هذا الاتجاه النيسابوري والزركشي والراغب الأصفهاني وغيرهم... وقد تشددوا في التفريق بين اللفظين أيما تشدد، حتى قال النيسابوري

صفحة رقم 184

مُعَرِّضًا: " قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه ".
وقد فرق العلماء بين اللفظين بفروق شتى، نورد أبرزها -خشية الإطالة- فمثلاً الراغب الأصفهاني يقول: " التفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني ".
وأبو طالب الثعلبي يفرق فيقول: " التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازًا، كتفسير " الصراط " بالطريق، و " الصيب " بالمطر. والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد ".
والماتريدي صاحبنا يقول: " التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على اللَّه أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، والشهادة على اللَّه ".
والأقوال كثيرة في التفريق بين التفسير والتأويل، بعضها يصل بمفهوم المصطلحين إلى حد التباين، ولعل أولاها بالقبول ما ذكره جملة من العلماء من أن التفسير يرجع إلى الرواية، والتأويل يرجع إلى الدراية والاستنباط؛ لأن التفسير كشف وبيان عن مراد اللَّه، والكشف عن مراد اللَّه لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. أما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، وهذا الترجيح يعتمد على الاجتهاد.
ومن ثم قال الزركشي -فيما أشرنا إليه من قبل-: " وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على الاعتماد

صفحة رقم 185

في المنقول، وعلى النظر في المستنيط ".
وخلاصة القول: أنه برغم الاختلاف بين المصطلحين، فإنهما يشتركان في معنى واحد، وهو محاولة الكشف عن حقيقة شيء، وأنه حين يستخدم كل منهما في شرح ألفاظ القرآن وبيان معانيه فإنه يجمعهما هذا المعنى العام.
نشأة التفسير وتطوره
من البدهيات أن كل شيء في الوجود لا يكتمل إلا إذا مر بمراحل معينة وأطوار متتالية، وتلك سنة من سنن اللَّه في الأشياء جميعًا، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
ويصدق على العلوم ما يصدق على الأشياء، فلم يعرف أن هناك علمًا من العلوم وجد كاملاً هكذا فجأة، وإنما كل علم مر بمراحل وتطورات حتى صار علمًا له أصوله وأركانه التي يقوم عليها.
ومن العلوم علم التفسير، هذا العلم الذي شهد تطورات منذ نزول الآيات الأولى من كتاب اللَّه الكريم وحتى يوم الناس هذا، فبدأ بمرحلة المهد ثم الطفولة، وتطورت به المراحل حتى استوى على سوقه، وصارت له أصوله وأركانه.
وجدير بمن يتناول علم التفسير أن يقف عند هذه المراحل والتطورات؛ لأنها تطورات متلاحقة ومتعانقة في آن واحد، فلا يمكن فصل مرحلة عن مرحلة، أو اعتماد مرحلة دون أخرى، وإلا فقد هذا العلم ركنًا من أركانه، وأصلاً من أصوله، ولوقع المفسر في أخطاء جسيمة، وأدخل في تفسيره للآيات غير مراد اللَّه ومقصوده، ومن ثم فعلى المفسر أن يراعي كل المراحل، ولا يعتمد مرحلة دون مرحلة، ويراعي في المقام الأول مرحلة التفسير في عهد النبوة؛ لأنها الأساس الذي يُبْنَى عليه ما بعده، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو أعلم الناس بالقرآن.
هذا: وقد أشرنا إلى نشأة علم التفسير في عجالة سريعة عند حديثنا عن الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي في الفصل السادس من الباب الأول من هذه المقدمة، إلا أنه لأهمية الوقوف على نشأة التفسير وتطوره، خصصنا الصفحات الآتية لدراسة أبرز مراحل هذه النشأة وذلك التطور:

صفحة رقم 186

المرحلة الأولى: التفسير في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وعلى أساليب بلاغة العرب وبيانهم، فكانوا يفهمونه، ويدركون أغراضه ومراميه، وإن تفاوتوا في الفهم، والإدراك؛ تبعًا لاختلاف درجاتهم العلمية، ومواهبهم العقلية، فقد قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ".
ومعنى هذا أن هناك آيات تشكل معانيها على الصحابة، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يسألون الرسول ليوضح لهم موضع الإشكال، فمن هنا بذرت البذور الأولى لعلم التفسير.
والحق أن التفسير في هذه المرحلة يتميز بسمات لم تتوافر لأي مرحلة تالية، ومن أبرز هذه السمات:
أن لجميع الأقوال التفسيرية التي شهدتها هذه المرحلة قوة النص المفسَّر، أو هي الوجه الآخر له، إذا صح هذا التعبير.
إن تفسير القرآن في هذا المرحلة كان من عند اللَّه تبارك وتعالى، فهو سبحانه أول مبين ومفسر لكتابه؛ لأنه الأعلم به وبمراد نفسه من غيره، ولأن أصدق الحديث كتاب الله تعالى؛ ولذلك يقول اللَّه تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾، ويقول جل وعلا: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩).
وتفسير القرآن في هذه المرحلة -أيضًا- كان موكولاً إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان طبيعيًّا أن يفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن جملة وتفصيلاً، فهم ظاهره وباطنه، ومجمله ومفصله، ومقيده ومطلقه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وغريبه ومشكله، وسائر ما يتعلق بالأحكام والاعتقاد والتكاليف... إلخ.
وقد أعطى القرآن الكريم للرسول الحق في عملية التفسير، فقد قال اللَّه جل وعلا:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾
، وقال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١).

صفحة رقم 187

وقد بدأ التفسير في هذه المرحلة حينما كان الصحابة يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن فهم القرآن الكريم كاملاً ليس ميسورًا لهم، " بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يشكل عليهم فهمه؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها ".
والأمثلة كثيرة وثابتة تدل على أن الصحابة كانوا يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما يشكل عليهم من معان قرآنية، فمن ذلك ما أخرجه الترمذي عن عليٍّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن " يوم الحج " فقال: " يوم النحر ".
وقد فسر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحساب اليسير بالعرض حيث قال: " من نوقش الحساب عذب " فقالت له السيدة عائشة - رضي اللَّه عنها -: أو ليس قد قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩)، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذلك العرض " بيانا للحساب

صفحة رقم 188

اليسير.
وكذلك فسر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القوة بالرمي في قوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾.
وأحيانًا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر بنفسه المعنى دون أن يوجه إليه سؤال من أحد الصحابة، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن أبي بن كعب أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾، يقول: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".
وهناك لون من التفسير وجد في العهد النبوي، وهو ما يمكن تسميته: التفسير بالوقائع، وفيه تفسير الآية قبل نزولها؛ حيث تقع واقعة، ويسأل الصحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وينزل الوحي بحكم هذه الواقعة المسئول عنها، فيفهم الصحابة عن الله مراده في الآيات.

صفحة رقم 189

والآيات التي نزلت مرتبطة بوقائع كثيرة في القرآن الكريم، وقلما تجد سورة تخلو من آيات مرتبطة بوقائع، فمن ذلك ما جاء في سورة البقرة: ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، أخرج الواحدي والثعلبي من طريق مُحَمَّد بن مروان والسدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عَبَّاسٍ، قال: نزلت هذه الآية في عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال عبد اللَّه بن أُبي: انظروا كيف أرد عنكم هَؤُلَاءِ السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبًا بالصديق سيد بني تميم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق القوي في دين اللَّه، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عليٍّ، فقال: مرحبًا بابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول اللَّه، ثم افترقوا فقال عبد اللَّه لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرًا، فرجع المسلمون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية.
وفي قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، أخرج الأئمة الستة عن عبد اللَّه بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك ".
فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه، أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: " اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك "، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمرٍ لهما فيه سعة، قال الزبير. فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك.

صفحة رقم 190

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عَبَّاسٍ قال: جاء العاصي بن وائل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعظم حائل ففته، فقال: يا مُحَمَّد أيبعث هذا بعدما أرم؟ قال: " نعم، يبعث اللَّه هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم "، فنزلت الآيات ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾، إلى آخر السورة.
والأمثلة في هذا الشان كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في كتب أسباب النزول، وكتب السنة الصحيحة كذلك يراجعها من أراد.
إذن نستطيع القول: إن هناك طريقين، أو بالأحرى مصدرين للتفسير في المرحلة النبوية، هذان الطريقان هما:
الأول: القرآن الكريم؛ حيث يجد الناظر في كتاب اللَّه تعالى أن هناك آيات تفسر بها آيات أخرى، فالقرآن الكريم " قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص، وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر، وما جاء مطلقًا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عامًّا في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى؛ لهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب اللَّه تعالى أن ينظر في القرآن أولاً: فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض "، وقد فعل ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد فسر القرآن الكريم بالقرآن الكريم حيث سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾. فقال الصحابة لما نزلت: وأينا لا يلبس إيمانه بظلم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ألم تقرءوا قول الله

صفحة رقم 191

تعالى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ".
ففسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الظلم في الآية الأولى بالشرك في الآية الثانية.
ومن تفسير القرآن بالقرآن ما جاء بحمل المجمل على المفصل، مثال ما جاء في تفسير قول اللَّه تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)، فقد جاء تفسير قوله سبحانه: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) في آية كريمة أخرى هي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣).
ومن تفسير القرآن بالقرآن -أيضا- ما جاء بحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص: فمن الأول: ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثل له بآية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)... ومطلقة في التيمم في قوله تعالى في الآية نفسها: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، فقيدت في التيمم بالمرافق أيضا.
ومن النوع الثاني: نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فخصص العموم في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، فقد استثنى ما أذن فيه من الشفاعة، وفي قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فقد استثنى اللَّه المتقين من نفي الخلة.

صفحة رقم 192

ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل المبهم على المبين، كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فقد فسر قوله: (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) بقوله: (الْفَجْرِ).
ومنه - أيضًا - قول اللَّه تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)، فقد بُيِّنت كلمة الطارق بما تلاها من قول اللَّه تعالى: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ).
" ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح ".
وتجدر الإشارة إلى أن تفسير القرآن بالقرآن كان النواة الأولى لعلم التفسير، وهو ما قاله المستشرق جولد تسيهر، ووافقه الذهبي حين قال: " نعم نستطيع أن نوافقه - يقصد جولد تسيهر " أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه، على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده... كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة ".
الطريق الثاني في تفسير القرآن الكريم في المرحلة النبوية: تفسيره بالسنة الشريفة، وذلك حين لا نجد في القرآن ما نفسره به، " فالسبيل المثالية التي لا ينبغي لعاقل أن يعدل عنها، أن يطلب التفسير ثاني ما يطلبه -أي بعد القرآن مباشرة- من السنة، وعلى هذا أطبق أهل السنة والجماعة؛ انطلاقًا منهم -رحمهم اللَّه- من مسلمات أربع:
أولاها: أن خير من يمكن أن يفسر القرآن، ومن ينبغي أن يطلب منه تفسيره بعد الله تعالى في محكم كتابه هو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي حدثنا ربه فيما حدث من وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤).
فهو إذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمقتضى كونه رسولاً أولاً، ثم بمقتضى شهادة هذا النص وأشباهه ثانيًا - لا يمكن أن يقر على خطأ أبدًا، دع عنك أن يكون الخطأ في مثل هذا الأمر الجلل، أعني تفسير القرآن الكريم الذي هو أعظم معجزاته، وأكبر آيات فضله وسمو منزلته، فإن جاز عليه الخطأ بمقتضى بشريته في يسير الأمر، فليس يجوز عليه في أهم المهمات بالنسبة له

صفحة رقم 193

ولشريعته وأمته أصلاً، بل إن جاز عليه الخطأ ولو في يسير من الأمر بمقتضى تلك البشرية، فليس يجوز في عقل عاقل أن يقر عليه، بمقتضى ما له من الرسالة، بل لا محالة يهديه ربه إلى صواب القول والعمل.
الثانية: أن خير من يمكن أن يفسر الشيء من تكون أهم وظائفه تبيان ذلك الشيء، فعند ذلك نقول: قد صرح اللَّه في محكم ذكره بأن أولى غايتي إنزاله، وبالتالي أهم وظيفة لنبيه هي تبيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك الذكر للناس، على ما قال جل من قائل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
الثالثة: أن من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني لهذا الدِّين، والمصدر التالي للقرآن مباشرة في جميع كليات هذا الدِّين وجزئياته، فالمجاوز للسنة إذن مع وجدان طلبته فيها راكب لعظيم، مخالف لمقتضى ضروريات هذا الدِّين.
الرابعة: أن طلب البيان من السنة ما تيسر فيها هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل ما نأتي ونذر؛ من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
وقد رسخت هذه المسلمات وتقررت في أذهان أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكانوا يسألونه -كما سبقت الإشارة- عن جميع ما يشكل عليهم من القرآن الكريم وغيره، وقد ذكرنا فيما مضى بعض الأمثلة التي تبين ذلك، ونزيد الأمر وضوحًا بعرض مجموعة القضايا الآتية:
القضية الأولى: كيف بينت السنة القرآن؟
جاء بيان السنة للقرآن على وجوه متعددة، أبرزها ما يأتي:
الوجه الأول: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مجملات القرآن، كما في بعض الفروض التي جاءت في القرآن مجملة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج، فقد قام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتفصيل أمرها بأقواله أو أفعاله، أو كليهما، تفصيلاً ما كنا نستطيع بدونه أن نفهم المقصود منها، فقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعات كل صلاة وكيفيتها، وبين مقادير الزكاة،

صفحة رقم 194

وأوقاتها، وأنواعها، وبين مناسك الحج وأركانه وسننه؛ ولذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وكان عليه الصلاة والسلام يقول -أيضًا-: " خذوا عني مناسككم ".
وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب اللَّه أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا في كتاب اللَّه تعالى مفسرًا؛ إن كتاب اللَّه تعالى أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا ".
الوجه الثاني: تخصيص العام في القرآن، ومن أمثلته تخصيص آية الزانية والزاني بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفعله بغير المحصن.
وتخصيص الظلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، بالشرك.
الوجه الثالث: تقييده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطلقات القرآن، ومن ذلك تقييده اليد في قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) باليمين.

صفحة رقم 195

الوجه الرابع: إيضاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مبهمات القرآن: كتفسيره للعبد الصالح صاحب موسى عليه السلام بالخضر.
الوجه الخامس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لفظًا أو متعلقه: كبيان المغضوب عليهم في قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
الوجه السادس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحكامًا زائدة على ما جاء في القرآن الكريم، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها وصدقة الفطر، ورجم الزاني المحصن، وميراث

صفحة رقم 196

الجدة، والحكم بشاهد ويمين... وغير ذلك.

صفحة رقم 198

الوجه السابع: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - النسخ، كأن يبين لنا - عليه الصلاة والسلام - أن آية كذا نسخت كذا، أو أن حكم كذا نسخ بكذا... وهكذا، ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية

صفحة رقم 199

لوارث " يبين أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها.
الوجه الثامن: دفعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض إشكالات وردت على القرآن: كدفعه ما استشكل به نصارى نجران على أخوة مريم لهارون، يعنون أخا موسى - عليه السلام - مع أن بينها - عليها السلام - وبينه كذا وكذا، فقد دفع ذلك - عليه الصلاة والسلام - بأن ليس المقصود في الآية (يا أخُتَ هَارُونَ)، هارون النبي، بل هو آخر في عهدها سمي باسمه.
الوجه التاسع: بيان التأكيد منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنه يؤكد الحكم الذي جاء به القرآن ويقويه، وذلك كقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله سبحانه: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).

صفحة رقم 200

والغرض من هذا البيان التأكيدي هو ترسيخ مفهوم النص القرآني وحكمه في قلب السامع.
ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاري عن عائشة قالت: " تلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧). قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأُولَئِكَ الذين سمى اللَّه فاحذروهم ".

صفحة رقم 201

الوجه العاشر: ويعتبر من أروع الوجوه وأعظمها، وهو تطبيق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للقرآن، تطبيقًا عمليًّا في حياته، مما يعد تفسيرًا عمليًّا وتطبيقيَّا جليًّا غاية الجلاء، مما جعل حاجة الصحابة إلى التفسير القولي غير كبيرة، فقد عايشوا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن، وتسابقوا إلى الاقتداء به في العمل بآياته المنزلة.
روي عن السيدة عائشة أنها قالت حين سئلت عن خُلُق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كان خلقه القرآن ".
ولست أبغي من وراء عرض كيفية بيان السنة للقرآن وتفسيره والأوجه المعتبرة في ذلك إلا تقرير الدور العظيم الذي اضطلع به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن الكريم في تلك المرحلة المتقدمة مرحلة نزول هذا الكتاب الكريم، مما يعد أساسًا من الأسس التي بني عليها المفسرون فيما بعد عصر النبوة تفسيراتهم للقرآن والتي أسهمت بشكل كبير في استواء التفسير -بوصفه علمًا- على سوقه.
القضية الثانية: هل فسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله؟ وما المقدار الذي بينه عليه الصلاة والسلام من القرآن لأصحابه؟
وهذه القضية خلافية بين العلماء عرضها الدكتور الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون "، وذكر أن هناك فريقين يتنازعان القضية:
الفريق الأول: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه كل معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، وعلى رأس هَؤُلَاءِ ابن تيمية.

صفحة رقم 202

الفريق الثاني: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هَؤُلَاءِ السيوطي.
ثم شرع الدكتور الذهبي في عرض أدلة كل فريق:
فأدلة الفريق الأول من الكتاب والسنة والمعقول:
فمن الكتاب: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بَيّنَ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألفاظه كلها، فلا بد أن يكون بَيَّنَ كل معانيه -أيضًا- وإلا كان مقصرًا في البيان الذي كلف به من اللَّه.
ومن السنة ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن.. كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا ".
فهذا الأثر يدل على أن الصحابة تعلموا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن كلها، كما تعلموا ألفاظه.
ومن المعقول قالوا: إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في علم من العلوم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب اللَّه الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم

صفحة رقم 203

في الدنيا والآخرة؟
ومما يدل على هذا الدليل العقلي ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: " من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبض قبل أن يفسرها ".
وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه.
وأما أدلة الفريق الثاني: فقد استدلوا -أيضًا- من السنة والمعقول:
فمن السنة: ما أخرجه البزار عن عائشة قالت: " ما كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر شيئًا من القرآن إلا آيات بعدد، علمه إياهن جبريل ".
ومن المعقول قالوا: إن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتنصيص على المراد في جميع آياته؛ لأجل أن يتفكر عباده في كتابه.
وقالوا -أيضًا-؛ لو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن، لما كان لتخصيصه ابن عَبَّاسٍ بالدعاء له بقوله: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل " فائدة؛ لأنه يلزم من بيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه كل معاني القرآن، استواؤهم في معرفة تأويله، فكيف يخصص ابن عَبَّاسٍ بهذا الدعاء؟.

صفحة رقم 204

ومن خلال عرض رأي الفريقين يتضح الآتي:
أولا: مغالاة الفريقين فيما ذهبا إليه، وأن المقبول هو أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قام بدور عظيم في تفسير كتاب اللَّه، لكنه لم يفسره كله بطبيعة الحال؛ إذ لو قلنا بتفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله لما كان هناك داع لدعوة القرآن إلى تدبر آيات اللَّه فيه (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، ولما كان للتحذير الشديد والوعيد القاصم للذين لا يتدبرونه في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، من قيمة.
ثم إنه إذا كان الأمر كذلك فلا قيمة للتفسيرات التي وضعها العلماء من لدن الصحابة وحتى يوم الناس هذا، وهي تفسيرات فيها من الجديد المعجب ما لا يمكن إنكاره، أو الزعم بأنه غير صحيح.
هذا بالإضافة إلى أننا لو قلنا بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسر القرآن لفظه ومعناه لكذبناه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما قال عن القرآن من أنه: " لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد "، ولكان اختلاف الصحابة حول القرآن بعد رسول اللَّه اجتراء منهم على اللَّه وحيفًا عن هديه صلى اللَّه عليه وسلم، وحاشا أن يفعل الصحابة ذالك أو يقع منهم.
كما أننا لو قلنا: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر من معاني القرآن إلا القليل، لهضمنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حقه في شخصه ودعوته ورسالته؛ إذ إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أصول الدِّين وأحكامه وشرائعه وأركانه المبثوثة في القرآن الكريم بصورة إجمالية أو كلية، ففصل المجمل، وأبان عن جزئيات الكلي، فعرف الناس دينهم: أصوله وأركانه وشرائعه وجزئياته، فلو قلنا: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر إلا القليل، فمن الذي بين لنا الدِّين " الإسلام " الذي جاء به القرآن؟!
كذلك لو قلنا بهذا لكذبنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " ألا وإني أوتيت القرآن ومثله

صفحة رقم 205

معه "، ولأنكرنا سنته التي جاءت -كما سبق بيانه- لتبين مبهم القرآن، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتؤكد ما جاء فيه.
يتبين لنا أن التوسط والاعتدال بين المذهبين هو الخليق بالقبول، ولذلك أقول: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه، تشهد بذلك كتب الصحاح المليئة بتفسيرات الرسول لكثير من الآيات ببيان معانيها وأحكامها، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الوقت نفسه - لم يبين كل معاني القرآن؛ لأن من القرآن ما استأثر اللَّه تعالى بعلمه، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧).
وبدهي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته، ولم يفسر لهم ما استأثر اللَّه بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، وإنما فسر لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعض المغيبات التي أخفاها اللَّه عنهم، وأطلعه عنيها وأمره ببيانها لهم، وفسر لهم -أيضًا- كثيرًا مما يندرج تحت التفسير الذي تعرفه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم.
ثانيًا: أدلة الفريقين محجوجة ومفندة:
فأدلة الفريق الأول محجوجة بما يأتي:
استدلالهم بالآية (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) مردود عليه من وجهين:
الأول: أن القول بعموم الآية الشامل لجميع ألفاظ القرآن ومعانيه ليس صحيحًا؛ لقرينتين تفيدان التخصيص:
الأولى: قرينة مقالية تتمثل في قوله عز شأنه: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ

صفحة رقم 206

الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ).
فالآية صريحة في أن بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للكتاب مقصور على الذي اختلفوا فيه دون ما لم يختلفوا فيه.
والقرينة الثانية: قرينة حالية تتمثل في واقع القرآن الكريم وأمر من نزل بلسانهم العربي المبين، فإن واقع أمر القرآن وأمر من أنزل بلسانهم أن فيه كثيرًا من البينات، بل قل بدهية البيان نفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان فضلاً عن أهله الخلص، فلا يسيغ لذي منطق مع هذا أن يقوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان أمثال هذه الجليات.
الوجه الثاني: أننا إذا سلمنا ببقاء ما في القرآن الكريم على العموم الصالح؛ لأن يندرج تحته جميع اللفظ والمعنى، فإننا لابد أن ننظر إلى سياق القول الكريم الذي نزل فيه وحديثه عنه، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وصلة (مَا)، فيفيد قطعًا أن حديث هذا العموم هو عن المنزل فحسب، لا عما لم ينزل أيضًا.
وأقول: عرفنا أن جميع الألفاظ منزل، وأن بعض المعاني منزل عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعضها غير منزل بطبيعة الحال؛ لأن (مَا) لا تدل على العموم هنا.
وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى؛ لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو من غيره من إخوانهم، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح اللَّه به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه فمردود بأن العادة إنما جرت باستشراح -أي: طلب شرح- ما يشكل فهمه فحسب، فأما الواضح الذي لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد في غير طائل، وهذا ما لا يمكن أن يفعله صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
أما الأثر الوارد فلا يدل أيضًا لأن وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على

صفحة رقم 207

أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شأن غيرها من مشكلات القرآن.
وأما أدلة الفريق الثاني:
فاستدلالهم بحديث عائشة استدلال باطل؛ لأن الحديث منكر غريب؛ لأنه من رواية مُحَمَّد بن جعفر الزبيري، وهو مطعون فيه، قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: " منكر الحديث "، وقال فيه ابن جرير الطبري: " إنه ممن لا يعرف من أهل الآثار ".
وعلى فرض صحة الحديث، فهو محمول -كما قال أبو حيان- على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من اللَّه.
وأما استدلالهم بأن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، فإنه لا يدل على ندرة ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في التفسير؛ إذ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، بمقتضى أمر اللَّه له (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وأما استدلالهم بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ فمردود بأنه لو سلمنا أنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل معاني القرآن، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى.
وإذا علمنا ضعف استدلالات الفريقين، فإنه من الأحرى الرجوع إلى الصواب الذي استراحت إليه النفس من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل القرآن ولكنه في الوقت نفسه ضرب بنصيب وافر فيه مما لا تستغني عنه الأمة في فهم دينها، فقد أجاب على تساؤلات الصحابة فيما أشكل عليهم فهمه من آيات الكتاب الكريم.
وخلاصة القول أن المرحلة النبوية كان لها أثرها البارز في نشأة علم التفسير -بالرغم من أنها مرحلة النشأة- وذلك لأن كلا هذين القسمين -تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة- لا شك في أنهما أعلى أنواع التفسير، ولاشك في قبولهما، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره، وكتاب اللَّه تعالى أصدق الحديث؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

صفحة رقم 208

وأما الثاني فلأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت مهمته التوضيح والبيان (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم...)، الآية، فما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده ".
المرحلة الثانية: التفسير في عهد الصحابة رضوان اللَّه عليهم:
جاء عهد الصحابة، وما من شك في أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة، أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لابد لهم من البحث والنظر؛ وذلك لأن القرآن -كما سبقت الإشارة- فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها.
ولذلك فإن قليلاً من الصحابة من استشرف لمعرفة تفصيلات القرآن ودقائقه من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأقل منهم من رزق الفهم الصحيح بعد البحث والنظر، وليس هذا التفاوت بقادحٍ في أذهان الصحابة وصحة فهمهم للقرآن الكريم عامة؛ إذ إنه راجع إلى اللغة نفسها، وهي من أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يحيط بها غير النبي المعصوم، ولا بأس بغروب ألفاظها على بعض الصحابة ما دام ذلك لا يغرب على عامتهم.
وبطبيعة الحال لم يكن الصحابة في درجة وإحدة في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وليس بمقدور قوم أن يفهموا كل ما يكتب بلغتهم من العلوم على حد سواء، ومن هنا لم يكن الصحابة في درجة واحدة لفهم معاني القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، تبعًا لتفاوتهم في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها.

صفحة رقم 209

والمواقف الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرج أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: " كنت لا أدري ما فاطر السماوات؟ حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها ".
وروى عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قال: " ما كنت أدري ما قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول: أفاتحك، تعني أقاضيك ".
وأظهر ما يدل على تفاوت فهم الصحابة للنصوص ما روي أن الصحابة فرحوا عند نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)؛ حيث ظنوا أنها إخبار وبشرى بكمال الدِّين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا النقص؛ مستشعرًا نعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وروى البخاري عن ابن عَبَّاسٍ قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عَبَّاسٍ؟ فقلت: لا، فقال: وما تقول؟ قلت: هو أجل رسول اللَّه أعلمه اللَّه له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، فذلك علامة أجلك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول ".

صفحة رقم 210

كل هذه المواقف وغيرها تدل على تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن الكريم؛ ولذلك قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ".
هذا، وقد بدأ الصحابة شارعين في تفسير القرآن الكريم -على تخوف وتحرج- بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معتمدين في تفسيرهم على القرآن الكريم نفسه، أو على تفسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض الآيات وتشريعاته الأخرى، أو الاجتهاد والاستنباط، أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى أحيانًا، فالصحابة - رضوان اللَّه عليهم - مقتدين برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتمدوا القرآن في تفسير القرآن الكريم حتى قال الدكتور الذهبي: " هذا هو تفسير القرآن بالقرآن، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن، وليس هذا عملاً آليًّا لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما يعرفه أهل العلم والنظر خاصة ".
ثم إنهم لجئوا لتفسير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض آيات القرآن، فقد " تناقلوا فيما بينهم، تفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما فهموه من القرآن وأقرهم عليه، كما هو الشأن في تناقلهم للأحاديث والآثار التي رووها عنه، على ما وردت به وصايا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ".
غير أن الصحابة لم يتوقف جهدهم التفسيري عند حد النقل والرواية عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بل لجئوا مع ذلك إلى طريقين جديدين:
الأول: الاجتهاد والاستنباط:
كان الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - إذا لم يجدوا التفسير في كتاب اللَّه تعالى، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رجعوا إلى اجتهادهم، فأعملوا رأيهم، وكانت أدواتهم في الاجتهاد هي: معرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن وقوة الفهم، وسعة الإدراك، ومن ثم

صفحة رقم 211

يقول أحد الباحثين: " ولقد أعان بعض الصحابة على فهم القرآن عدة عوامل منها: معرفتهم بعادات العرب وتقاليدهم، ومعرفة طرائق اللغة العربية وأسرارها في التعبير، ثم معرفة أسباب النزول، وما أحاط بالآيات من ظروف وملابسات تعين على فهمها؛ ولهذا قالوا: معرفة سبب نزول الآية يعين على فهمها، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ثم ما يعطاه أحدهم من فهم وسعة إدراك يمكنه من الوصول إلى مراد الآيات ".
وقد روى البخاري ما يؤكد ذلك عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب اللَّه؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه اللَّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر ".
وفي هذا الأثر دليل على إعمال الصحابة رأيهم، واجتهادهم في تفسير القرآن الكريم، والكشف عن غوامضه، لكن ينبغي التأكيد على أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا متفاوتين في معرفتهم بالأدوات المشار إليها، وقد ترتب عليه تفاوتهم في فهم معاني القرآن.
الثاني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
بدأ الأخذ عن أهل الكتاب منذ عهد الصحابة مع شيء من التقييد والتحديد، ولعل

صفحة رقم 212

الذي دفع الصحابة إلى هذا الأخذ، هو ما جاء في القرآن الكريم من قصص مبثوثة في ثناياه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبعض هذه القصص جاء مجملاً، فكانت " نفوس الصحابة تتوق إلى معرفة تفاصيل بعض القصص في القرآن والذي لم يسأل النبي فيه، فكانوا لا يتحرجون في سؤال أهل الكتاب، من جيرانهم فيما يتعلق بهذه التفاصيل التي لا تتعلق بحكم أو تشريع، وإنَّمَا هي تشبع حالة الفضول الإنساني إلى المزيد من المعرفة "؛ مستندين في ذلك إلى حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي يقول فيه: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ".
ولقد حدد ابن كثير المراد من هذا الحديث، فقال: " هو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار، فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه؛ استغناء بما عندنا، وما شهد له شرعنا

صفحة رقم 213

بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال ".
وهذا الذي قاله ابن كثير اتبعه الصحابة، فدققوا في الأخذ عن أهل الكتاب، وكان أخذهم في أضيق الحدود، وما أشيع عنهم من توسعهم في الأخذ عن أهل الكتاب قد يكون مرجعه إلى أنه قد وضع عليهم الكثير، ودس عليهم من أقوال أهل الكتاب الكثير من الروايات التي لم يعتمدوها، فأوهم ذلك المتأخرين توسع الصحابة في الأخذ عنهم.
وتأكيدًا لهذا يقول الدكتور الذهبي: " رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدرًا ضيقًا محدودًا؛ وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعيًّا أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن ".
إن ورع الصحابة وصدق إيمانهم جعلهم يسلكون في الأخذ عن أهل الكتاب مسلكًا آمنًا، متمثلين وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا باللَّه وما أنزل إلينا "، هذا فيما يتعلق بالغيبيات أو الأخبار التاريخية المفصلة في الكتب السابقة. أما فيما يتعلق بالعقيدة أو الأحكام الشرعية، أو ما لا يكون لمعرفة تفاصيله والوقوف على حقيقته فائدة تذكر، فقد كانوا يعدون ذلك قبيحًا من قبيل تضييع الأوقات.
كما كانوا يردون على أهل الكتاب مقالاتهم المخالفة للشريعة، ونختار للاستشهاد على ذلك موقف الصحابي الجليل أبي هريرة في مراجعته ومحاورته لهذين الكتابيين -كعب الأحبار وعبد اللَّه بن سلام- حول ساعة يوم الجمعة التي عناها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه وأشار

صفحة رقم 214

بيده يقللها "، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها؟
فنجد أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا، ويبين له أنها في كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة فيرى الصواب مع أبي هريرة، فيرجع إليه.
ثم يتوجه أبو هريرة إلى عبد اللَّه بن سلام يسأله تحديد هذه الساعة، ويقول له: أخبرني ولا تضن علي، فيجيبه ابن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي "، وتلك الساعة لا يصلي فيها؟
ولذا كان تعليق كعب الأحبار على مثل هذه الأسئلة والمحاورات: " ما رأيت رجلاً لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة ".
ويدل هذا الموقف من أبي هريرة على تيقظ الصحابة لهذه الأفكار الدخيلة التي بدأت تتسرب إلى دينهم، ومقاومتهم لها في هذا الوقت المبكر.
المفسرون من الصحابة:
اشتهر عدد غير قليل من الصحابة المفسرين، عد السيوطي - رحمه اللَّه - منهم: الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وهناك من تكلم في التفسير غير هَؤُلَاءِ: كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعائشة، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جدَّا، فلم يكن لهم

صفحة رقم 215

شهرة ما كان للعشرة المذكورين أولًا، وحتى هَؤُلَاءِ العشرة تفاوتوا فيما بينهم قلة وكثرة، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير؛ نظرًا لاشتغالهم بمهام الخلافة وتقدم وفاتهم.
وعلى هذا يمكن القول: إن أبرز مفسري الصحابة هم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب؛ نظرًا لكثرة الرواية عنهم في التفسير كثرة غذت مدارس التفسير في الأمصار المختلفة فيما بعد على اختلافها وكثرتها.
* * *

صفحة رقم 216

أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير
١ - عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، شهد بدرًا، والمشاهد إلا تبوك، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، وعن ابن عمر مرفوعًا: " إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه "، ولما دفن قال ابن مسعود: " ذهب اليوم تسعة أعشار العلم "، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة.
ب - دوره في التفسير:
لقد تهيب عمر بن الخطاب -كما تهيب أبو بكر قبله- القول في كتاب اللَّه، والأمثلة على ذلك كثيرة، من ذلك ما يرويه الشعبي قال: " سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأي، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد ".
يقول الشعبي: " فلما استخلف عمر، قال: إني لأستحيي من اللَّه أن أرد شيئًا قاله أبو بكر، ثم يتردد عمر فيرجع آخر عهده عن هذا القول، ويذهب إلى أن الكلالة من لا ولد له، ويقول: وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي فيها من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه، ثم يقول: ثلاث لأن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها: الكلالة، وأبواب الربا، والخلافة ".

صفحة رقم 217

فهذا الموقف يكشف -أولاً- عن تهيب عمر بن الخطاب مقتديًا بأبي بكر من القول في كتاب اللَّه، ويكشف -ثانيا- عن أنه برغم التهيب فإن عمر أدلى بدلوه في التفسير، وذلك حين تكون هناك مصالح عملية وواقعية تتوقف على مدلول العبارة.
ولكي يصل إلى جواب قاطع للمسألة، كان أحيانًا يلجأ إلى طرح المسألة على الناس، مثلما فعل في مسألة تحديد ليلة القدر، فقد روى أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلس في رهط من الصحابة فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: مالك يا ابن عَبَّاسٍ لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق فوقنا وتحتنا سبعًا، فأراها في السبع الأواخر من رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه.
والحق أن عمر بن الخطاب في تفسيره للقرآن كان يسلك مسلكًا واقعيًّا عمليًّا، بمعنى أنه إذا كانت هناك مصلحة عملية تتوقف على تحديد مدلول اللفظ، فإن التفسير في هذه الحالة يصبح بحثًا ملحًّا وأمرًا ضروريًّا، وأما إن لم تكن هناك مصلحة عملية فلا بأس عنده ألا يدري مدلول اللفظ؛ ولذلك نجده فيما يروي عنه حين كان يقرأ قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)، فقال: الفاكهة والقضب، وهذه الأشياء عرفناها، فما الأبُّ؟ فوضع يده على رأسه ثم قال: " إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب، وما عليك ألا تدري ما الأبُّ؟ ".
ومن كل ما سبق يتكشف لنا أن دور عمر بن الخطاب في التفسير كان دورًا محدودًا، لكنه لبنة في تطور التفسير لا يمكن إهمالها وتركها دون الإفادة منها.
٢ - علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو الحسن ابن عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وختنه على ابنته، أمير المؤمنين، يكنى: أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًّا، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفق البخاري

صفحة رقم 218

ومسلم على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرًا والمشاهد كلها، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومُحَمَّد، وفاطمة، وعمر، وابن عباس، والأحنف، وأمم.
قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعًا بين الأقوال، قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "، وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.
ب - دوره في التفسير:
الرواية عن علي بن أبي طالب كثيرة، وذلك راجع إلى أمور، أبرزها:
الأول: تأخرت وفاته عن الخلفاء السابقين، فقد كانت وفاته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عام ٤٠ من هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
الثاني: وجد في زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى التفسير؛ وذلك لاتساع رقعة الإسلام، ودخول الأعاجم فيه حتى كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأ جيل من أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة.
الثالث: فهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العميق للقرآن، وخصوبة فكره، وغزارة علمه، فكان أهلاً لأن يحمل عنه، ويدل على هذا ما روى معمر عن وهب بن عبد اللَّه عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا يخطب وهو يقول: " سلوني، فواللَّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم. وسلوني عن كتاب اللَّه، فواللَّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل؟ ".

صفحة رقم 219

وما روي عن ابن مسعود قال: " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن ".
والآثار الكثيرة المروية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدل دلالة واضحة على فضله ومنرلته في التفسير، ومدى الدور الذي اضطلع به في هذا الشأن.
كما أنه يعتبر أول من وضع بفكره الثاقب، ونظره الصادق في القرآن الكريم - اللبنة الأولى في منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي ما زال -حتى عصرنا هذا- يتحسس طريقه، ويخطو خطواته الأولى عليه، فقد كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجمع الآيات في الموضوع الواحد ليستخلص منها جميعًا حكمًا صادقًا يفسر فيه القرآن بعضه بعضًا.
يدل على هذا ما رواه ابن حزم من أن عليًّا ذكر عثمان حين أراد إقامة حد الزنى على من وضعت بعد زواجها بستة أشهر بقول اللَّه تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) مع قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، فرجع عثمان عن إقامة الحد عليها ".
" أي أن عثمان حكم العادة الجارية من أنه لا تلد المرأة لأقل من سبعة أشهر، فاعتبر ولادتها قبل ذلك قرينة لإقامة الحد عليها، لكن عليًّا يستدرك عليه ويتدارك الأمر، حيث حكم القاعدة التي تدرأ الحدود بالشبهات، وفهم من الآيتين السابقتين مجتمعتين أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر، واعتبر ذلك شبهة تحول دون القطع بوقوع الزنى، ومن ثم فلا يقع الحد ".
يتبين من خلال ما سبق البصمة الواضحة للإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير، وإسهامه الواضح في تطوره.

صفحة رقم 220

٣ - عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ (ترجمان القرآن)
حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس عبد اللَّه، ابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين.
صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدث عنه بجملة صالحة.
وحدث عن عمر، وعلي، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وخلق.
وقرأ على أبي، وزيد.
قرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة.
روى عنه: ابنه علي، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وأبو معبد، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وخلق كثير.
وله جماعة أولاد، أكبرهم العباس، وبه كان يكنى، وعلى أبو الخلفاء، وهو أصغرهم، والفضل ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ولبابة، وأسماء.
وكان وسيمًا، جميلاً، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال.
وأولاده: الفضل، ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ماتوا ولا عقب لهم، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وبنته الأخرى أسماء كانت عند ابن عمها عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن العباس، فولدت له حسنًا، وحسينًا.
انتقل ابن عَبَّاسٍ مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان، وأمي من النساء.
وعن طاوس قال: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عَبَّاسٍ.
وقال مجاهد: ما رأيت أحدًا قط مثل ابن عَبَّاسٍ، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة.
وروى الأعمش، عن مجاهد، قال: كان ابن عَبَّاسٍ يسمى البحر؛ لكثرة علمه.
وعن مجاهد قال: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عَبَّاسٍ إلا أن يقول قائل: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وعن طاوس، قال: أدركت نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عَبَّاسٍ، فخالفوه، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.

صفحة رقم 221

قال يزيد بن الأصم: خرج معاوية حاجًّا معه ابن عَبَّاسٍ، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم.
الأعمش: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابن عَبَّاسٍ، وهو أمير على الموسم، فافتتح سُورَةَ النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس، والروم، والترك لأسلمت.
قال علي بن المديني: توفي ابن عَبَّاسٍ سنة ثمان أو سبع وستين.
وقال الواقدي، والهيثم، وأبو نعيم: سنة ثمان، وقيل: عاش إحدى وسبعين سنة.
ب - دوره في التفسير:
فاز عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بدعوة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل "، فكان له القدح المعلى بين صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن، حتى أنه يوجد له تفسير يتداوله الناس يسمى تفسير ابن عَبَّاسٍ.
وقد كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر جرأة في الاجتهاد، فيروي عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)، فقال: اذهب إلى ابن عَبَّاسٍ فاسأله، ثم تعال فأخبرني، فذهب فسأله، فقال: " كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات " فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال: " قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عَبَّاسٍ على تفسير القرآن، فالآن علمت أنه أوتي علمًا ".
وابن عَبَّاسٍ يقف على رأس من يرون أن كلام العرب يوضح ما غمض من ألفاظ القرآن الكريم، وأن الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانها، ومساءلات نافع بن الأزرق التي أربت على المائتين تدل على ذلك.
ومن ثم يمكن القول -وللأمانة العلمية-: إن المنهج اللغوي في تفسير القرآن من صنع ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - فهو الذي أرسى دعائمه، معتمدًا في ذلك على البذور التي بذرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه الراشدون، وبخاصة عمر.

صفحة رقم 222

وكان ابن عَبَّاسٍ يبين في تفسيره الكلمات المعربة عن لغات أخرى غير العربية، مما يؤكد رئاسته للمنهج اللغوي، حتى قيل عنه: " إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن الكريم ".
وإذا كان ابن عَبَّاسٍ قد اهتم بالتفسير اللغوي. فإنه -أيضا- ركز على عنصر الأخبار في تفسيره، وبخاصة الأخبار التي لم ترد في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان يرجع إلى التاريخ العام، وأخبار الأمم، وبخاصة أهل الكتاب، فكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرجع إليهم ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في

صفحة رقم 223

القرآن وفصلت فيهما.
إن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بما أوتي من علم بكتاب اللَّه أسهم إسهامًا كبيرًا في نشأة علم التفسير وتطوره، بل إنه ليعد من أكبر مفسري القرآن الكريم في عصور الإسلام المختلفة، فقد كانت له مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عنه، استقرت في مكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عَبَّاسٍ يَلْقَى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلى درجة أنه إذا صح النقل عنه لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر، وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عَبَّاسٍ مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء في التفسير.
٤ - عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عبد اللَّه بن مسعود بن غافل -بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف- ابن حبيب بن شمخ -بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم- ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي، أبو عبد الرحمن الكوفي، أحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وروى عنه خلق من الصحابة، ومن التابعين: كمسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار، تلقن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبعين سورة.
قال علقمة: كان يشبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه ودله وسمته.
وقال أبو نعيم: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة.
ب - دوره في التفسير:
كان عبد اللَّه بن مسعود خادم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف

صفحة رقم 224

ومؤدب؛ لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب اللَّه، ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، حتى قيل عنه: إنه في التفسير أكثر رواية من علي كرم اللَّه وجهه.
وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: " واللَّه الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب اللَّه إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب اللَّه مني تناله المطايا لأتيته ".
وهذا يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب اللَّه، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب اللَّه تعالى.
وقد قام تفسير ابن مسعود على الرأي والاجتهاد والاستنباط؛ لمواءمة البيئة العراقية المتأثرة بثقافة الفرس، فوضع بذلك الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال والثي توارثها أهل العراق في التفسير والفقه.
ويتميز ابن مسعود عن غيره في مجال تفسير القرآن بأنه اعتمد بعض القراءات التي تختلف عن القراءات المتواترة في المصاحف العثمانية، وقد تكون هذه القراءات من الروايات التفسيرية التي وردت على لسانه، وظنها تلامذته من القراءات، كما يمكن أن يقال -أيضًا-: إنها بهذا الاعتبار كانت بداية لنشوء علم تفسير القرآن.
٥ - أبي بن كعب
أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني، سيد القراء، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها، له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة، ورُويَ عنه: ابن عَبَّاسٍ وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير، وكان ربعة نحيفًا أبيض الرأس واللحية، وقد أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة رحمه اللَّه تعالى، وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلى عليه عثمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

صفحة رقم 225

ب - دوره في نشأة التفسير:
أبي بن كعب هو ثالث ثلاثة بعد ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود كثرت عنهم الرواية، وكان مقدمًا في القراءة؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيه: " وأقرؤكم أبي بن كعب ".
وقد عد أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العلماء المكثرين في التفسير، وربما مكنه من ذلك معرفته بمعاني كتب اللَّه القديمة؛ إذ كان من العارفين بأسرار هذه الكتب وكونه من كتاب الوحي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومقدم القرآن ومؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن الكريم يشكل معناها دون أن يسأل عنها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ولقد اتبع أبي في تفسيره منهجًا يتحرى الحيطة والحذر؛ إذ كان يتوقف عند ما ورد في الآيات عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستعينًا بمعرفته مواضع النزول، وأوقاته وأسبابه، وأحوال من نزل فيهم، بالإضافة إلى خبرته بالكتب القديمة ومعرفة أسرارها، ووقوفه على ما ورد فيها من جهة، وقراءته القرآن على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإقراء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - له بعضًا منه تعليمًا وإرشادًا من جهة أخرى، فإذا لم يجد فيما ورد عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شيئًا، أو لم تعنه وسائله التفسيرية السابقة، فإن صنيعه يتوجه إلى بيان الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية؛ إذ كانت الثقافة اللغوية هي زاد القوم الذي يستمدون منه ما يعينهم على ذلك.
لقد استطاع أُبي بما أوتي من علم وموهبة تفسيرية أن يجتذب تلاميذ كثيرين، أثر فيهم بمنهجه الشامل، مما أدى إلى نشأة المدرسة المدنية في التفسير والفقه.
ملاحظات حول تفسير الصحابة:
نستطيع الآن أن نورد مجموعة من الملاحظات على تفسير الصحابة تبرز لنا بشكل أكثر

صفحة رقم 226

وضوحًا الدور الذي قاموا به، وهي كالآتي:
أولاً: اتخذت تفسيرات الصحابة جميعهم شكل الحديث من حيث الرواية والتلقي.
ثانيًا: الصحابة لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا بالتفسير ما كانوا يسألون عنه، أو ما يبدو غريبًا في أذهان بعضهم.
ثالثًا: تفسيراتهم لم تكن تخرج عن تفسير اللفظ بما يوضحه، والاستشهاد له من اللغة، وما يمكن أن يروى حوله من تفسير للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو مناسبة النزول.
رابعًا: لم يكن بين تفسيراتهم اختلافات كبيرة؛ نظرًا لقربهم من عهد النبوة، كما أنهم لم تتوزعهم الأهواء، وما كان بينهم من اختلافات فهي للتنوع وليس للتضاد.
ومع كل هذا، فقد كان الصحابة الأجلاء، وبخاصة ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود وأُبي بن كعب - رضوان اللَّه عليهم - هم أول من أسس علم التفسير بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما قدموه من إسهامات فتحت الطريق أمام التابعين من بعدهم ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا.
* * *

صفحة رقم 227

المرحلة الثالثة: التفسير في عصر التابعين
جاء عصر التابعين، فوجدوا بين أيديهم ميراثًا ضخمًا من التفسير، لكنه ليس شاملاً لكتاب اللَّه تعالى كله، بل هو تفسير لبعض الآيات، كما أنه لم تكن هناك مصنفات كاملة فيه، حيث إنه لم يدون في عهد الصحابة، لقرب العهد برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولقلة الاختلاف، وللتمكن من الرجوع إلى الثقات.
ثم لما انقضى عصر الصحابة أو كاد، وصار الأمر إلى تابعيهم، انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلفت الآراء، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن.
ومعنى هذا أن حركة واسعة لتدوين علوم الإسلام قد بدأت مع عصر التابعين، في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، وقد نال التفسير قسطًا وافرًا من اهتمام التابعين، سواء فيما يتعلق بتدوينه أو تطويره والبلوغ به درجات لم يبلغها من قبل.
ونريد في عجالة أن نستجلي أهم ما قام به التابعون في مجال تفسير القرآن الكريم، ولتحقيق ذلك نقف أمام النقاط الآتية:
أولًا: مصادر التابعين في تفسير القرآن الكريم:
اتبع علماء التابعين سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحابته الكرام، فصدروا عن طريقتهم في التفسير، فجاءت مصادرهم في التفسير هي المصادر الثلاثة السابقة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بما عند أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، ولكنهم زادوا مصادر أخرى: ففسروا القرآن بما رووه عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم توسعوا في الاجتهاد وتفسير القرآن بالرأي عما كان عليه في عهد الصحابة.
يقول الدكتور الذهبي: اعتمد هَؤُلَاءِ المفسرون في فهمهم لكتاب اللَّه تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، وعلى ما يفتح اللَّه به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب اللَّه تعالى.
وقد روت لنا كتب التفسير كثيرًا من أقوال هَؤُلَاءِ التابعين في التفسير، قالوها بطريق

صفحة رقم 228

الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول اللَّه - ﷺ -، أو عن أحد من الصحابة.
ثانيًا: دور التابعين في تفسير القرآن الكريم:
بعدت الشقة بين عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر التابعين، وتزايد الغموض في فهم القرآن الكريم، واحتاج الناس إلى التفسير وقد اضطلع التابعون في هذه المرحلة بدور بارز.
يقول الدكتور الذهبي: تزايد هذا الغموض -على تدرج- كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعًا، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.
وبرز في عصر التابعين علماء كثيرون، كانوا قد تتلمذوا على أيدي صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سوف نتعرض لأبرزهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن المدارس التفسيرية.
ثالثا: يمتاز التفسير في عصر التابعين بما يلي:
أولًا: غالب أقوالهم في التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم.
ثالثًا: دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقًا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية: كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات وكثير من القصص، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء

صفحة رقم 229

بعدهم.
وترتب على دخول الإسرائيليات والنصرانيات أن غص التفسير بكثير من الأباطيل، والخرافات، وممن ساعد على رواج هذه الأباطيل القصاص والوعاظ بالمساجد، ولم يسلم من نسبتها إليهم أئمة ورعون كالحسن البصري بالكوفة، ومُحَمَّد بن كعب القرظي بالمدينة.
ثالثًا: تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل التفسير؛ إذ وضعت فيها بذور المذاهب الإسلامية، من نزوع العقل إلى فهم الآيات وتفسيرها، إلى تصرف في اللغة وإيغال في التأويل، وقد وجدنا هذا في مدرستي مكة والمدينة، بالقدر الذي وجد في مدارس الكوفة والعراق ومصر بعامة، وإن اختلف الأساس الذي بُني عليه هذا الفهم في كل مدرسة على حدة.
رابعًا: يعتبر التابعون هم المؤسسون الرئيسون للمدارس التفسيرية التي وجدت بذور نشأتها في عهد الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد تبلورت المدارس التفسيرية وبرزت وتحددت في عصر التابعين والعصور التالية.
خامسًا: ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه، ونجد الحسن البصري يفسر القرآن على إثبات القدر، ويكفر من يكذب به.
سادسًا: شهدت هذه المرحلة محاولات فردية في تدوين التفسير، وإن ظل محتفظًا بطابعه في عهد الصحابة من الرواية والتلقي الشفهي مثل الحديث، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل مصر يعنون -بوجه خاص- بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم، فالمكيون عن ابن عَبَّاسٍ، والمدنيون عن أبي، والعراقيون عن ابن

صفحة رقم 230

مسعود... وهكذا.
وعمومًا، فإن التفسير في عهد التابعين تطور عما كان عليه في عصر الصحابة، مما أسهم في بلورته في المرحلة التالية.
المرحلة الرابعة: التفسير في عصور التدوين:
وهذه المرحلة تبدأ مع ظهور تدوين العلوم في أواخر عصر بني أمية وبداية عصر العباسيين، وفي هذه المرحلة خطا التفسيير خطوات أخرى، نستطيع بلورتها فيما يلي:
الخطوة الأولى: أنه مع ابتداء التدوين لحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار دلك ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو إلى أصحابه أو التابعين، ومن هَؤُلَاءِ: يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة ١١٧ هجرية، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧ هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة ٢٥٥ هجرية، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة ٢١١ هجرية، وآدم بن إياس المتوفى سنة ٢٢٥ هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة ٢٤٩ هجرية، وغيرهم... وهَؤُلَاءِ جميعًا كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد، وجميع ما نقله هَؤُلَاءِ الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مُسْنَدًا إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شيء منها؛ ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
الخطوة الثانية: انفصل بها التفسير عن الحديث، فأصبح علمًا قائمًا بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف، وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣ هـ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة ٣١٨ هـ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩ هـ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

صفحة رقم 231

وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها، ورجح بعضها على بعض؛ وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية.
وتجدر الإشارة إلى أن التفسير إذا كان قد انفصل عن الحديث، فإنه ليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية، كانت الخطوة الثانية له هي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهي تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالئة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
الخطوة الثالثة: تجاوز التفسير حدود التفسير بالمأثور، بعد ما كان مقصورًا على ذلك، فصنف في التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير.
الخطوة الرابعة: وهي خطوة أوسع من سابقتها، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورًا على رواية ما نقل عن سلف الأمة تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وتدرج ذلك تدرجًا واضحًا، فبدأ أولاً التفسير العقلي على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمرًا مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة،

صفحة رقم 232

حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم.
ثم إن ما ظهر من مذاهب واتجاهات، وما دون من علوم، وما ترجم منها، أدى إلى اختلاط التفسير بغيره من العلوم، وتلونه بالمذاهب المختلفة، فكل فسر القرآن الكريم حسب ما يتمشى مع فكره ومذهبه، ويساير اتجاهه.
غير أنه يجب التنبيه إلى أن التفسير العقلي لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب، فقد وجدد من العلماء من استطاع في كل العصور مقاومة طغيان التفسير العقلي، ففسر القرآن الكريم تفسيرًا نقليًا بحتًا، أو فسره تفسيرًا نقليًا مختلطًا بالتفسير العقلي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اهتم بموضوعات معينة في القرآن الكريم، فابن القيم مثلاً أفرد كتابًا سماه " التبيان في أقسام القرآن "، وأبو عبيدة أفرد كتابا سماه " مجاز الفرآن "، وألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ، وبعضهم في أسباب النزول، وبعضهم في أحكام القرآن، وبعضهم في إعراب القرآن.
* * *

صفحة رقم 233

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
في زماننا بدأ يظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي، وهو يعني أمرين:
الأول: أنه يعني الوحدة الموضوعية، أي: أن بناء السورة الكريمة من سور القرآن الكريم يتناول في معظمه موضوعًا واحدًا، تقوم السورة الكريمة على بيانه والإلحاح عليه من أولها إلى آخرها، وقد يتخلل ذلك موضوعات أخرى أو إشارات إلى موضوعات أخرى، ولكن يبقى الخيط العام في السورة وموضوعها واضحًا، ونادرا ما تقتصر سورة من سور القرآن على موضوع واحد، وذلك من مميزات أسلوبه الفريد وإعجازه الواضح، ومع هذا يبقى الموضوع الكبير وتفاصيله واضحًا في بناء السورة الكريمة، صغيرة كانت أو كبيرة.
يمثل ذلك سورة يوسف فإن موضوعها قصة يوسف - عليه السلام - منذ ولادته والرؤيا التي رآها إلى وفاته (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١).
ومع أن قصة يوسف هي موضوع السورة الأكبر، وأن وحدة الموضوع وعناصره بادية في السورة من أولها إلى آخرها إلا أن الأسلوب القرآني المعجز يدخل في ثنايا ذلك موضوعات أخرى لا تخل بوحدة موضوع السورة، ولكنها تضيف إليه التقدير والتعظيم.
فالموضوع الأكبر هو قصة يوسف، وقد تم سردها بدقة وإحكام، والموضوع الآخر إثبات صدق مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به من القرآن الكريم، فهو وحي من عند اللَّه ومعجز لأمته، وبين هذين الموضوعين تعرضت آيات القصة لكثير من القيم والتوجيهات الدِّينية، وقد أفاد كل ذلك في بناء الموضوع ووحدته.
الأمر الثاني:
وهو سابق على الأمر الأول المتمثل في الوحدة الموضوعية في السورة، فهناك محاولات سابقة للعلماء للربط بين الآيات وبيان المناسبة بين كل آية وآية مما يعد لبنة في تلك الدراسة، فخصص السيوطي لذلك فصلاً في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " سماه: " مناسبة الآيات " قال فيه كلامًا طيبًا لا يبعد كثيرًا عما يسمى بالوحدة الموضوعية، بل وهناك محاولات لبيان مناسبة السورة مع التي قبلها.
وقد تطور هذا الأمر، فأصبح التفسير الموضوعي يعني " جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا، وتفسيرها حسب المقاصد

صفحة رقم 234

القرآنية ".
وأطلق التفسير الموضوعي على جميع الأشباه والنظائر في القرآن الكريم حسب مادة الكلمة، ثم ترتيبها ترتيبًا معجميًا، وذلك كما صنع الفقيه الدامغاني في كتابه: " إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم ".
ونستطيع القول: إن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هو معرفة مراد اللَّه تعالى من كلامه الكريم في آيات عديدة يجمعها موضوع واحد، وذلك بقدر الطاقة البشرية والعلوم المعنية.
ولكن مما ينبغي إبرازه أن التفسير الموضوعي وجد منذ عصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وليس وليد العصر الحاضر، وذلك لسببين:
الأول: أن القرآن الكريم يفسر بعضهه بعضًا، فما أجمل في موضع فصل في موضع آخر، وما أبهم في موضع بين في موضع آخر، وهكذا، وفي ذلك يقول السيوطي عند حديثه عن شروط المفسر وآدابه: " قال العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولاً من القرآن، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه، وقد ألف ابن الجوزي كتابًا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه ".
والسبب الثاني: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد استخدم هذا الأسلوب في بيان وتفسير ما أشكل على الصحابة من القرآن الكريم، حيث ضم الآيات إلى بعضها؛ ليتضح المعنى ويتبين المراد، فمن ذلك أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - لما سمعوا قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، خافوا وظنوا أنهم قد حرموا الأمن والأمان؛ لأن الظلم واقع من كل إنسان لا محالة، حتى ظلمه لنفسه، فذهبوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في فزع وخوف، فطمأنهم، وبين لهم أنهم في أمن وأمان؛ لأن الظلم المراد في الآية هو الشرك، وتلا عليهم قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فاطمأنت نفوسهم بذلك.
وقد سار الصحابة على سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فكانوا يجمعون آيات القرآن

صفحة رقم 235

الكريم؛ ليستنبطوا الحكم الصحيح وقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن دور علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير أنه يعد -بحق- واضع اللبنة الأولى للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك -أيضًا- ما سبق أن ذكرناه عن ابن عَبَّاسٍ وعمر بن الخطاب في توقع موعد ليلة القدر، فقد أخرج أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: ما لك يا ابن عَبَّاسٍ صامت لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعًا، وخلق تحتنا أرضين سبعا، وأعطى من المثاني سبعًا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، وطاف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكعبة سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة سبعا، ورمى الجمار سبعا، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه.
وقد توالت الجهود وتتابعت في التفسير الموضوعي حتى أصبح مصطلحًا معروفًا واتجاهًا واضحًا في التفسير في العصر الحديث، حيث وجدنا من العلماء من يتناول بالتفسير سورة واحدة، كما فعل الدكتور مُحَمَّد البهي في تفسير سورة يوسف وإبراهيم وغيرهما، ومنهم من تناول بالتفسير موضوعًا من موضوعات القرآن، فجمع آياته المتفرقة وقام بتفسيرها في كتاب واحد، كما فعل الدكتور مُحَمَّد عبد اللَّه دراز في كتابه " الأخلاق في القرآن الكريم "، والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الصبر في القرآن الكريم "، ومن قيل: الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا في " الوحي المحمدي " وتوالت الكتب المختصة بهذا الشأن، حتى وجدنا بعض العلماء كالشيخ الغزالي يؤلف مباشرة تحت عنوان " التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ".
وقد بلغ من شهرة هذا الاتجاه أن أصبح شعبة دائمة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وصدرت عنها عدة بحوث كان لها الأثر الكبير في التعريف بالقرآن والإسلام لدى غير المسلمين، مما أسفر عن إعجاب الكثير بالإسلام وإعلان إسلامهم.
إذن فإن التفسير " تفسير القرآن الكريم " مر بمراحل متعددة حتى صار إلى ما نراه الآن،

صفحة رقم 236

ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا، وهو: هل صار التفسير علمًا بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟
عرض الدكتور الذهبي - رحمه اللَّه - لهذه المسألة، فقال: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام اللَّه، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها.
ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علومًا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة: والصرف، والنحو، والقراءات... وغير ذلك.
والحق الذي يصدق الواقع، وتشهد به التفاسير الكثيرة، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المستنبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم، وأيضًا: فإن فيه كثيرًا من القواعد الكلية التي يندرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء اللَّه، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن.
وكونه مفتقرًا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلاً من كونه علمًا متكاملًا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبدهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علمًا قائمًا برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض.
كما أن كونه بيانًا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علمًا قائمًا بذاته، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانًا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا، ثم لم يمنع ذلك من عده علمًا، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق.

صفحة رقم 237

الفصل الثاني
مدارس تفسير القرآن الكريم
قلنا: إن المدارس التفسيرية تبلورت في عصر التابعين، فظهرت عدة مدارس، لكل مدرسة منها أسلوبها وطريقتها ومنهجها في تفسير القرآن الكريم، اضطلع بالتفسير فيها أئمة كبار من أهل العلم.
يقول الدكتور الذهبي: فتح اللَّه على المسلمين كثيرًا من بلاد العالم في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعًا في بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلمون، ومنهم غير ذلك.
وقد حمل هَؤُلَاءِ معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد.
ويمكننا القول: إن أصل هذه المدارس، وأعلمها بالتفسير هي مدرسة مكة؛ لأن شيخها وأستاذها عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ حبر الأمة وترجمان القرآن، كان نسيج وحده في التفسير، فكان أعلم الناس به، وكان تلاميذه أعلم التابعين به أيضًا؛ ولذلك يقول ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم.
ونحاول في الصفحات الآتية الوقوف أمام أبرز مدارس التفسير؛ لبيان خصائصها

صفحة رقم 238

وسماتها والمفسرين الذين يمثلونها وينتمون إليها.
أولا: المدرسة المكية:
واضع بذور هذه المدرسة ومؤسسها الأول الصحابي الجليل عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ترجمان القرآن وحبر الأمة، فقد جلس لتلاميذه يفسر لهم ما غمض من القرآن ويوضح لهم ما أشكل عليهم من معانيه، وكان جلوسه لهم بمكة، وقد اجتمع حوله كثير من التلاميذ الذين وعوا ما يقوله ورووه لمن جاء بعدهم، وقد اشتهر من هَؤُلَاءِ التلاميذ: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح.
ولكي نعرف بالمدرسة المكية لابد لنا من دراسة خصائصها وسماتها في التفسير، ثم بيان دور تلاميذها وما قاموا به في التفسير مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم، فنقول:
تتسم المدرسة المكية في التفسير بعده: سمات، أبرزها ما يأتي:
أ - الرواية:
قامت هذه المدرسة على الرواية عن ابن عَبَّاسٍ، فروى عنه سعيد بن جبير وسمع منه التفسير وأكثر من روايته عنه.
وروى مجاهد والفضل بن ميمون وعكرمة وطاوس وعطاء بن أبي رباح، وكانت رواية هَؤُلَاءِ الأعلام أكثرها عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ومن ثم تأثروا به وبمنهجه في التفسير.
ومما يدل على رواية هَؤُلَاءِ الأعلام عن ابن عَبَّاسٍ ما رواه الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة.
وروي عنه -أيضًا- أنه قال: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت؟
ولا تعارض بين هاتين الروايتين؛ لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير، فلعله

صفحة رقم 239

عرض القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة؛ لتمام الضبط، ودقة التجويد وحسن الأداء، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات؛ طلبًا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره، وخفي من معانيه، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية.
ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله حبيب بن أبي ثابت: " اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا ".
ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله ابن عَبَّاسٍ نفسه عن عطاء بن أبي رباح: " تجتمعون إليَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟! ".
وهذا إن دل على رواية عطاء، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم، حتى إن ابن عَبَّاسٍ -وهو حبر الأمة وترجمان القرآن- يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح.
وخلاصة القول: إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير، فمثلما روى الصحابة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التفسير، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالأخص عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما.
هذا، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عَبَّاسٍ والصحابة وحسب، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب، كلا، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه، ولم يخالف بيَّنًا مما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب، ورأس مدرستهم ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما

صفحة رقم 240

يقولون، مما هو داخل تحت حدود النهي من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ب - جمع القراءات
جمع أصحاب هذه المدرسة القراءات الثابتة، وكان أكثر تلاميذ ابن عَبَّاسٍ حرصًا على ذلك، هو سعيد بن جبير، فقد كان سعيد بن جبير يؤم الناس في شهر رمضان، فروي عنه أنه كان " يقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدًا ".
وما من شك في أن جمع القراءات يمنح القدرة على التوسع في معرفة معاني القرآن وأسراره.
ج - التفسير بالرأي:
قلنا: إن هذه المدرسة قامت على الرواية؛ وذلك لأن أصحابها تحرجوا من التفسير بالرأي، فقد روى ابن خلكان عن سعيد بن جبير أنه كان يتورع من القول في التفسير برأيه، فقد جاء رجل وسأل سعيدًا أن يكتب لله تفسير القرآن، فقال: لأن يسقط شقي أحب إلى من ذلك.
لكن لم يكن كل أصحاب المدرسة على درجة واحدة في هذا التحرج، فمنهم من زاد تحرجه كسعيد بن جبير -كما رأينا- ومنهم من خف تحرجه كمجاهد بن جبر، فكان من أكثر تلاميذ المدرسة المكية تحررا، لكنه التحرر المنضبط؛ لذلك نجده يقول: " ولا يحل لأحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يتكلم في شيء من كتاب اللَّه، إذا لم يكن عالمًا بلغات القرآن، ولا يكتفي باليسير منها؛ إذ اللفظ ربما كان مشتركًا فيغفل عن أحد المعنيين ".
ويقف في درجة وسطى بين شدة التحرج وخفته عكرمة، فمن يتتبع تفسيره في بطون كتب التفسير يجد فيه خصائص تفسير أستاذه ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - الذي تعلوه المسحة اللغوية والرجوع إلى الشعر، وهو يمثل لونًا من التفسير بالرأي.
ومن ثم يمكن القول دونما وجل: إن المدرسة المكية في التفسير تقوم على الرواية " أي التفسير بالمأثور " لكنها في الوقت نفسه لم تهمل التفسير بالرأي، يدل على ذلك ما رواه الطبري في تفسيره عن مجاهد في تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا

صفحة رقم 241

مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فقد فسر المسخ بأنه مسخ للقلوب ولم يقع على الأجسام، وإنما هو مثل ضربه اللَّه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
أعلام المدرسة المكية.
١ - سعيد بن جبير.
سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي الفقيه أحد الأعلام، روى عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر وعبد اللَّه بن مغفل وعدي بن حاتم وخلق، وروى عنه الحكم وسلمة بن كهيل وسليم الأحول، وسليمان الأعمش وأيوب وعمرو بن دينار، وخلائق، وقال اللالكائي: ثقة إمام حجة، قال عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم في كل ليلتين، قال ميمون ابن مهران: مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قتل سنة خمس وتسعين كهلاً، قتله الحجاج فما أمهل بعده، قال خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير، فلما بَانَ الرأس قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فلما قالها الثالثة لم يتمها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مكانته في التفسير:
شهد التابعون لسعيد بن جبير بتفوقه في العلم ولاسيما التفسير، فقد قال عنه الإمام أحمد: " قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه فرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ".
وقال عنه سفيان الثوري: " خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، والضحاك ".
وقال قتادة: " كان أعلم الناس أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام ".
ولعلم سعيد وفضله كان يثق فيه أستاذه ابن عَبَّاسٍ، ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير ويروي عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر

صفحة رقم 242

الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.
ويرى بعض العلماء أنه مقدم على مجاهد وطاوس في العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير.
هذا وقد وثق علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو القاسم الطبري: هو ثقة، حجة، إمام على المسلمين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان عبدًا فاضلاً ورعًا، وهو مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة.
٢ - مجاهد بن جبر:
مجاهد بن جبر -بإسكان الموحدة- مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر، روى عن ابن عَبَّاسٍ وقرأ عليه، وعن أم سلمة وأبي هريرة وجابر، ورَوَى عنه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة وأيوب وخلق.
وثقه ابن معين وأبو زرعة.
قال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ومولده سنة إحدى وعشرين.
مكانته في التفسير:
مجاهد أحد المبرزين في التفسير؛ قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين عرضة، وعنه -أيضًا- قال: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيم نزلت؟ وكيف كانت؟
وروى ابن جرير بسنده عن ابن أبي مليكة، قال: " رأيت مجاهدًا سأل ابن عَبَّاسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول ابن عَبَّاسٍ: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله ".
ولذا قال الإمام سفيان الثوري: " إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك "، وقال ابن تيمية: " ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي، والبخاري وغيرهما من أهل العلم ".
وقال السيوطي في الإتقان: " وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه، وما أورده فيه عن ابن عَبَّاسٍ أو غيره قليل جدَّا ".
فكل هذه الأقوال تشهد لمجاهد بعلو المكانة في التفسير والعلم، ومع هذا فقد تحرج بعض العلماء من الأخذ عنه في التفسير، ولعل الذي دفعهم إلى ذلك أمران:

صفحة رقم 243

الأول: أنه كان يسأل أهل الكتاب، كما سبقت الإشارة إلى أن ابن سعد عزا عدم سؤالهم له في التفسير إلى ذلك، فقال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
والثاني: مسلك التحرر الذي سلكه وتفسيره القرآن بالرأي، فلعل مثل هذا المسلك من مجاهد، هو الذي جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول في القرآن برأيهم يتقون تفسيره، ويلومونه على قوله في القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة في الرأي، فقد روي عن ابن مجاهد أنه قال: قال رجل لأبي: أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال: إني إذن لجريء، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهم.
وليس معنى هذا أن في مجاهد مطعنًا، كلا، فهو ثقة بلا مدافعة، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطى حدود ما يجوز له من ذلك، لاسيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عَبَّاسٍ، الذي شدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وعليه، فتبقى لمجاهد إمامته في التفسير التي لا يمكن أن يدفعها عنه دافع، فليس أخذه عن أهل الكتاب أو حريته في تفسير آيات القرآن يغضان من قيمته ومكانته أو يقللان من تفوقه في العلم والتفسير.
٣ - عكرمة
عكرمة البربري مولى ابن عَبَّاسٍ أبو عبد اللَّه أحد الأئمة الأعلام، روى عن مولاه، وعائشة وأبي هريرة، وأبي قتادة ومعاوية وخلق، وروى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي، وأبو الشعثاء من أقرانه وعمرو بن دينار وقتادة وأيوب وخلق.
قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة رموه بغير نوع من البدعة، قال العجلي: ثقة بريء مما يرميه الناس به، ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، ومن القدماء أيوب السختياني.
قال مصعب: مات سنة خمس ومائة.
مكانته في التفسير:
قال المروزي: قلت لأحمد: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: نعم يحتج به.

صفحة رقم 244

وقال ابن معين: إذا رألت إنسانًا يقع في عكرمة، وفي حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام.
وقال العجلي فيه: مكي تابعي ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية.
وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة.
وقد وثقه النسائي وأخرج له في كتابه السنن، كما أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيًا فيه، ثم عدله بعد ما جرحه.
وقال المروزي: أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو ثور، ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا!!! تعجب من سؤالي إياه.
فإن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة، وقد شهد له العلماء بذلك، فقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وقال عمرو بن دينار: دفع إليَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ، هذا البحر فسلوه.
وكان الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة.
وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا.
وقال يَحْيَى بن أيوب المصري: سألني ابن جريج: هل كتبتم عن عكرمة؟ فقلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم.
وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ قال له: " حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني

صفحة رقم 245

عهدت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لا يفعلون ذلك ".
إن عكرمة حاز منزلة عظيمة في العلم، فهو من أعلم الناس بالسير والمغازي؛ قال سفيان الثوري عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون ويقتتلون.
وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وشهد له الأئمة بذلك، يقول الشعبي: " ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة ".
ومع كل هذا، فإن هناك بعض العلماء وجهوا مطاعن إلى عكرمة، فكانوا يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان يدعي معرفة كل شيء في القرآن، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عَبَّاسٍ، وبعد هذا كله، يتهمونه بأنه كان يرى رأي الخوارج، ويزعم أن مولاه كان كذلك، وقد نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب كل هذه التهم ونسبها لقائليها، فمن ذلك: ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاوسا قال: لو أن مولى ابن عَبَّاسٍ اتقى اللَّه وكف من حديثه لشدت إليه المطايا.
وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق اللَّه، ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عَبَّاسٍ.
وروي أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه.
وروى ابن سعد: أن على بن عبد اللَّه كان يوثقه على باب الكنيف ويقول: إن هذا يكذب على أبي.
ثم بعد ذلك كله يصورون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون:
إنه مات هو وكثير عزة في يوم واحد، فلم يشهد جنازته أحد، أما كثير فقد شيعه خلق كثير.
وهذه التهم فيها كثير من المبالغة، حتى إن عكرمة نفسه كانت تصله فيتألم، فقد روى حماد بن زيد عن أيوب أنه قال: قال عكرمة: رأيت هَؤُلَاءِ الذين يكذبونني، يكذبونني من خلفي، أفلا يكذبونني في وجهي؟ فإذا كذبوني في وجهي فقد واللَّه كذبوني. ثم نراه

صفحة رقم 246

يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروي عن مولاه، فعن عثمان بن حكيم قال: كنت جالسًا مع أبي أمامة سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أذكرك اللَّه، هل سمعت ابن عَبَّاسٍ يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم.
هذا هو رد عكرمة على متهميه بالكذب، وتفنيده لما نسب إليه من الافتراء على مولاه.
ثم إن كثيرًا من التهم ردها علماء موثوق بهم كابن حجر، وشهد له بعضهم وأنصفوه.
٤ - طاوس بن كيسان اليماني
طاوس بن كيسان اليماني الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان؛ قاله ابن الجوزي، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت، وزيد ابن أرقم، وجابر، وابن عمرو، وأرسل عن معاذ.
قال طاوس: أدركت خمسين من الصحابة.
وروى عنه مجاهد، وعمرو بن شعيب، وحبيب بن أبي ثابت، والزهري، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وسليمان الأحول وخلق.
قال ابن عَبَّاسٍ: إني لأظن طاوسًا من أهل الجنة.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله.
وقال ابن حبان: حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة.
قال ابن القطان: مات سنة ست ومائة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم التروية، وصلى عليه هشام ابن عبد الملك ووثقه ابن معين وغيره.
مكانته في التفسير:
بلغ طاوس من العلم مبلغًا عظيمًا، وكان واثقًا من علمه هذا، وكان من الورع والأمانة حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عَبَّاسٍ فقال فيه ما أشرنا إليه منذ قليل: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة، وقال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا مثل طاوس، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقال ابن معين: إنه ثقة.
وقد أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وروايته عن ابن عَبَّاسٍ أكثر وأخذ

صفحة رقم 247

عنه التفسير أكثر من غيره؛ ولهذا عد من تلاميذه، وجاء ذكره في مدرسة مكة.
والتفسير المأثور عنه قليل جدَّا، ومعظمه يرويه عن ابن عَبَّاسٍ، ولقلة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه، قالوا عنه: إنه فقيه لا مفسر، وعده علماء الفقه فقيهًا.
٥ - عطاء بن أبي رباح:
عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم أبو مُحَمَّد الجندي اليماني، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة، روى عن عثمان وعتاب بن أسيد مرسلاً، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعروة بن الزبير، وطائفة، ورُوى عنه أيوب وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن مُحَمَّد، وجرير بن حازم، وابن جريج، وخلق.
قال ابن سعد: كان ثقة عالمًا كثير الحديث، انتهت إليه الفتوى بمكة.
وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء.
وقال ابن عَبَّاسٍ -وقد سئل عن شيء-: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء.
وقيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة.
قال حماد بن سلمة: حججت سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة.
مكانته في التفسير:
لم يكن عطاء مكثرًا من رواية التفسير عن ابن عَبَّاسٍ، كما كان مقلاًّ في التفسير بالرأي، ويرجع ذلك إلى تحرجه من القول بالرأي.
يقول الدكتور الذهبي: وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عَبَّاسٍ نجد أن عطاء بن أبي رباح لم يكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره، ونجد مجاهدًا وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب اللَّه، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء التفسير، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي، فقد قال عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من اللَّه أن يدان في الأرض برأيي.
وبعد: فهذه هي مدرسة التفسير في مكة التي كان لها الأثر الكبير في نشأة علم التفسير

صفحة رقم 248

وتطوره ونشره في داخل مكة وخارجها، فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري، نشر فيها الكثير من العلم، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عَبَّاسٍ وتفسيره، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، حيث رحل إلى خراسان واليمن والعراق والشام ومصر والحرمين.
ثانيًا: المدرسة المدنية:
هذه المدرسة لم يكن لها إسهام وافر في مجال تفسير القرآن الكريم بالرأي؛ إذ التزم أصحابها السماع والرواية في تفسيرهم، ومن هنا لم تضف هذه المدرسة لونًا عقليًّا تتميز به كما أضافت مدرسة مكة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أو مدرسة العراق التي سنتحدث عنها فيما بعد، بل بقيت ثقافتها معتمدة على الوحي: الكتاب والسنة، والإلمام بمواضع نزول الوحي وأوقاته، والإحاطة بأسباب النزول، وأحوال الذين نزل القرآن فيهم.
ولكن هذا لا ينفي ما قام به زيد بن أسلم في مجال التفسير بالرأي حتى قال عنه عبيد اللَّه بن عمر: " لا أعلم به بأسًا إلا أنه يفسر القرآن يرأيه ويكثر منه ".
وهذا الحكم لا يعد مغمزًا في زيد وثقته وعدالته، أو طعنًا في دينه وعلمه؛ فلم يوجد من العلماء من نسبه إلى أحد المذاهب المبتدعة، ويدل على توثيقه وعدالته أنه جلس إليه علماء كثيرون منهم علي بن الحسين زين العابدين، ولما سئل عن هذا قال: " إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه ".
وأستاذ هذه المدرسة ومؤسسها الأول أبي بن كعب، وعنه أخذ أعلام المدرسة المدنية من التابعين، لكن لم يكن أخذهم عنه وحده، بل أخذوا كذلك عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب كذلك، ولكن ليس بدرجة أخذهم عن أبي بن كعب.
وقد اشتهر من أعلام هذه المدرسة في التفسير ثلاثة أو أربعة، وهم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، وسعيد بن المسيب، ومُحَمَّد بن كعب القرظي، وسنقوم بترجمة كل واحد منهم.

صفحة رقم 249

أعلام المدرسة المدنية:
١ - زيد بن أسلم:
زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أحد الأعلام، روى عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة في " أبو داود " وأبي هريرة في الترمذي، وقال ابن معين: لم يسمع منه ولا من جابر، وروى عنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر، وروح بن القاسم.
قال مالك: كان زيد يحدث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يجترئ عليه أحد، وثقه أحمد ويعقوب بن شيبة، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة.
٢ - أبو العالية:
رفيع -بضم أوله مصغرًا- ابن مهران الرياحي -بكسر المهملة- مولاهم أبو العالية البصري مخضرم إمام من الأئمة، صلى خلف عمر، ودخل علي أبي بكر، روى عن أبي، وعلي، وحذيفة، وخلق، وروى عنه قتادة، وثابت، وداود بن أبي هند بصريون، وخلق.
قال عاصم الأحول: كان إذا اجتمع عليه أكثر من أربعة قام وتركهم.
قال مغيرة: أول من أذن بما وراء النهر أبو العالية.
قال أبو خلدة: مات سنة تسعين، وهو الصحيح.
٣ - سعيد بن المسيب:
سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي أبو مُحَمَّد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر في الأربعة، وأبي، وأبي ذر، وأبي بكرة في ابن ماجه، وعلي، وعثمان، وسعد في البخاري ومسلم، وطائفة، وروى عنه الزهري وعمرو ابن دينار وقتادة وبكير بن الأشج وَيَحْيَى بن سعيد الأنصاري وخلق.
قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه.
وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح.
سمع من عمر، وقال مالك: لم يسمع منه، ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه.
وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة.
قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: سنة أربع.

صفحة رقم 250

٤ - مُحَمَّد بن كعب القرظي:
مُحَمَّد بن كعب القرظي المدني ثم الكوفي أحد العلماء، روى عن أبي الدرداء مرسلاً، وعن فضالة بن عبيد، وعائشة، وأبي هريرة، وروى عنه ابن المنكدر، ويزيد بن الهاد، والحكم بن عتيبة.
قال ابن عون: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن من القرظي.
وقال ابن سعد: كان ثقة ورعًا كثير الحديث.
قيل: مات سنة تسع عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين.
ثالثًا: المدرسة العراقية:
من المدارس التي أصبحت لها قيمتها العلمية مدرسة العراق، وكان تلاميذ هذه المدرسة منهم من كان ببغداد، ومنهم من كان بالكوفة، ومنهم من كان بالبصرة، وأستاذ هذه المدرسة الأكبر هو: عبد اللَّه بن مسعود، حيث ولى سيدنا عمر عمار بن ياسر على الكوفة وسير معه عبد اللَّه بن مسعود معلمًا، ووزيرًا، وقد شرب من علمه أهل العراق عللاً بعد نهل، وأصبحوا متأثرين بطريقته في الاجتهاد في الفقه، والأحكام، والتفسير، وهي حرية الرأي في الاجتهاد، وحسن التصرف في النصوص، وعدم الجمود عليها.
وقد روي عن مسروق أنه قال: وجدت علم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأُبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن مسعود، ثم انتهى علم هَؤُلَاءِ الستة إلى اثنين: علي، وعبد اللَّه؛ يعني ابن مسعود.
وفي رواية أخرى: ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء.
وأهم سمة تميز مدرسة العراق شيوع طريقة الاستدلال فيها؛ لأن أهل العراق عرفوا بأنهم أهل رأي، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد اللَّه بن مسعود.
فالحسن البصري مثلاً يعمل فكره ورأيه في فهم القرآن، فيقول في تفسير قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) " إن اللَّه لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، فواللَّه ما هو إلا أنه: إن انقضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة

صفحة رقم 251

إلا الخلود، وهو في هذا التفسير يهتدي بابن مسعود؛ إذ يُروى عنه أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصا الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصا الدنيا لحزنوا ".
وليس معنى هذا أن تلاميذ هذه المدرسة أهملوا الرواية، فقتادة نفسه روى عن السلف إلى جانب تفسيره بالرأي، فهو يفسر الحكمة في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) بأنها علم القرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله.
أعلام المدرسة العراقية:
١ - علقمة بن قيس:
علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع النخعي أبو شبل الكوفي، أحد الأعلام مخضرم، روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وطائفة، وروى عنه إبراهيم النخعي، والشعبي، وسلمة ابن كهيل، وخلق.
وقال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة والأسود.
قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وستين، وقال أبو نعيم: سنة إحدى وستين، قيل: عن تسعين سنة.
٢ - مسروق
مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة، روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وطائفة. وروى عنه زوجته قمير، وأبو وائل، والشعبي، وخلق، وأرسل عنه مكحول.
قال أبو إسحاق: حج مسروق فما نام إلا ساجدًا على وجهه.
وقال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر.
وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله.
وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وستين.

صفحة رقم 252

٣ - عامر الشعبي
عامر بن شراحبيل الحميري الشعبي أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر، روى عنه وعن علي، وابن مسعود، ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة، وعائشة، وجرير، وابن عَبَّاسٍ وخلق.
قال: أدركت خمسمائة من الصحابة.
وروى عنه ابن سيرين، والأعمش، وشعبة، وجابر الجعفي، وخلق.
قال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي.
وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح.
وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول: ابن عَبَّاسٍ في زمانه، والشعبي في زمانه.
وقال يحيى بن بكير: توفي سنة ثلاث ومائة.
٤ - الحسن البصري
الحسن بن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر أو زيد بن ثابت، أبو سعيد الإمام، أحد أئمة الهدى والسنة، رمي بالقدر، ولا يصح، روى عن جندب ابن عبد اللَّه، وأنس، وعبد الرحمن بن سمرة، ومعقل بن يسار، وأبي بكرة، وسمرة.
قال سعيد: لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة، وروى عنه أيوب، وحميد، ويونس، وقتادة، ومطر الوراق، وخلائق.
قال ابن سعد: كان عالمًا جامعًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا، ما أرسله فليس بحجة، وكان الحسن شجاعًا من أشجع أهل زمانه، وكان عرض زنده شبر.
قال ابن علية: مات سنة عشر ومائة، قيل: ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: " قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " وجدت له أصلا مليًّا خلاف أربعة أحاديث.
٥ - قتادة
قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق، وروى عنه أيوب،

صفحة رقم 253

وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة، قال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة.
وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس.
وقال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد.
قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشر ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح.
٦ - الأسود بن يزيد
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي، مخضرم فقيه، روى عن ابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي، وابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمارة بن عمير، وطائفة.
وثقه ابن معين والناس، قال إبراهيم: كان يختم في كل ليلتين، وروي أنه حج ثمانين حجة. توفي سنة أربع أو خمس وسبعين.
٧ - مرة الهمداني
مرة بن شراحيل الهمداني، أبو إسماعيل الكوفي العابد، مرة الطيب، ومرة الخير، روى عن أبي بكر وعمر وجماعة. وروى عنه الشعبي، وطلحة بن مصرف، وطائفة.
وثقه ابن معين، وقال الحارث الغنوي: سجد حتى أكل التراب جبهته.
قال ابن سعد: توفي بعد الجماجم.
وقيل: سنة ست وسبعين.
ومن خلال دراسة المدارس الثلاثة الرئيسية يمكننا القول بأنها تقوم في مجملها على الرواية، وأن التفسير بالرأي لم يكن سائدًا في هذه المرحلة المبكرة، غير أن الذين جاءوا من بعد توسعوا في التفسير بالرأي؛ بناء على البذور التي بذرها أعلام هذه المدارس من التفسير بالرأي، وبخاصة مدرسة العراق التي كانت أوسع المدارس التفسيرية اتجاهًا إلى الرأي واستخدام العقل في التفسير.
ولقد كان لهذه المدارس دور مؤثر في نشأة التفسير وتطويره ونشره، مما كان له أبعد الأثر على هذا العلم في العصور التالية، وما زلنا حتى اليوم نغترف من فيض أعلام هذه المدارس.

صفحة رقم 254

الفصل الثالث
المناهج التفسيرية بين القديم والحديث
لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم -فيما نقله الزركشي- على شروط كثيرة لابد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم أجملوها في أربعة شروط هي:
أولًا: الأخذ بما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أحاديث في التفسير.
ثانيًا: الأخذ بقول الصحابي، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه: كالأمور الغيبية، والناسخ والمنسوخ.
ثالثًا: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي، أو إلى غير مرادها.
رابعًا: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع.
واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث سادت العالم مناهج جديدة، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي - ظهرت مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهمًا عصريًّا، متبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم -وخاصة الغربية- على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره.
وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية؛ لأنها -حسب رأيها- تمثل فترة زمنية معينة، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة، مثل المنهج التاريخي، والمنهج البنيوي، والمنهج الجدلي وغيرها.
وفي هذا الفصل محاولة لدراسة أهم مناهج التفسير في القديم والحديث، وبيان أهم ما يميز هذه المناهج وما يعتورها من قصور، وذلك على النحو التالي:
أولا: مناهج التفسير في القديم
بعد التابعين، وقيام المدارس التفسيرية، ظهرت مؤلفات في التفسير مستقلة؛ حيث

صفحة رقم 255

كان التفسير من قبل جزءًا من الحديث، وكان التفسير يقوم على الأسانيد، فجاء مفسرون كثيرون في حوالي القرن الخامس الهجري فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال من غير أن يعزوها إلى قائليها، ومن ثم كثر الدخيل في التفسير، ثم إن التفسير غلب عليه التأويل والتفسير الاجتهادي لعلماء برعوا في بعض العلوم، وبرزوا فيها، ومنهم من هم من أهل السنة والجماعة، ومنهم من هم من أهل الزيغ والابتداع، فصار كل واحد منهم يميل بالتفسير إلى إبراز ما برع فيه، فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وذكر الأوجه المحتملة في الآية، والإخباري ليس له هم إلا ذكر القصص واستيفاؤها عمن مضى من الأنبياء والأمم والملوك، وذكر ما يتعلق بالنقد والملاحم وأحوال الآخرة، والفقيه يكاد يسرد فيه مسائل الفقه جميعها، وكثيرًا ما يستطرد إلى إقامة الأدلة، وبيان منشأ الخلاف إلى غير ذلك مما لا تعلق له بالآية، وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها، ويخرج من شيء إلى شيء، ويستطرد ثم يستطرد حتى ينسى الإنسان أنه في كتاب تفسير، ويخيل إليه أنه يقرأ كتابًا من كتب الكلام، وأصحاب المذاهب المبتدعة قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم كالشيعة والمعتزلة والباطنية والروافض وغيرهم.
ورغم هذا التعدد في الاتجاهات حول تفسير القرآن الكريم فإنه يمكننا أن نقول: إن مناهج التفسير القديمة تذهب في اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور.
والاتجاه الثاني: منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي.
والاتجاه الثالث: التفسير الإرشادي وغرائب التفسير.
وفي الصفحات التالية نلقي الضوء على هذه المناهج، ببيان أهم ما يميز كل منهج ومميزاته، وأوجه القصور فيه.
١ - منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور
التفسير بالمأثور هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانًا لمراد اللَّه تعالى من كتابه، فالتفسير بالمأثور إما أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة النبوية، أو تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة، وبعضهم أدرج في التفسير بالمأثور

صفحة رقم 256

أقوال التابعين.
يقول الدكتور الذهبي: وإنَّمَا أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين -وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي- لأنا وجدنا كتب التفسير بالمأثور: كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذكر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روي عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.
وعلى هذا، فمصادر التفسير بالمأثور أربعة: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين.
المصدر الأول: القرآن الكريم:
يطلب تفسير القرآن العظيم أول ما يطلب من القرآن نفسه فحيثما ظفرنا بطلبنا في ذلك من القرآن لم يجز أن نعدل عنه إلى غيره بوجه من الوجوه؛ وذلك لأمور أربعة كلها من البدهيات المسلمة من كافة من يعتبرون من أهل الإيمان، بل من العقلاء.
أحدها: أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وأن خير من يفسر القول بالتالي هو قائله بنفسه.
ثانيها: أن من المعلوم من الدِّين بالضرورة أن القرآن هو المصدر الأول والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها بنيان شريعة الإسلام، بحيث لا يمكن أن يتم الإيمان بهذه الشريعة إلا بعد الأخذ بمحتوى هذا المصدر والإذعان لجميعه جملة وتفصيلاً.
وثالثها: أن ذلك ولا ريب هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته تعالى فيما تنازعنا فيه فضلا عما اتفقنا عليه من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
رابعها: كون القرآن كلام رب العالمين أفضل كل قول وأحسن كل حديث؛ فلا يعدل عن الأفضل ما أمكن إلى المفضول، وأنه معجزة بجملته وتفصيله بلفظه ومعناه، بهدفه وغايته إلى غير ذلك من عظيم خصائصه وكريم فضائله، فكيف يدعه العاقل إلى ما دونه في جميع ذلك؟!
لجميع هذه الأسباب وغيرها رأينا أهل الحق لا يطلبون تفسير القرآن من غيره ما

صفحة رقم 257

أتيحت لهم سبيل إلى نيل بغيتهم منه، ومما لا ريب فيه أن الناظر في كتاب اللَّه تعالى يجد فيه ألوانًا شتى من تفسير بعضه لبعض، فقد نرى ما أوجز منه في مكان قد بسط في مكان آخر كما ترى منه العام الذي جاء فيه تخصيصه، والمطلق الذي وقع فيه تقييده، والمجمل الذي حصل فيه بيانه، والمبهم الذي ذكر فيه تفسيره.
هذا، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة نماذج لتفسير القرآن بالقرآن، وغيرها كثير يعلم بالتدبر في كتاب اللَّه.
المصدر الثاني: السنة المطهرة:
سبقت الإشارة إلى أنه إن لم يتهيأ ننا الظفر بالبغية في القرآن اتجهنا مباشرة -كما فعل السلف- إلى السنة الصالحة للحجية، أي: الثابتة بطريق صحيح أو حسن، لا يقدم في ذلك غيرها عليها بحال من الأحوال، انطلاقًا من المسلمات الأربع التي سبق أن ذكرناها.
المصدر الثالث: أقوال الصحابة:
إن أعيانا البيان من القرآن الكريم وثابت السنة المطهرة تطلبناه في أقوال الصحابة عليهم الرضوان، وقد أطلق الحاكم في المستدرك: أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك: " ليعلم طالب الحديث أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل -عند الشيخين- حديث مسند ".
ولكن قيد ابن الصلاح والنووي وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول، وما لا مجال للرأي فيه، قال ابن الصلاح في مقدمته: " ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا مدخل للرأي فيه؛ كقول جابر - رضي الله عنه -: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...)، الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التي

صفحة رقم 258

لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمعدودة في الموقوفات ".
والحق أن قول الصحابي يكون في حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قوله فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن قائله معروفًا بالأخذ عن بني إسرائيل، أو كان ولكن مرويه مما لا صلة له بما لدى بني إسرائيل، فالواجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالمرفوع بلا أدنى فرق؛ انطلاقًا في ذلك من عين المسلمات الأربع التي ينطلق أهل الحق في أخذهم بالمرفوع منها.
فإن لم يتوفر الثابت من مأثور الصحابة بأن اختل فيه الشرطان الآنفان أحدهما أو كلاهما، لم يخل أمر ذلك المأثور عندهم من إحدى أحوال أربع:
أولاها: أن يعرف كونه محلاًّ لإجماع الصحابة وأنه لم يشذ عن القول به أحد منهم.
الثانية: أن يعرف كونه مجالاً لاختلافهم اختلافًا تضل معه الفكرة، ولا يُهتدى فيه إلى الصواب في غالب الظن.
الثالثة: أن يكون كسابقه ولكن مع تبين وجه الصواب منه وترجحه في غالب الظن.
الرابعة: ألا يعرف فيه إجماع منهم ولا اختلاف، وإنما غاية الأمر فيه أنه أثر عن الواحد أو الاثنين مثلا دون أن يبلغنا عن أحد من الصحابة ما يخالفه أو ما يوافقه.
فإن كانت الحال الأولى فيما ثبت من مأثور الصحابة، وجب عند القوم الأخذ بمقتضاه كسوابقه من الكتاب والسنة المرفوعة وما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوالهم في تفسير القرآن المجيد؛ لأجل الإجماع؛ انطلاقًا في ذلك من مسألتين اثنتين:
أولاهما: ما اشتهر واستفيض عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عصمة أمته -أي: في كل عصر من عصورها- من أن تجتمع على خطأ أو ضلالة.
الثانية: أن الإجماع كما هو معلوم لابد أن يكون له مستند من الكتاب أو السنة الصالحة للحجية، فالأخذ بالمجمع عليه إذن هو أخذ في ذات الوقت بمستند الإجماع، وانطلاقًا من عين المسلمات المناسبة له، أعني: أنه إن كان مستند إجماع الصحابة هو الكتاب، فالأخذ بمقتضى إجماعهم حينئذ فوق كونه انطلاقًا من المسلمة السابقة هو في ذات الوقت

صفحة رقم 259

أخذ كذلك بمقتضى الكتاب وانطلاق من عين المسلمات الني أسلفنا لك عند القول فيه، وهكذا فقل في السنة على ما هو في غاية الظهور، فهذه هي الحال الأولى لما ليس له حكم المرفوع من مأثور الصحابة، عليهم الرضوان.
وأما الحال الثانية لذلك وهي: أن يقع منهم الاختلاف فيه على وجه لا يتبين معه الصواب في قوله هذا أو ذاك، فإن أهل السنة لا يلتفتون إلى مأثور الصحابة في مثل هذه الحال؛ لعدم الجدوى بالكلية فيما لا يتبين وجه الصواب فيه كما هو جلي.
وأما الحالان الباقيان لذلك بألا يصل اختلافهم فيه إلى خفاء وجه الصواب منه، أو يثبت عن أحدهم الأثر دون أن يعرف إجماع منهم عليه ولا اختلاف فيه - فإنه يترجح عند أهل السنة في هاتين الحالين الأخذ بمقتضى مأثور الصحابة في تفسيرهم؛ انطلاقًا منهم في ذلك -أيضًا- من مسلمات ثلاث:
إحداها: أن هَؤُلَاءِ الصحابة ينبغي أن يكونوا خير الناس معرفة بهذا التنزيل المجيد من جهة أن أكثرهم عرب خلص؛ فينبغي التحاكم إليهم فيما هو بلسانهم عربي مبين غير ذي عوج.
الثانية: أن أكثرهم كذلك حضروا الوحي، وشهدوا وقائع التنزيل فينبغي أن ينتهي الأمر إليهم فيما يمكن أن يكونوا قد حضروه، وشهدوا وقائعه.
الثالثة: أن لهم فوق هذا كله من الفهم التام والعلم الصحيح ما ليس لسواهم، فهم أحق إذن أن يؤخذ بفهمهم وعلمهم.
ومن هذا يتبين:
أولاً: تفسير الصحابي له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأي فيه مجال، أما ما يكون للرأي فيه مجال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثانيًا: ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقًا، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.
ثالثًا: ما حكم عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء:
فذهب فريق: إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به؛ لأنه لما

صفحة رقم 260

لم يرفعه، علم أنه اجتهد فيه، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لظن سماعهم له من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب؛ لأنهم أدرى الناس بكتاب اللَّه؛ إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهم.
قال الزركشي في البرهان: " اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول: إما أن يرد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو الصحابة، أو رءوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي: فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه.....
وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولاسيما علماؤهم وكبراؤهم: كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنهم ".
المصدر الرابع: قول التابعي:
اختلف العلماء في تفسير التابعي:
فذهب بعض العلماء إلى أنه من المأثور؛ لأنه تلقاه من الصحابة غالبًا.
ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي، أي: له حكم بقية المفسرين الذين فسروا حسب قواعد اللغة العربية دون التزام بالمأثور.
والخلاصة في هذا الخلاف: أنه إن ثبت عن التابعين فيه -أي التفسير- شيء: فإن

صفحة رقم 261

أجمعوا عليه أخذوا به؛ لأجل الإجماع: انطلاقًا في ذلك من عين المسلمتين اللتين ذكرناهما بالنسبة لإجماع الصحابة بل قل ذلك بالنسبة لكل إجماع أيضًا.
فإن لم يكن إجماع فإنه ينظر: فإن توفر في قول أحدهم شرطان:
أحدهما: أن يكون له حكم المرفوع المرسل بأن كان فيما ليس للرأي فيه مجال، ولم يكن قائله كذلك معروفًا بالأخذ عن الإسرائيليات.
وثانيهما: أن يكون إمامًا من أئمة التفسير الآخذين لتفسيرهم عن الصحابة: كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، أو يتأيد قوله بمرسل آخر مثلهم أو نحو ذلك.
نقول: إن توفر في قول التابعي هذان الشرطان يترجح عند القوم الأخذ به.
وقد ذهب أكثر المفسرين: إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلا يقول: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا.
ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.
والذي تميل إليه النفس: هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه؛ بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.
قال ابن تيمية: قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
هذا هو الأصل في التفسير بالمأثور، وما تحرر منه سبعة أمور:
أولها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالقرآن.

صفحة رقم 262

ثانيها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالسنة الصالحة للحجية.
ثالثها: ما كان تفسيرًا بما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوال الصحابة، عليهم الرضوان.
رابعًا: ما كان تفسيرًا للقرآن بما أجمع عليه الصحابة أو التابعون.
وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها والتعويل عليها على هذا الترتيب، الذي وقفناك عليه، لكن بشرط ألا يتعارض أي منها تعارضًا حقيقيًّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي، فإن وقع مثل ذلك التعارض وجب تأويل المنقول وطرح ظاهره لأجل المعقول في جميع هذه الألوان.
خامسها: ما اختلف فيه الصحابة اختلافًا لا يخفى معه وجه الصواب.
سادسها: ما لم يعرف فيه من مأثور الصحابة كذلك إجماع ولا اختلاف.
سابعها: ما كان له حكم المرفوع المرسل من مأثور التابعين، واعتضد مع ذلك بمرسل آخر أو نحوه من شاهد أو تابع، أو تحقق في قائله شرط الإمامة والأخذ لأغلب تفسيره عن الصحابة.
وهذه الثلاثة الأخيرة يترجح عند القوم الأخذ بها في التفسير ترجحًا فحسب، لكن يشترط ألا تتعارض مع معقول ولو ظنيًّا، وإلا طرحت بالكلية، أو طرحت ظواهرها على أقل تقدير لأجل المعقول أيضًا.
هذا: وقد تدرج التفسير بالمأثور في دورين: دور الرواية، ودور التدوين.
أما في دور الرواية، فإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدِّينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على اللَّه بأنه عنى باللفظ كذا.
ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير، فروى ما تجمع لديه من ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

صفحة رقم 263

وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دور التدوين -وهو ما يعنينا في هذا البحث- فكان أول ما دون في التفسير، هو التفسير بالمأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا، وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون -على عادتهم- وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير -بمعنى جامعه لا مدونه- الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة.
وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلاً منظمًا، ولم يفرد بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتآليف خاصة؛ فكان أول ما عرف لنا من ذلك تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ، ثم وجد بعد ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها مُحَمَّد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وجدت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وتابعيهم: كتفسير ابن جرير الطبري، ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته -وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد- توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقًا به.
كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودًا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته -ممن أفردوا التفسير بالتأليف- رجال من المحدثين بوبوا للتفسير بابًا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.
ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل؛ مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها؛ لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو

صفحة رقم 264

كثير في التفسير.
ومن المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصًّا من النصوص، يتلون هذا النص بتفسيره إياه، وينطبع بطابعه الخاص، وفق قدرته الفكرية، وسعة اطلاعه وأفقه العقلي غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير، إن ظهر جليًّا واضحًا في كتب التفسير بالرأي، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور.
أسباب ضعف الرواية بالمأثور:
ذكرنا فيما تقدم أن تفسير بعض القرآن ببعض، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لاشك في قبوله، ولا خلاف في أنه من أعلى مراتب التفسير.
وأما تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه: أولها: ما دسَّه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس، فقد أرادوا هدم هذا الدِّين المتين عن طريق الدس والوضع، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة، وعن طريق الدليل والحجة.
ثانيها: ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجًا لتطرفهم: كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء، ومثل أُولَئِكَ المتزلفين للعباسيين فنسبوا إلى ابن عَبَّاسٍ ما لم تصح نسبته إليه، تملقا واستدرارا لدنياهم.
ثالثها: اختلاط الصحيح بغير الصحيح، ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر؛ مما أدى إلى التباس الحق بالباطل.
زد على ذلك أن هناك من يرى رأيًا يعتمده دون أن يذكر له سندًا، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلاً، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية، ولا من يرجع إليه القول.
رابعها: أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات، ومنها كثير من الخرافات التي تصادم العقيدة الإسلامية، والتي قام الدليل على بطلانها، وهي مما دخل على المسلمين من أهل الكتاب.

صفحة رقم 265

وكلمة الإنصاف في التفسير بالمأثور أنه نوعان:
أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله، وهذا لا يليق بأحد رده، ولا يجوز إهماله وإغفاله، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدْي القرآن، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.
ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها، وهذا يجب رده، ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه، حتى لا يغتر به أحد.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أهم كتب التفسير بالمأثور، فقد دونت مؤلفات كثيرة تفسر القرآن بالمأثور، منها:
تفسير الطبري، وتفسير أبي الليث السمرقندي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وتفسير ابن كثير، وتفسير البغوي، وغيرها.
* * *

صفحة رقم 266

٢ - منهج التفسير بالرأي
بعد أن تحدثنا عن منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور وضوابطه، ننتقل إلى منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي (الاجتهاد) أو التفسير بالمعقول.
وقد عرف الدكتور الذهبي التفسير بالرأي فقال: يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه أصحاب الرأي، أي: أصحاب القياس.
والمراد بالرأي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي: عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر.
والناظر في هذا التعريف يجده -على حد قول المناطقة- غير جامع، وغير مانع؛ ذلك أن التفسير بالرأي أوسع دائرة مما ذكر الدكتور الذهبي؛ إذ هو قسمان: محمود ومذموم، وهو ذكر المحمود دون المذموم.
ومن ثم فإن تعريف التفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم بمطلق الاجتهاد، سواء توافر لهذا الاجتهاد شرطه أم لا، أو أن يكون مصحوبا بحسن قصد أم لا، إلى آخر ما هنالك من الاحتمالات التي تعتور الاجتهاد.
موقف العلماء من التفسير بالرأي:
اتفق العلماء المخلصون على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام، بل كفر صريح إن تعمد فاعله سوء القصد؛ لأنه كذب متعمد على اللَّه تعالى وحكم عليه بما يعلم صاحبه أنه خلاف مراده تعالى، ولا نحسب أن أحدًا من أهل الإسلام يمكن أن يمتري في هذه القضية.
وإنما وقع الخلاف بين العلماء في أنه: هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذمومًا، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ، أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟
ذكر الدكتور الذهبي الخلاف فقال: اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير

صفحة رقم 267

القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين:
فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي اللَّه عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسًا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده.
ثم يقول: " ولو رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المتشددين في التفسير، وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المجوزين للتفسير بالرأي، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلاً دقيقا - يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي.
ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله: الرأي ضربان:
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما؛ لأمور:
أحدها: أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، فذلك غير ممكن؛ فلابد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مبينا ذلك كله بالتوقيف.
فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه - عليه السلام - لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث؛ أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول

صفحة رقم 268

بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلاً.
ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل فاللازم عنه مثله.
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذموما في القياس -أيضًا- لأنه تقول على الله بغير برهان؛ فيرجع إلى الكذب على اللَّه تعالى، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء؛ كما روي عن ابن مسعود: ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب اللَّه وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم التبدع، وإياكم التنطع وعليكم بالعتيق.
وعن عمر بن الخطاب: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غيره تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه.
وعن عمر -أيضًا-: ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله.
وليس الأمر على ما ذهب إليه الدكتور الذهبي ومن وافقه، فالخلاف على حقيقته؛ ذلك أن ما ذكره القاسمي يتجه إلى قسمين متضادين من الرأي: قسم محمود، وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، وقسم مذموم وهو غير الجاري على موافقة كلام العربية وغير الجاري على الأدلة الشرعية.
فهذا الرأي المذموم من غير إشكال ممنوع ومحرم. وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في النوع الأول المحمود.
ويعضد هذا ما ساقه أحد الباحثين من أمور أربعة:
أحدها: أن مسألة الرأي الفاسد المبني على الهوى والتشهي والفاقد لتحقق شرط
الاجتهاد وتوفر ملكاته مما يعلم لكل أحد بالضرورة -ولو كان من أصاغر عوام المسلمين

صفحة رقم 269

فضلاً عن أكابر خواصهم وعلمائهم- ضرورة امتناعه فيبعد جدَّا بل لا يكاد يتصور أن ينفرد المانعون فيما نحن بصدده هنا بإقامة الأدلة على امتناع هذا الرأي المذموم.
وكذلك يبعد أن يخفى أمر ذلك على المجيزين حتى يشتغلوا بنقض أدلة هَؤُلَاءِ ثم معارضتها بما يثبت نقيضها على ما سترى إن شاء اللَّه تعالى، كيف والكل يشتركون ويتفقون على امتناع الرأي المذموم كما قلنا.
ثانيها: أنا لا ندري كيف ظهر للدكتور الذهبي ما خفي على كافة فحول العلماء من قبله حتى عدوا الخلاف بين الفريقين حقيقيًّا وأوردوه جميعا في كتبهم على هذا النحو واشتغلوا ببيان وجه الحق فيه.
ثالثها: أن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة أبين صراحة في قصد كل تفسير بالرأي، ناصة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب إلى آخر ذلك، فليس له أن يفسر القرآن برأيه وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب.
رابعها: أن كلًّا من أدلة المانعين وردود المجيزين على هذه الأدلة ظاهرة أتم ظهور في أن قصد المانعين إنما هو التعميم لكل رأي، وأن قصد المجيزين هو إبطال ذلك التعميم بإثبات التخصص على حد ما هو معلوم لدى المناطقة وأهل آداب البحث والمناظرة عن كون مناقصة السلب الكلي هي بالإيجاب الجزئي كذلك فكيف كان يصلح من هَؤُلَاءِ المانعين هذا التعميم لو أن قصدهم بالفعل هو إرادة التخصيص بالرأي الفاسد.
ويهمنا في هذا المقام دون خوض في عرض الخلاف بين المانعين والمجوزين أن نؤكد على ضعف القول بمنع تفسير القرآن بالرأي على الإطلاق، وأن ما ساقه أصحاب هذا القول لتعضيد قولهم ما هو إلا شبهات أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الحق عنده يدحض هذه الشبهات، ويكشف وجه الحق في المسألة، وهو أن تفسير القرآن بالرأي جائز بشروطه الضابطة.
فهناك أمور -ذكرها الزركشي- يجب استناد المفسر بالرأي إليها، فقال: " للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأولى: النقل عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

صفحة رقم 270

الثانية: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقًا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل ".
فمن فسر القرآن برأيه، أي: باجتهاده، ملتزمًا الوقوف عند هذه المآخذ معتمدًا عليها فيما يرى من معاني كتاب اللَّه، كان تفسيره سائغًا جائزًا خليقًا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها، كان تفسيره ساقطًا مرذولاً خليقًا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم ".
ثم إن هناك أمورًا أخرى فصل فيها القول الإمام السيوطي يجب أن يفعلها المفسر بالرأي، وأمورًا أخرى عليه أن يدعها، فقد قال السيوطي: قال العلماء: يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض، ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه.
وعليه مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات.
ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف ثم الاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب فيبدأ بالإعراب ثم بما يليق بالمعاني ثم البيان ثم البديع ثم يبين المعنى المراد ثم الاستنباط ثم الإشارات.
وقال الزركشي في أوائل البرهان: قد جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر أسباب النزول ووقع البحث في أنه أيهما أولى بالبداءة به بتقدم السبب على المسبب أو المناسبة؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول.

صفحة رقم 271

قال: والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كآية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة.
وقال في موضع آخر: جرت عادة المفسرين ممن ذكر فضائل القرآن أن يذكرها في أول كل سورة؛ لما فيها من الترغيب والحث على حفظها، إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها.
قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني: سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال: لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف، وكثيرا ما يقع في كتب التفسير " حكى اللَّه كذا " فينبغي تجنبه.
قال الإمام أبو نصر القشيري في المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال: " كلام الله محكي " ولا يقال: " حكى اللَّه "؛ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل.
وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار، وكثيرًا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف، وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين؛ نحو: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) (صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، وأشباه ذلك - أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدًا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك. انتهى.
وقال الزركشي في البرهان: ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز.
وقال في موضع آخر: على المفسر مراعاة مجازي الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف والقطع بعدم الترادف ما أمكن؛ فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد؛ ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد. انتهى.
وقال أبو حيان: كثيرًا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه ودلائل مسائل الفقه ودلائل أصول الدِّين وكل ذلك مقرر في تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.

صفحة رقم 272

وكذلك -أيضًا- ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب بينها وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير.
" وقال السيوطي في موضع آخر: وقال ابن النقيب: جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:
أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللَّه.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعًا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفًا.
الرابع: التفسير بأن مراد اللَّه كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
ثم قال: واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: علم لم يطلع اللَّه عليه أحدًا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعًا.
الثاني: ما أطلع اللَّه عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو لمن أذن له، قال: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من القسم الأول.
الثالث: علوم علمها اللَّه نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وهو أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمور الحشر والميعاد.
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان: قسم اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات.
وقسم اتفقوا عليه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية؛ لأن مبناها على الأقيسة.
وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه

صفحة رقم 273

واستخراجها لمن له أهلية.
ويمكن أن نستخلص من هذين النصين عدة أمور هي:
أولًا: مطابقة التفسير للمفسر مطابقة تامة، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق.
ثانيًا: حمل الكلام على ما يتعين أو يترجح على أقل تقدير أنه المعنى المراد منه حقيقيًّا كان ذلك المشي أو مجازيًّا، في التركيب كان المجاز أو في المفردات.
ثالثًا: مراعاة سياق الكلام -سوابقه ولواحقه- بحيث تتآخى وتترابط كافة أجزائه، ويأخذ أوله بحجزه، وفي ذلك لابد من تجلية المناسبات بين الآيات، بل بين السور كذلك.
رابعًا: تجلية سبب النزول، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل.
خامسًا: تحقيق القول أولاً في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة بالنص.
سادسًا: يجب على المفسر اجتناب الهجوم على التفسير من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم.
سابعًا: اجتناب الخوض في بيان ما استأثر اللَّه بعلمه.
ثامنًا: اجتناب الهوى والقول في القرآن بمجرد الاستحسان من غير برهان.
تاسعًا: عدم القطع بأن مراد اللَّه من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع.
هذا، ويحتاج المفسر بالرأي إلى خمسة عشر علمًا عددها السيوطي في مجموعات هي:
المجموعة الأولى: علوم اللغة وما يتعلق بالنحو والصرف والاشتقاق، وهو ضروري للمفسر؛ إذ كيف يمكن فهم الآية بدون معرفة المفردات والتراكيب، وهل باستطاعة أحد أن يفسر قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بدون أن يعرف المعنى اللغوي للإيلاء والتربص والفيء؟
ولهذا قال الإمام مالك: " لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب، يفسر كتاب اللَّه إلا

صفحة رقم 274

جعلته نكالاً ".
فعلم النحو ضروري للمفسر؛ لأن المعنى يتغير بتغير الحركات تغيرًا كبيرًا. وعلم الصرف والاشتقاق ضروريان -أيضًا- للمفسر؛ حتى لا يخبط الإنسان خبط عشواء.
المجموعة الثانية: علوم البلاغة " المعاني -البيان- البديع " وهي ضرورية لمن أراد تفسير الكتاب العزيز؛ لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.
المجموعة الثالثة: أصول الفقه، وأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة علم القراءات، وهي كلها مما يحتاج إليه المفسر بالرأي؛ حتى لا يخطئ الفهم، ولا تزل قدمه بسبب الجهل بهذه الأمور الضرورية.
وأخيرًا: علم الموهبة، ويقصد به العلم اللدني الرباني (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) الذي يورثه اللَّه تعالى لمن عمل بما علم، ويفتح قلبه لفهم أسراره، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، فهو ثمرة التقوى والإخلاص، ولا ينال هذا العلم من كان في قلبه بدعة أو كبر أو حب للدنيا أو ميل إلى المعاصي، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وما أجمل قول الشافعي رحمه اللَّه:

شكوت إلي وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور اللَّه لا يهدي لعاصي
قال السيوطي: " ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شيء ليس من قدرة الإنسان، وليس كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.
ثم قال: " علوم القرآن وما يستنبط منه بحر ولا ساحل له، فهذه العلوم التي ذكرناها هي كالآلة للمفسر، ولا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه ".

صفحة رقم 275

منهج المفسرين بالرأي:
قسم الشيخ مُحَمَّد عبده التفسير إلى مرتبتين: مرتبة عليا، ومرتبة دنيا.
ومن حاول المرتبة العليا من مراتب التفسير بالرأي، فعليه أن يأخذ حذره، وأن يتذرع بكل العلوم التي أشرنا إليها؛ ليكون قد أصاب المراد أو كاد، ووجب عليه أن ينهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي:
أولا: أن يطلب المعنى من القرآن، فإن لم يجده طلبه من السنة؛ لأنها شارحة للقرآن، فإن أعياه الطلب رجع إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله، فوق ما امتازوا به من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح، فإن عجز عن هذا كله ولم يظفر بشيء من تلك المراجع الأولى للتفسير، فيتبع طريق الاجتهاد والرأي.
ثانيًا: اتباع طريق الاجتهاد والعقل باتباع الخطوات الآتية:
الأولى: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعت في القرآن عن طريق استعمالات أهل اللغة من نحو وصرف واشتقاق، مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن.
الثانية: إرداف ذلك بالكلام عن التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه.
الثالثة: تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي؛ بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
الرابعة: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات يأخذ بعضها برقاب بعض.
الخامسة: ملاحظة أسباب النزول، فإن لسبب النزول دورًا كبيرًا في بيان المعنى المراد.
السادسة: مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام.
السابعة: مراعاة مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.
الثامنة: مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون، وعلم أحوال البشر، واختلاف أحوالهم: من ضعف وقوة، وعز وذل، وإيمان وكفر.

صفحة رقم 276

التاسعة: مطابقة التفسير لما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه وسيرته؛ لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.
العاشرة: رعاية قانون الترجيح والاحتمال، وذلك أن اللفظ قد يحتمل معنيين فصاعدا، فماذا يكون العمل؟
نقل السيوطي عن الزركشي في هذه المسألة قولا من أجمع الأقوال، فقال:
" قال الزركشي - رحمه اللَّه -: كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما في: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
ولو كانت في أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى.
وإن اتفقا في ذلك -أيضًا-: فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد: كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد اللَّه تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكمًا؟ أو بالأخف؟ أقوال.
وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما ".
ونستجلي الأمر بوضوح أكثر عند الرجوع إلى نص الزركشي الأصلي، ففي بيانه - رحمه اللَّه - لأقسام التفسير، وأنها أربعة أقسام، قال في القسم الرابع:
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه، فالمفسر ناقل والمؤول، مستنبط وذلك استنباط الأحكام

صفحة رقم 277

وبيان المجمل وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين، فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة علم إرادة اللغوية؛ نحو قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى؛ لأن الشرع ألزم.
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء، وهذا -أيضًا- على ضربين:
أحدهما: أن يتنافيا اجتماعًا، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء، حقيقة في الحيض والطهر، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه كان هو مراد اللَّه في حقه، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد اللَّه تعالى في حقه؛ لأنه نتيجة اجتهاده، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال: يأخذ بأعظمهما حكمًا ولا يبعد اطراد وجه ثالث، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.
الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعًا، فيجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما، وهذا -أيضًا- ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة.
الثاني: ألا تقتضي بطلانه، وهذا اختلف العلماء فيه.

صفحة رقم 278

فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادًا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر، بل يجوز أن يكون مرادًا -أيضًا- وإن لم يدل عليه دليل من خارج؛ لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه، وإن ترجح أحدهها بدليل من خارج.
ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكمًا من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر.
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ. المحتمل، واللَّه أعلم.
إذا تقرر ذلك فينزل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.
الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيها، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطًا، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول: يحتمل كذا، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند اللَّه.
وهذا القانون له نظائر أخرى غير ما ذكر الزركشي، منها:
أولًا: يجب حمل اللفظ إذا دار بين كونه حقيقة أو مجازًا مع الاحتمال على حقيقته.
ثانيًا: إذا دار الأمر في اللفظ بين جريانه على عمومه أو تخصيصه، فإنه يحمل على عمومه؛ لأن الأصل بقاء العموم.
ثالثًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركًا أو مفردًا فإنه يحمل على إفراده؛ كالنكاح فإنه مشترك بين الوطء وسببه الذي هو العقد فيحمل على الوطء دون العقد أو على العقد دون الوطء لا على الاشتراك.

صفحة رقم 279

رابعًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مضمرًا أو مستقلاً فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير.
خامسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدًا أو مطلقًا فإنه يحمل على إطلاقه.
سادسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون زائدًا أو متأصلاً فإنه يحمل على تأصيله.
سابعًا: إذا دار الأمر بين أن يكون اللفظ مؤخرًا أو مقدمًا فإنه يحمل على تقديمه.
ثامنًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مؤكدًا أو مؤسسًا فإنه يحمل على تأسيسه... وهكذا.
وبالجملة فإن على من فسر القرآن برأيه لكي يكون تفسيره محمودًا أن يتقن هذا القانون أيما إتقان، وبقدر ما يقع له من الانحراف عنه بقدر ما يكون تفسيره دخيلاً، والمعصوم من عصم اللَّه.
ويبقى أن نشير إلى بعض كتب التفسير بالرأي، وهي: تفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير أبي السعود، وتفسير النيسابوري، وتفسير الآلوسي، وتفسير الخطيب، وتفسير الخازن.
* * *

صفحة رقم 280

٣ - منهج التفسير الإشاري
يقصد بالتفسير الإشاري: تأويل القرآن على خلاف ظاهره؛ لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين باللَّه من أرباب، السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور اللَّه بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، وانقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة.
وقد وقع خلاف بين العلماء حول التفسير الإشاري: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان، ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغًا وضلالاً وانحرافًا عن دين اللَّه تبارك وتعالى.
والواقع أن الموضوع دقيق، يحتاج إلى بصيرة وروية وغوص في أعماق الحقيقة؛ ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية؛ فيكون ذلك زندقة وإلحادًا، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يحيط به بشر؛ لأنه كلام خالق القوى، وأن لكلامه تعالى مفاهيم وأسرارًا، ونكتًا ودقائق، وعجائب لا تنقضي، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء، وجانبوا به السفهاء ".
وإذا أردنا معرفة الحق في هذا الموضوع، فعلينا أن ننقل شيئًا من أقوال العلماء؛ فقد قال الزركشي: " كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)، إن المراد النفس، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه ".
وقال ابن الصلاح في فتاويه: " وجدت عند الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه

صفحة رقم 281

قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر ".
وقال النسفي في عقائده: " النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل إلحاد ".
وقال التفتازاني: " سميت الملاحدة باطنية؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية ".
قال: " وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فنهيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان " محض العرفان ".
ونص التفتازاني هذا واضح الدلالة في بيان الفرق بين التفسير الإشاري الذي لا ينكر متعاطيه ظواهر النصوص التي هي أدعى إلى فهم أسرار القرآن، وبين تفسير الباطنية الملاحدة الذين يريدون هدم الشريعة.
وينقل السيوطي عن ابن عطاء اللَّه تحديدًا للتفسير الإشاري، فقال: " اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام اللَّه وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح اللَّه قلبه، وقد جاء في الحديث " لكل آية ظهر وبطن ".
فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذه إحالة لكلام اللَّه وكلام رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن اللَّه ما ألهمهم ".
وأقول: هذا كلام الإنصاف، فقد وضع الحق في موضعه، وجمع بين النصوص الظاهرة والمعاني الخفية الواردة التي تشرق على قلب المؤمن العارف باللَّه، كما كان الحال مع الصديق وعمر، ولا عجب فاللَّه تعالى يعطي الحكمة من يشاء، ويضع الفهم

صفحة رقم 282

فيمن أراد، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن داود وسليمان في أمر عرض عليهما، فحكم كل واحد منهما بحكم يخالف الآخر، فيقول: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
ونستطيع القول: إن التفسير الإشاري لا يحكمه منهج معين، لكن له شروطًا لابد من توافرها حتى يكون تفسيرًا مقبولاً، وهي خمسة شروط كالآتي:
أولاً: عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم الكريم.
ثانيًا: ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.
ثالثًا: ألا يكون تأويلاً بعيدًا سخيفًا؛ كتفسير بعضهم قول اللَّه تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بجعل كلمة (لَمَعَ) ماضيًا، وكلمة (الْمُحْسِنِينَ) مفعوله، ومثل ذلك تفسير الباطنية لقوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) أي: أن الإمام عليًّا ووث النبي في علمه.
رابعًا: ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي، بل يكون له شاهد شرعي يؤيده.
خامسًا: ألا يكون فيه تشويه على أفهام الناس.
وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري، ويكون عند ذلك من قبيل التفسير بالهوى والرأي المنهي عنه.
وقبل أن نغادر إلى الحديث عن المنهج الحديث في التفسير، نشير إلى أبرز التفاسير الإشارية، وهي: تفسير النيسابوري، وتفسير روح المعاني للآلوسي، وتفسير التستري، وتفسير ابن عربي الفيلسوف، وليس ابن العربي الفقيه القرطبي.
وأخيرا أنوه بأمر مهم، وهو تحذير المسلمين من التفاسير الإشارية وعدم الاعتماد عليها دون التفاسير الأخرى، وهذا ما حذر منه الشيخ الزرقاني حين قال:
" لعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله، ما هو إلا سوانح وواردات، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح؛ فلم يتقيدوا بتكاليف

صفحة رقم 283

الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية: كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية، واتصلوا باللَّه اتصالاً أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا -لعمر اللَّه- هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام، كيما يهدموا التشريع من أصوله، ويأتوا بنيانه من قواعده: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ".
إذن يجب عدم الانسياق وراء الشطحات والتخييلات التي تخرج بالنص القرآني عن مراده ومعناه المتوخى، واللَّه أعلم.
هذه هي المناهج التفسيرية العامة التي اعتمدها القدماء واستخدموها في تفسيراتهم بدرجات متفاوتة، فقد اعتمد بعض المفسرين منهج التفسير بالمأثور، وبعضهم اعتمد منهج التفسير بالرأي، وبعضهم فسر القرآن تفسيرًا إشاريًّا، وبعضهم جمع بين منهجين أو أكثر، وكل مفسر -في النهاية- له منهجه الخاص الذي يستند إلى المنهج العام الذي ينتمي إليه، سواء كان منهج التفسير بالمأثور أو بالرأي أو الإشاري.
ثانيًا: منهج المدرسة الحديثة في التفسير:
تبين لنا من خلال ما سبق أن التفسير في القديم اعتمد عدة مناهج، فنشأ التفسير شرحًا للفظ غامض أو توضيحًا لمعنى بعيد، ثم تطور إلى تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي.
وفي عهد التقليد والجمود تأثر التفسير بثقافة المفسر، وليس ذلك عيبًا بذاته، ولكن العيب أن يتحول التفسير إلى كتاب في القواعد والإعراب، أو البلاغة والبيان، أو آراء الفرق والرد عليها.
قال السيد مُحَمَّد رشيد رضا في مقدمة تفسير المنار:
" كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية وهدايته السامية، فمنها ما شغله عن القرآن بمباحث الإعراب، وقواعد النحو، ونكت المعاني، ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتعصب

صفحة رقم 284

الفرق والمذاهب بعضها على بعض، ومنها ما يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها ".
ولما جاء عهد النهضة ظهر أعلام جددوا في علوم الأمة، فكانوا أساس نهضة الأمة ونهضة علومها، ومنها التفسير، فوجدنا: السيد جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه الإمام مُحَمَّد عبده، ومن بعدهما السيد مُحَمَّد رشيد رضا وسيد قطب وكان للأخيرين إسهام في مجال التفسير، أفاد منه المفسرون من بعدهما؛ حيث أعادا للتفسير نضارته وقوته وروحه، ولكنهما سارا في إطار المناهج المأثورة عن السلف في التفسير، وتجديدهما ليس في المنهج بقدر ما هو تجديد أملته روح العصر وتطورات الحياة إبان النهضة، ثم ثقافتهما وشخصيتهما الناقدة الممحصة.
وإذا كان جمال الدِّين الأفغاني وتلاميذه ومن على شاكلتهم حاولوا النهضة من خلال العودة بالأمة إلى منابعها الصافية مع مراعاة ظروف الحياة ومقتضيات واقعهم المعيش، سواء في علم التفسير أو غيره، فإن هناك مدرسة فكرية حديثة دعت إلى تبني منهجية جديدة تخالف نهج القدماء في تفسير القرآن الكريم، هذه المنهجية تدعو إلى أمرين:
الأول: تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية، بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الأولى.
الثاني: الأخذ بمناهج جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية، العالمية الإسلامية الثانية.
وقد حمل لواء هذه الدعوة مجموعة من الباحثين، أبرزهم:
١ - الدكتور مُحَمَّد شحرور في كتابه: " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " الذي حاول فيه تناول القرآن الكريم بمناهج وأدوات معاصرة، مثل: المنهج البنيوي، والمنهج الجدلي.
٢ - الدكتور مصطفى محمود في كتابه: " القرآن محاولة لفهم عصري "، وهو مجموعة مقالات تحمل آراء غريبة، وهي لا تتسم بالشمولية، حاول من خلالها تطبيق بعض النظريات العلمية على النص القرآني.

صفحة رقم 285

٣ - الأستاذ جمال البنا في كتابه: " نحو فقه جديد " الذي قسمه إلى بابين:
أ - منطلقات ومفاهيم.
ب - فهم الخطاب القرآني، قدم فيه الكاتب ما يراه فهما جديدًا للقرآن على أنه معجزة خالدة، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقي، وتصويره الفني، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية.
٤ - الأستاذ ماهر المنجد في كتابه: " الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن: دراسة نقدية "، وهو دراسة نقدية تحليلية لكتاب: الكتاب والقرآن لمُحَمَّد شحرور، حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التي سار عليها مُحَمَّد شحرور، وإظهار قصوره، والخلفية الفكرية التي استند إليها.
٥ - الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه: " الفرقان والقرآن " الذي حاول فيه تقديم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية، وتعرض فيه لمعظم الكتابات الحديثة في هذا الشأن بدءا من جمال الدِّين الأفغاني، وانتهاء بمُحَمَّد شحرور.
٦ - أبو القاسم حاج حمد في كتابيه: " العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية "، فلقد حاول فيهما الباحث تقديم منهجية جديدة ويمثلان -وبخاصة الكتاب الأول- أهم الخطوط الرئيسة للمنهج الجديد المقترح في تفسير القرآن الكريم.
وإذا أردنا التعرف على المدرسة الحديثة ومنهجها في التفسير فلابد من عرض المسائل الآتية:
المناهج الحديثة وأدوات المدرسة الحديثة في التفسير:
اعتمد أصحاب المدرسة الحديثة في تفسيرهم للقرآن الكريم على بعض المناهج الحديثة، أهمها ما يلي:
١ - المنهج التحليلي:
يزعم بعض أقطاب المدرسة الحديثة في التفسير أنهم يتميزون بالمنهج التحليلي عن القدماء، يقول أبو القاسم حاج في كتابه العالمية الإسلامية الثانية: " لماذا خصنا اللَّه في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولماذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر: لماذا نلجأ إلى الوحدة الناظمة في وقت لجئوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريًّا في عصرنا الراهن على معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى

صفحة رقم 286

الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي ".
ومن خلال هذا النص يتبين أن التحليل هو:
معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي.
والتحليل على هذا النحو مضر بفهم النص وتفسيره سواء كان نصًّا قرآنيَّا أو غيره، أشار إلى ذلك بعض النقاد الغربيين في حديثهم عن تطبيق منهج التحليل " ويسمونه التفكيك " في الشعر حيث إن النقاد الجدد في أمريكا أقاموا مماراساتهم النقدية على أساس الشكل العضوي، وهي الفكرة القائلة: إن للقصيدة وحدة شكلية تماثل وحدة الشكل الطبيعي، ولكن بدلًا من أن يكشف هَؤُلَاءِ النقاد في الشعر وحدة العالم الطبيعي وتلاحمها، فإنهم اكتشفوا معاني متعددة الأوجه، وفي نهاية المطاف تحول النقد الذي يبحث عن نقد للالتباس والتعدد في المعنى... إلى لغة ملتبسة مناقصة لفكرتهم الأصلية الكلية لوحدة الموضوع.
ومن خلال هذا الكلام نتبين أن فكرة معالجة الكثرة ارتدادًا إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها بإطارها الموضوعي، فكرة مستقاة من النقد الغربي، وهي فكرة منتقصة من قبل الغربيين أنفسهم، ذلك أنه كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة: " إن التفكيكية، كممارسة نقدية أدبية، تفكك النص لتكشف أن ما يبدو عملاً متناسقًا وبلا تناقضات، وهو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية، إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك، غير متناقض ومفهوم يمكن تفسيره بشكل واضح ".
٢ - المنهج البنيوي " الألسنية المعاصرة ":
والمنهج البنيوي: رؤية نقدية حديثة، تعد النص الأدبي تشكيلًا لغويًّا فنيًّا يتميز عن

صفحة رقم 287

اللغة العادية بكون المعاني المباشرة للغة تتحول فيه إلى رموز متعددة الدلالات.
وقد تبنت المدرسة الحديثة في التفسير هذا المنهج " فأخذت بتطبيق المنهج على نماذج من هذه الإشكاليات، ومن بينها -على سبيل المثال- ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم "، وذلك انطلاقًا من " أن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح ".
ولكن " إذا سلمنا بكفاءة المنهج البنيوي في تقديم تحليل منهجي علمي للغة، فمن الصعب التسليم بكفاءته في تحليل النصوص الأدبية وإنارتها وتحقيق المعنى.
إن البنيوية الأدبية، شأنها في ذلك شأن البنيوية اللغوية، تتبع منهجا معكوسًا عند مقاربتها للنص الأدبي، فالمنهج لا يبدأ بالجزئيات وتحليلها بغية الوصول إلى كليات أو أنظمة، ولكن يبدأ بالنظام الذي يحكم الإبداع في النوع؛ لينتقل إلى الدرجة الأدنى على سلم التحليل وهو نسق النص، ثم الوحدات التي تليها العناصر، وهي أصغر مكونات النص، وقد يسترجع الناقد البنيوي بعد ذلك خطواته متحركًا من أصغر العناصر تجاه النسق أو النظام العام ليقارن بين الخاص (النص) والعام (النظام)... والتحليل البنيوي على هذا الأساس، كما يقول بعض الرافضين للمنهج البنيوي، يشبه تسليط الأشعة السينية (أشعة) على الجسم لتصل إلى العظام متخطية بل متجاهلة لطبقات كثيرة قبل أن تصل إلى العظام.
وهناك شبه إجماع بين الرافضين للمنهج البنيوي، بل بعض البنيويين أنفسهم، على أن تطبيق النموذج اللغوي على النص الأدبي لا يحقق المعنى " فإذا كان هذا حال النص الأدبي عمومًا مع البنيوية، فما بالنا بالنص القرآني؟!.
٣ - المنهج التاريخي:
تبنى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة منهجًا ثالثًا هو المنهج التاريخي.

صفحة رقم 288

ويعنون به فهم التاريخ فهمًا إسلاميًّا، منطلقًا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم - عليه السلام - وإلى عصرنا الحاضر.
وأصحاب هذه المدرسة يأخذون في تفسيرهم القرآن الكريم بالغائية، ولكن يخالفون في الوقت نفسه منطق الفلاسفة الغائيين، فالغائية -عند أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة- وسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريًّا، فهم لا يقولون بالغاية المسبقة.
وقد نبه أبو القاسم حاج إلى أن " مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي، كما هو الحال في النظرة الغربية، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية، بدءًا بالشكل الفردي، ثم الشكل القومي، وانتهاء بالشكل العالمي، وبعبارة أوضح فإن هناك جدلاً بين الإنسان والكون، يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث: مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان، يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث: الطور العائلي، الطور القومي، الطور العالمي، وهي تماثل ثلاثية الخلق في الرحم ".
وبناء على تبني المدرسة الفكرية المعاصرة لهذه المناهج، يمكننا أن نبرز الآتي:
١ - ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع من حيث إن أسلوب الأولى يعتمد على " التحليل " عوضًا عن " التفسير "، وعلى " التبيين المنهجي " في إطار الوحدة القرآنية بطرح " الجزء " في إطار " الكل " عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.
ونقول: إن اعتماد هذه المدرسة " التحليل " دون " التفسير " لا يمكن أن يطبق تطبيقًا كاملاً في فهم القرآن الكريم؛ وذلك لأمور منها:
أولًا: المعنى اللغوي والاصطلاحي يؤكد ذلك؛ فالتحليل -في اللغة- من حل العقدة

صفحة رقم 289

يحلها حلاًّ، فتحها ونقضها فانحلت، والحل: حل العقدة.
والتحليل اصطلاحًا عكس التركيب، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه، فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلاً ماديًّا، وإذا تعلق بشيء ذهني سمي تحليلاً خياليًّا.
وينقسم من جهة أخرى إلى:
تحليل تجريبي، ويمر بثلاث مراحل: ملاحظة، تجربة، استقراء.
وتحليل عقلي أو رياضي، وهو يتألف من مجموعة قضايا، أولها القضية المراد إثباتها، وآخرها القضية المعلومة؛ بحيث إذا ذهبت من الأولى " أي القضية المراد إثباتها " إلى الأخيرة " أي القضية المعلومة " كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتي بعدها، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة صادقة مثلها.
فالمفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة، والقرآن ليس خاضعًا للتجربة.
والمفهوم الثاني يحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة؛ فإذا قلنا بهذا في حق القرآن، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة، ونستغله في نشر " أيديولوجياتنا " وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين.
وإذا اعتبرنا المنهج التحليلي الذي تنادي به المدرسة الحديثة هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية، فإن المدرسة التقليدية أولى بأن تنسب إلى هذا المنهج، فقد استخدمت ما سبق أن أشرنا إليه في الفصل الأول مما يسمى بالتفسير الموضوعي.
ثانيًا: تدعي المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تأخذ القرآن في وحدته الكلية، وأنها تتفوق بذلك على المدرسة التقليدية، وهو ادعاء يعوزه الدليل؛ لأن المدرسة التقليدية سعت في كل مراحلها إلى البحث عن الوحدة الكلية للقرآن الكريم، وأكبر دليل على ذلك تبنيها -كما سبق بيانه- مبدأ تفسير القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن بحث عن الوحدة الموضوعية في القرآن، وقد ألف العلماء الأقدمون مؤلفات بهذا الشأن، مثل:

صفحة رقم 290

" الأشباه والنظائر " لمقاتل بن سليمان البلخي، المتوفى سنة: ١٥٠ هـ، و " نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر " لابن الجوزي، المتوفى سنة: ٥٩٧ هـ، و " أحكام القرآن " لأبي بكر الجصاص المتوفى سنة: ٣٧٠ هـ، و " أحكام القرآن " لابن العربي المالكي، المتوفى سنة: ٥٤٣ هـ... وهكذا.
ثالثًا: زعم أصحاب المدرسة الحديثة أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح؛ بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها، فأطلقوا القول بمخالفة ألفاظ القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة؛ ومن ثم تقاعسوا في فهم اللغة وتحصيلها، وهم بذلك يبعدون عن منهج القدماء في تركيزهم على اللغة وضرورتها في التفسير، بل جعلوا إتقانها شرطًا لفهم كتاب اللَّه.
بل إنهم يبعدون -أيضًا- عن المنهج البنيوي الذي يزعمون تبنيه، متجاهلين ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة من أن هناك فرقًا بين اللسان، والكلام فاللسان -كما عرفه دوسوسير- " هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية، والكلام هو فعل فردي صادر عن الإرادة الفطنة ".
وعليه، فليس هناك فرق بين لسان القرآن " المفردات التي صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها "، واللسان العربي العادي " المفردات التي يستعملها العرب وقواعد تركيبها " قال اللَّه تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وقال سبحانه: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب، وإلا لكان حجة للعرب في أن اللَّه خاطبهم بغير لسانهم.
فالفرق ليس في اللسان -الألفاظ وقواعد تركيبها- المستعمل، وإنما الفرق في الكلام الذي " هو استعمال هذا البناء -اللسان- ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين "، ومن ثم نجد الحق تبارك وتعالى ينسب لنفسه الكلام، وينسب اللسان للعرب، فقال: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) " فالذي يحرف هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلغ ليغير معناه، ويبطل أثره المقصود به، أما تحريف اللسان فهو مسبة للمحرف وسلب عليه؛ لأنه حرف الرموز المتواضع عليها بين أُولَئِكَ المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم، فلم يعد يفهمه أحد

صفحة رقم 291

منهم ".
وأقول: إن الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات.
رابعًا: اخترقت المدرسة المعاصرة في التفسير الثوابت، فذهبت -مثلاً- إلى أن السنة تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم ما بعده من العصور، وهذا الاختراق مرفوض؛ لأنه يعرض الدِّين للتحلل من عقده، ويفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة.
وأقول: إن على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري، وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع؛ ذلك أنه - كما يقول سيد قطب رحمه اللَّه- " لكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره، وله كذلك محوره الذي يدور عليه المدار، وكذلك الحياة البشرية لابد لها من محور ثابت، وإلا انتهت إلى الفوضى والدمار ".
ولسنا بكل ما ذكرناه ننفي تبني المناهج التي تبنتها المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم جملة وتفصيلاً، فهذا إن فعلناه أصابنا الجمود والوقوف عند حد التقليد دون التجديد والإبداع، وهذا مخالف لما دعا إليه القرآن الكريم في كل المجالات، بل وفي مجال التعامل معه -أي مع القرآن- فقد قال اللَّه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، والتدبر يعني الفهم المتجدد؛ إذ لو كان التدبر يعني الوقوف عند فهم القدماء للقرآن، لما أمرنا اللَّه عز وعلا بتدبره، ولكان أمرنا باتباع أسلافنا وحسب؛ وهذا ينافيه طبيعة القرآن المتجددة.
إذن فإن هناك دعوة إلى التجديد في تفسير القرآن الكريم، وتجريب المناهج الحديثة، ولكن ذلك مضبوط بضوابطه التي منها:
أولًا: احترام الثوابت، وعدم هدمها.

صفحة رقم 292

ثانيًا: معرفة التراث واستيعابه استيعابًا يسمح بمعرفة مواطن القوة، فيؤخذ بها، ومواطن النقص لتفاديها.
ثالثًا: الاطلاع على العلوم والمناهج المعاصرة، شريطة ألا يكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة، بل استيعابها استيعابًا كاملاً، وشريطة إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفها التوظيف السليم، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التي عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله:
" إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة، فضلاً عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائياتها ".
وأخيرا أود القول: إننا لا ندعو إلى نبذ مناهج بعينها في تفسير القرآن الكريم، بل ندعو إلى تكامل المناهج، فنأخذ وندع من كل المناهج سواء أكانت قديمة أو حديثة، بشرط ألا ندع المسلمات جانبًا، وألا يؤثر ما نأخذه من منهج في توجيه المعنى القرآني وجهة تناقض مراد اللَّه المقصود.
نماذج من تفسير المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم:
لعلنا نورد بعض النماذج من تفسير أعلام المدرسة الفكرية المعاصرة لبعض آيات القرآن الكريم تبرز مدى تجاوز هَؤُلَاءِ القوم في تفسيراتهم، وأنها لا تقوم على أساس متين أو منهج قويم.
ومن تلك النماذج ما جاء في تفريق أبي القاسم حاج حمد بين اللمس والمس، وبين الرؤية والنظر والشهود.
فبالنسبة للتفريق بين اللمس والمس: يرى أبو القاسم حاج حمد أن " لمس " تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و " مسَّ " تعني التفاعل العقلي والوجداني؛ لذلك لم يمنع اللَّه لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم، فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩).
وهذا الفهم بعيد عن الصواب كل البعد؛ إذ إن استقراء آيات القرآن الكريم تؤكد أن

صفحة رقم 293

المس معناه الاحتكاك المادي، وليس الإحساس والوعي -كما زعم أبو القاسم حاج- ومن الآيات المعضدة لما ذهبنا إليه قول اللَّه تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)، فأي تفاعل عقلي مع النار في هذه الآية وأمثالها؛ وأي تفاعل عقلي في قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، وفي قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟ الحقيقة: أن المس هنا واضح بأنه احتكاك مادي، فمس النار للجسم حركة مادية، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويًّا، أي: بعد جماعها؛ لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر، ورأت أنه خلاف العادة.
وبالنسبة للتفريق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى أبو القاسم حاج أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية، وآلتها العين المجردة، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التي تعتمد على التأمل والإدراك، وآلتها العقل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، فقال: " وقد طلب موسى رؤية اللَّه عبر النظر، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر، والنظر يرتبط بالخيال والتأمل، وقوي الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) فالنظر عقلي والرؤية حسية؛ ولهذا قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣). فهنا يتعلق النظر إلى اللَّه بالوجوه، وليس العين المجردة التي ترى، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)؛ ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا، أي: تقليب الرأي فيها، ثم اتخاذ قرار قاطع، كمن يرى الأمر عياناً في حقيقته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢).
وكذلك ميز القرآن الكريم بين البصر والرؤية العينية، فالبصر إدراك (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨).

صفحة رقم 294

والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩).
وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين، وهكذا قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا، ثم استثنيت حالتان، مقيم مريض، وغير مقيم مسافر، ولم يطلب اللَّه في هذه الآية رؤية الشهر؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا)، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ)، فأن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالًّا حين توقيته، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون ".
هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود، وقد جانبه الصواب -أيضًا- كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية -أيضًا- وليس مقصورًا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف، والدليل على ذلك قول اللَّه تعالى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه.
وأما قصر الرؤية على الحس، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها " رأى " بمعنى علم، منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، ترى هل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاضرًا في واقعة الفيل مشاهدًا لها بأم عينه، أم أنها أمر غيبي أوحاه اللَّه إليه وعلمه إياه؟
إنه من غير شك أمر غيبي، والرؤية هنا ليست رؤية حسية، بل رؤية عقلية وجدانية.
وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرًا أمر في غاية الغرابة، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور، فماذا يقول في قول اللَّه تعالى: (شَهدَ

صفحة رقم 295

اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)، فهل شهد هنا بمعنى حضر؟ لا، بل شهد هنا بمعنى أقام الأدلة وبينها، وماذا يقول -أيضًا- في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)؛ فهل الشهود هنا يعني الحضور والمعاينة؟
ثم إن الآيات التي استشهد بها أبو القاسم حاج ليدلل بها على ما ذهب إليه تدل على خلاف ما أراد، فقول اللَّه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
فمادة (نظر) التي تكررت مرتين، في كل مرة منهما لا يمكن أن تدل إلا على الرؤية الحسية، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؛ ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه؛ مما لا يخفى على المبتدئ فضلًا عن العالم (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)، فالنظر هنا بالعين، وليس بالعقل، وإلا لبطل معنى الآية ".
وقول اللَّه تعالى الذي استدل به على أن الشهود بمعنى الحضور (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هو معنى قال به المفسرون قبله، فقد قال القرطبي: " وشهد بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي: قال: من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغًا صحيحًا مقيمًا فليصمه ".
ومعنى هذا أنه لم يأت بجديد، ولكن الجديد عنده والغريب في الوقت نفسه، حصر الشهود في معنى الحضور، وهو ما فندته قبل قليل.
ومُحَمَّد شحرور الذي تناول في كتابه " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل: المنهج البنيوي والمنهج الجدلي، له تفسيرات تقترب من التفسيرات السابقة، فمثلاً تجده ينكر الترادف، وهو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن، فيقول عند التفريق بين الحرام والاجتناب: " تبين لنا

صفحة رقم 296

أن من قال: إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق؛ لأن التحريم هو لحدود اللَّه، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).
وهذا القول يؤدي -كما يقول الجيلاني بن التوهامي مفتاح- إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتمًا إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال: " وإني أقول لهَؤُلَاءِ الناس، أيهما أكبر، أمن يشرب كأسًا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ).
ويقال لشحرور: أليس الشرك من أكبر الكبائر، وأعلى المنهيات حرمة، فلماذا عبر عنه الحق -تبارك وتعالى- بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وقال سبحانه أيضًا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
فعلى مذهب الدكتور شحرور يصبح الشرك باللَّه والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم، مثل: الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم.
يتبين لنا أن تفسير مُحَمَّد شحرور للحرام والاجتناب مجانب للصواب، مخالف للأصول الثابتة، مزلزل لقواعد القرآن وأصوله.
ومن تفسيراته -أيضًا- ما جاء في مسألة الخلق الآدمي، فقد انطلق -كما فعل كثير غيره من أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير- من نظرية دارون في التطور، فهو يرى أن آدم انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابًا، ولم يخلق ابتداء كما يرى التراثيون، ويرى شحرور أن خير من أول آيات خلق البشر هو (دارون)، ويعتمد نظريته في التطور ويوظفها في تفسير قول اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ).
وينقل ماهر المنجد في كتابه (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) عن شحرور قوله:

صفحة رقم 297

" أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر، وأن اللَّه نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي ".
ويدلل الدكتور شحرور على تفسيره بدليل يراه دامغًا، وهو " أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري؛ لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرًا، له شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم ".
ولا شك أن هذا لا يمثل براهين علمية، ولا أدلة عقلية، ولا علاقة له أصلاً بأي منهج علمي، إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية.
ثم إن تفسيره للآية أوهى من نسج العنكبوت؛ لأنه:
أولًا: بتر الآية، فالآية تقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وهي واضحة في أنها تدل على غير مراد الدكتور شحرور، وأن تفسيره لها غريب وبعيد كل البعد عن المراد منها؛ حيث إن اللَّه عطف نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على آدم، فهل كان هَؤُلَاءِ مصطفون من المملكة الحيوانية المسماة بالبشر مثل آدم كما زعم؟ فهذا لا يصدق على نوح وآل إبراهيم وآل عمران، ومن ثم فهو لا يصدق على آدم -أيضًا- فترجح ما ذكرناه وهو مخالف لما ادعاه الدكتور شحرور.
ثانيًا: تناسى المؤلف آيات كثيرة تدل على أن اللَّه - سبحانه - ابتدأ خلق آدم من العدم، وهو بقوله هذا يكذب صريح هذه الآيات، فاللَّه جل وعلا يقول: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ)، فالخلق يدل على الابتداء وأنه من العدم، فكيف يقال: إن آدم اصطفاه اللَّه من البشر.
ثالثًا: هل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ اللَّه فيه الروح؟ وهل القرود التي مثل بها ليس فيها روح؟ وكيف يعيش أي كائن حي بدون روح وبخاصة العائلة الحيوانية؟
والخلاصة أن أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة -على الرغم من زعمهم التذرع بالمنهج التحليلي الموضوعي- قد تناقضت مقدماتهم مع نتائجهم، واتسم تفسيرهم لبعض آيات القرآن بالتسرع وعدم الدقة والاستقصاء، ولعل ذلك راجع إلى رغبتهم الجامحة في تسويق مشروعهم الفكري حتى ولو كان على حساب ثوابت القرآن الكريم ومعطياته الدلالية والمضمونية والسياقية، أو على حساب المعنى الصحيح للآية المفسرة.

صفحة رقم 298

الباب الخامس
الماتريدي مفسِّرًا
ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: انتماء الماتريدي في التفسير.
الفصل الثاني: منهج الماتريدي في التفسير.
الفصل الثالث: بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة.
الفصل الرابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه.
الفصل الخامس: تأثير الماتريدي في لاحقيه.

صفحة رقم 299

الفصل الأول
انتماء الماتريدي التفسيري
ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم، فهناك: مدرسة التفسير بالمأثور، ومدرسة التفسير بالرأي، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هَؤُلَاءِ ولا إلى هَؤُلَاءِ، فيتخذون من النقل والعقل طريقًا للتفسير.
والنقل -كما سبقت الإشارة-: هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين، وأما العقل -كما سبق أيضًا-: فيعمل المفسر عقله في الآيات، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في: عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى -عند بعض المفسرين- إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق.
ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل، وتكسب عمله سنده ومشروعيته، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون؛ ضمانًا لهدايتهم، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرًا بعد عصر، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد، ويعطي المتأملين فيه، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة، وضمانًا وسندًا دائمين، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم، وفيها الغاية -كل الغاية- لكل عقل صحيح، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني، ويخاطب الأرواح، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق.
والماتريدي من هَؤُلَاءِ العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة، ومدرسة

صفحة رقم 301

أبي حنيفة تمثل -كما هو معروف- مدرسة الرأي، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي.
وأقول: إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلمًا أو فقيهًا فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرًا؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعًا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين.
وبيان ذلك: أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده، ليس في هذا التفسير فقط، بل في جميع مؤلفاته، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي، فالموقف العدل -عنده- هو التوسط بينهما، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية.
وليس موقف الوسط -كما يظن- توفيقًا بين الآراء، وأنه يخلو من الابتكار، بل هو قمة الابتكار؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل؛ فلابد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والأخبار وشروطها، وهذه هي أحكام النقل، ولابد -أيضًا- من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين.
وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرًا متميزًا، هذه الخصائص والسمات تتلخص في:
أولًا: استقلال الفكر:
كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين، بل يبحث عن الحقيقة، فلم يكن تابعًا لفكر معين، أو متعصبًا أو انفعاليًّا؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره.
والناظر في تفسيره -نظرة إجمالية- سوف تظهر له هذه الحقيقة، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانًا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما

صفحة رقم 302

يراها هو، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره، فعند قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، يقول: " سفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السماوات والأرض، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء، مع بعد ما بينهما، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية ".
فهنا يفسر الآية من عند نفسه، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها، فعند الآية نفسها يقول: " وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال الحسن: الظلمات والنور: الكفر والإيمان، وقال غيره من أهل التأويل: الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار، أبصار الوجوه وأبصار القلوب، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب، فالظلمة تجعل كل شيء مستورًا عليه، والنور يجعل كل شيء كان مستورًا ظاهرًا باديًا عليه، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة " ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل، بل يكتفي بعرضهما، وهو ما يدل على عدم تعصبه.
لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد، ففي الآية التي معنا، في عجزها والتي بعدها، يقول الماتريدي: " وقوله عز وجل: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، قيل: يشركون مع ما بيِّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته، أي: جعلوا كل ما يعبدونه دون اللَّه عديلاً لله، وأثبتوا المعادلة بينه وبين اللَّه تعالى، وليس لله تعالى عديل، ولا نديد، ولا شريك، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وقال الحسن: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي: يكذبون.
وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي: خلق آدم أبا البشر من طين، فأما خلق بني آدم من ماء، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) وأخبر اللَّه تعالى أنه خلق آدم من الطين، وخلق بني آدم سوى عيسى - عليه السلام - من النطفة، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من الطين ولا من الماء؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء، ولا ينكرون -أيضًا- إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابًا أو ماء، أو لا ذا ولا ذا،

صفحة رقم 303

فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا، فيكون دليلاً على منكري البعث بعد الموت، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم، واللَّه الهادي.
ويحتمل قوله تعالى. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيى بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا.
ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.
ويحتمل النسب إلى التراب، وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم ".
فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها؛ ليعطي القارئ تصورًا عامًّا حول القضية التي تطرحها الآية، فحول قضية الخلق، نجده -أولاً- يعرض لمراحل الخلق جميعًا، وإمكانياته الواقعة في خلق اللَّه من لدن آدم.
ونجده -ثانيًا- يبين الغرض من هذه المراحل، وهو غرض مزدوج؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة، وترد على الدهريين من جهة ثانية.
وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعًا، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية، وليبين لماذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين.
ثم إنه يعرض -ثالثًا- لاحتمال يدل على حس علمي شفيف، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب، وهذه لفتة علمية دقيقة، يؤكدها العلم في العصر الحاضر.
ثانيًا: النظرة الكلية للأشياء:
تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية، وقدرته على ربط الجزئيات

صفحة رقم 304

بالكليات، ورد الفروع إلى الأصول، وهي سمة ليست مقصورة على تفسيره فقط، بل تؤكدها تآليفه في الفقه وأصوله والتوحيد، وبخاصة أصول الفقه ذلك العلم الذي يقوم على ربط المسائل الفرعية بأصول الأحكام.
ثالثًا: اهتمامه بالمضمون:
ينزع الماتريدي في تفسيره إلى بيان المضمون الذي تنطوي عليه الآيات دون النظر إلى الألفاظ، وما يعتورها من نكات لغوية وبلاغية، وإذا عرج على ذلك فلخدمة المضمون وإبرازه، والنماذج السابقة دالة على ذلك.
وهذا يجعلنا نقرر سمة من سمات الماتريدي، وهي اهتمامه بربط عملية الفكر بعملية التطبيق والعمل، فالأفكار الذهنية لا قيمة لها بعيدة عن العمل والتطبيق؛ ولذلك في كثير من الأحيان كان يرفض تفصيلات لا طائل تحتها، ويذكر ذلك في صراحة أنه ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وهذا يفسر لنا اهتمامه في تفسيره لآيات القرآن الكريم بمعناها أكثر من اهتمامه بالشكل أو اللفظ، فالمهم عنده كشف المضمون ومرامي الآيات.
هذا، ولكي يبرز لنا انتماء الماتريدي التفسيري بوضوح أشد، نقف وقفة مع موقفه من طرائق التفسير المختلفة:
أولًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمأثور:
نعني بتفسير القرآن الكريم بالمأثور -كما سبقت الإشارة-: تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم، أو تفسيره بالسنة، أو تفسيره بالقراءات، أو تفسيره بأقوال الصحابة وأقوال التابعين.
ونتناول كل لون تفسيري من الألوان السابقة وموقف الماتريدي منه، كل واحد على حدة:
أ - تفسير القرآن بالقرآن:
يقوم الماتريدي بتفسير بعض آيات القرآن الكريم بآيات أخرى منه، ففي قوله تعالى من سُورَةُِ الأنعام: (يَعْلَمُ سِرَّكُم وَجَهْرَكُم) يقول:
" اختلف فيه؛ قيل: (يَعْلَمُ سِرَّكُم): ما تضمرون في القلوب، (وَجَهْرَكُم): ما تنطقون، (وَيَعْلَمُ مَا تكْسِبُونَ): من الأفعال التي عملت الجوارح؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه؛ ليحاسبهم على ذلك؛ كقوله: (وَإن تُبْدُوا مَا في أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخفُوهُ

صفحة رقم 305

يُحَاسِبكمُ بِهِ اللَّهُ)، أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف ".
ومن ذلك ما قاله عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) " قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليس وأعوانه، بما يروننا ولا نراهم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف كلفنا محاربته، وهو بحيث لا نراه، وهو يرانا، ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو من لا نقدر القيام على محاربته، وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه.
قيل: إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم؛ إذ لم يجعل له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكير، نحو قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب ".
لكن هناك ملاحظة يجب إثباتها هنا، وهي بارزة في النموذجين السابقين، وهي أن الماتريدي حين يفسر القرآن بالقرآن يسلك مسلكًا خاصًّا يخالف ما درج عليه سابقوه وحتى لاحقوه؛ ذلك أنه قبل أن يأتي بالآية المفسِّرة يقوم بتحليل الآية المفسَّرة، ثم يقول بعد التحليل: نحو قوله تعالى كذا. ثم إن الآية أو الآيات المفسِّرة قد تكون غير صريحة في الدلالة على الآية المفسَّرة، بقدر ما يقصد تحليله هو.
وإذا أردنا أن نتبين هذا الفارق بين الماتريدي وغيره من المفسرين يكفينا أن نفتح تفسيرًا واحدًا هو تفسير ابن كثير الذي يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، " قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ".

صفحة رقم 306

ونموذج آخر: ففي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، يقول الإمام ابن كثير: " لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) يعني يوم القيامة (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وقال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا ".
فإذا قارنا بين هذه النماذج سنجد أن الماتريدي يأتي بالآيات المفسِّرة ليعضد تحليله، صحيح أن هذه الآيات تدور في فلك الآية المفسرة، لكنها لا تتوجه إلى تفسير الآية المفسَّرة مباشرة، وتكون في معناها، أو تفصل إجمالها كما عند ابن كثير.
وهذا يدعونا إلى القول بأن الماتريدي كان من المجددين في الطريقة حتى مع اعتماده على تفسير القرآن بالقرآن.
وهنا ملاحظة يجدر إثباتها، وهو أنه بالرغم من أسبقية الماتريدي عن ابن كثير نجد طريقته في التفسير تتسم بالجدة بخلاف الأخير، فإن طريقته تكاد تدور في فلك طريقة أوائل المفسرين، ولسنا بذلك نعيب على ابن كثير طريقته، لكن نريد إثبات الفارق بينه وبين الماتريدي الذي يعتبر سابقًا إلى التجديد في التفسير حتى لكثير ممن جاء بعده.
ب - تفسير القرآن بالسنة:
لا يترك الماتريدي الاعتماد على السنة، لكن اعتماده عليها قليل إلى حد ما، وهو يأتي بالأحاديث المتوافقة والمفسرة للآية موضع الحديث، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يذكر بعض الأحاديث النبوية بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه ولا يرجع إلى نصوص الأحاديث أثناء تأويله.
ومن نماذج تفسيره بالحديث في السور محل التحقيق ما جاء عند تفسير قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، فبعدما فسر المقصود من سؤال موسى ربه الرؤية، وأخذ يعدد الأوجه المحتملة في الآية، قال: " لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرًا

صفحة رقم 307

ظاهرًا، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر "، واللَّه أعلم.
وأيضًا ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير خبر أنه قال: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون "، وسئل: هل رأيت ربك؟ فقال: " بقلبي قلبي "، فلم ينكر على السائل السؤال، وقد علم السائل أن رؤية القلب، إذ هي علم قد علمه، وأنه لم يسأل عن ذلك، وقد حذر المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء -وذلك كفر في الحقيقة عند قوم- ثم لا ينهاهم عن ذلك، ولا يوبخهم في ذلك، بل يليق القول في ذلك، ويرى أن ذلك ليس ببديع، واللَّه الموفق ".
ونلاحظ أن الماتريدي لا يكتفي بإيراد الحديث، بل يحلله ويوجهه، ويبين مراده، وفي هذا إثراء لمعنى الآية وبيان المقصود منها.
ونلاحظ -أيضًا- أن الماتريدي يكتفي بجزء من الحديث الدال على ما يريده؛ فمثلاً عند تفسيره قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، يستشهد بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كل مولود يولد على الفطرة " فلا يذكر إلا هذا الجزء من الحديث؛ وهو الجزء الدال على مراده.
وهو لا يكتفي بإيراد السنة القولية عند تفسيره القرآن الكريم، بل يأتي بالسنة الفعلية -أيضًا- فعند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ذكر أحاديث تمثل السنة القولية، وأحاديث تمثل السنة الفعلية، وأحاديث تمثلهما معًا، فقال: " الثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة، على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.

صفحة رقم 308

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في حال الخطبة... وذكر... أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.
روي عن أبي العالية قال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزلت: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) " فسكتوا ".
وعن علباء بن أحمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر " الواقعة، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: " من الذي ينازعني في هذه السورة؟ " فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه، فأنزل اللَّه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).
وزعم بعضهم أن القارئ خفية يسمى ناصتًا ومنصتًا، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق... " وغير ذلك من الدعوات، وغير ذلك من الروايات الدالة على اعتماد الماتريدي على السنة في تفسيره، وأنه لا يقتصر على نوع واحد من أنواع السنة، بل يستعين بكل أنواع السنة؛ القولية والفعلية.
ج - تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:
يعتمد الماتريدي في تفسيره على أقوال الصحابة والتابعين، ففي تفسير قول اللَّه تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، ينقل عن الصحابة والتابعين معًا، فيقول: " وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر، حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللَّه من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء.
ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال لله والرسول، فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت

صفحة رقم 309

سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللَّه أن يعطيهم منها، فقال: (قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لكم فيها شيء ".
ففي النص السابق ينقل عن الصحابة وينقل عن التابعين، ولكنه لا يقف عند حدود النقل بل يذكر الاحتمالات والوجوه التي يراها في الآية، وهي وجوه عقلية في جملتها، سوف نعرض لها بعد قليل.
وإنما الذي يعنينا هنا -بعد العرض السابق- أن نؤكد على أن التفسير بالمأثور يمثل جزءًا من تفسير الماتريدي في تأويلاته، وأن الماتريدي يقف موقف الذي يقبل الاعتماد على المأثور في التفسير.
ثانيًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمعقول:
يعتمد الماتريدي على العقل كثيرًا في تفسيره، ولعل مرجع ذلك إلى أن الماتريدي -في مجمله- تابع للمدرسة العراقية، أو مدرسة الرأي التي أسسها الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقاد لواءها من بعده أعلام أفذاذ، من أبرزهم أبو حنيفة النعمان وتلميذاه أبو يوسف ومُحَمَّد الذين أثروا الحياة الفكرية والعلمية في الحضارة الإسلامية.
ولأن الماتريدي تلميذ لتلك المدرسة، بل رائد من روادها فقد اصطبغ بصبغة هذه المدرسة، لكنه لم يكن مجرد تابع أو مقلد، بل كان ذا سمات خاصة، مجددًا مبتدعًا، وسنعرف ذلك في فصل تالٍ إن شاء اللَّه تعالى.
والذي يدل على عقلانية الماتريدي أمور:
أ - ذكر الاحتمالات المتعددة في تأويل الآيات:
يذكر الماتريدي في كل آية يتناولها الأوجه الممكنة والمحتملة في تفسيرها، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن، نذكر منها نموذجًا واحدًا.
فعند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، يقف عند قوله تعالى: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يقلب العبارة القرآنية على وجوهها المحتملة، فيقول: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة على أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل، لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك الدار، ولكان يحق عليه الخروج

صفحة رقم 310

منها، لا العود إليها.
ثم معلوم أن كلام اللَّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته لوجهين:
أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللَّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره؛ فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.
والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتي عن آيات إلا وفيها مما تشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه المعنى، وما يحدث به من الفائدة؛ ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل لما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألَّا يقام عليه، واللَّه أعلم ".
ثم قال حول العبارة -أيضًا-: " ثم قوله: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.
والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان للجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم.
ثم سماع كلام اللَّه يخرج عن القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللَّه ونواهيه في حق القرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن. واللَّه أعلم ".
فهنا الماتريدي يقول في القرآن برأيه، ويعرض الأوجه ويدلل تدليلاً عقليًّا دون أن يذكر ولو في إشارة دليلاً نقليًّا.
ب - اهتمامه بالأمور الفلسفية والعقدية:
يغص تفسير الماتريدي بالأمور الفلسفية والعقدية، فما من آية تتعرض لأمر عقدي أو فكري إلا ويقف أمامها لإبراز جوانبها المتعددة بإعمال عقله.
ومن المسائل الاعتقادية التي ناقشها الماتريدي مسألة: سؤال أهل النار ربهم العودة إلى الدنيا كي يعملوا صالحًا، وذلك من خلال تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، مستخلصًا بعض

صفحة رقم 311

الأمور العقيدية في إطار تفسيره للآية.
يقول الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) قيل: إلى الدنيا، وقيل: إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة، لكن هذا تكلف لتحقيق مراد قوم ظهر سفههم، ولعله ليس عندهم التمييز، أو يقولون سفهًا كما قالوا كذبًا بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (بِآيَاتِ رَبِّنَا) قال الحسن: بدين ربنا.
وقال قوم: بحجج ربنا، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل، وإن كان ثم آيات عاندوها، وهم قوم قد سبق من اللَّه الخبر عنهم مما فيه العناد منهم...
ثم دل قوله: (وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب؛ ليعلم أنه التصديق.
والثاني: أنهم ذكروا الآيات، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل بها.
وبعد: فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق؛ إذ الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات، فثبت أنهم أرادوا به التصديق، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة ".
ويمضي الماتريدي في عرض هذه القضية العقدية، ولا يقتصر على عرضه هو لها، بل يستأنس بأقوال الآخرين ويعرض آراءهم، فيقول: " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا) أي: إلى ما تمنوا أن يردوا إليه (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا) أخبر اللَّه عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك أن الآية تضطر صاحبها، ولا قوة إلا باللَّه.
وقال قوم: إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم اللَّه أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.
وقال قوم: إذ لم يجز لزوم العذاب بما يعلم اللَّه من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف، فعلى ذلك أمر الخلاف، لكن الآية في خاص منهم، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدًا، ثم

صفحة رقم 312

أمهلهم على ذلك، وهذا يبين أن ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة، إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك، فعلى ذلك الإعادة، لكنه أخبر عن تعنتهم، ثم ظنت المعتزلة أن اللَّه لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك؛ إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا؛ إذ ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يومًا من الدهر، وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب، وإن كان أُولَئِكَ في علم اللَّه أن يعودوا إلى ذلك... إلخ.
ونلاحظ الأسلوب الفلسفي في عرض القضية، وبنائها على مقدمات تسلم إلى نتائج كما يفعل المناطقة، متأثرًا في ذلك بالمدارس العقلية، أو سالكًا سبيلها.
ج - اهتمامه بالآيات الداعية إلى إعمال العقل:
يقف الماتريدي طويلاً أمام الآيات التي تخاطب العقل الإنساني والحواس الإنسانية، ففي قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال: " يحتمل الأمر بالنظر وجوهًا، أي: يحتمل: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أن كيف يقلبها ويحولها من حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته، أي كم خرج، وأي كم مقدار خرج - لم يقدروا عليه؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة، وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ".
وهكذا يلح الماتريدي على إعمال العقل في تفسير القرآن الكريم، لكنه العقل المنضبط غير المنفلت.
ومن خلال ما سبق نتبين بوضوح انتماء الماتريدي التفسيري، فهو ينتمي من غير مرية إلى اتجاه معتدل يوازن بين النقل والعقل، وإن كنا نلمس ميلاً إلى العقل أحيانًا عند تفسيره لبعض الآيات، وبخاصة الآيات التي تناقش قضايا عقدية وتقيم البرهان على صحتها، أو الآيات التي تخاطب العقل والفكر كحجج وبراهين على وجود اللَّه ووحدانيته.
* * *

صفحة رقم 313

الفصل الثاني
منهج الماتريدي في تفسيره
في هذا الفصل تحاول الدراسة تلمس منهج الماتريدي في تفسيره في ضوء السور موضوع التحقيق في القسم الثاني من هذا البحث.
ويجدر بنا قبل الخوض في بيان منهج الماتريدي في التفسير أن نخص المنهج بنبذة نعرف به فيها لغة واصطلاحاً.
المنهج لغة:
المنهج من نهج الطريق ينهج نهجًا، ونهوجًا: وضح واستبان، ويقال: نهج أمره، ونهج الدابة أو الإنسان نهجًا ونهيجًا: تتابع نفسه من الإعياء، ونهج الثوب: بلى وأخلق. ويقال: نهج الطريق: بينه، ونهج الطريق: سلكه.
وانتهج الطريق: استبانه وسلكه، واستنهج الطريق: صار نهجًا، ونهج سبيل فلان. سلك مسلكه.
والمنهاج: الطريق الواضح، وفي التنزيل العزيز: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) والمنهاج: الخطة المرسومة، ومنه: منهاج الدراسة، ومنهاج التعلم ونحوهما، والجمع: مناهج. والمنهج: المنهاج، والجمع: مناهج.
ومن كل هذه المعاني، نرى أن أقرب معنى لغوي يعبر عنه (المنهج) ويخص ما نحن فيه هو المنهج بمعنى الطريق الواضح، أو بمعنى الخطة المرسومة.
وبهذا يكون المنهج لغة: هو ما يرسمه مؤلف ما من طريقة يسير عليها وهو يؤلف كتابه.
وأكبر الظن أن المنهج بالمعنى اللغوي المذكور كان بعيدًا عن تفكير الماتريدي وأقرانه، فما أظن أنهم كانوا يصنعون لأنفسهم خطة دقيقة يسيرون عليها، أو منهجًا واضحًا ينتهجونه عند تأليفهم، ولكن هذا لا يعني أن تآليفهم كانت عشوائية بدون ضابط، وظني أن الضابط في تلك الآونة هو الانتماء المذهبي أو التفكير العقلي المعين الذي يقود صاحبه إلى التزام أسس معينة في التأليف، لكن أن نقول بأن القدماء -ومنهم الماتريدي طبعًا- كانوا يعرفون المنهج وخصائصه وسماته وضوابطه كما هو في واقعنا الحاضر

صفحة رقم 314

فذلك بعيد التصور.
المنهج في الاصطلاح:
يمكن تلمس تعريف المنهج في الاصطلاح في العلوم التطبيقية وما إليها: كالطبيعة والإحياء والتاريخ، وهو أنه يعني: " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة ".
وعلى هذا، فمنهج الماتريدي في التفسير هو الطريق الذي سلكه للكشف عن معاني القرآن بواسطة مجموعة من السبل يسلكها اختطها لنفسه واختارها دون غيرها، للوصول إلى مراده من تفسيره للقرآن الكريم.
منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم:
سبق أن أشرت منذ قليل إلى أن الذي يحدد طريقة القدماء أو منهجهم في مؤلفاتهم، إنما كانت تتحدد تبعًا لمجموعة من العوامل المكونة لشخصياتهم سواء كانت هذه العوامل مذهبية أو ثقافية أو فكرية أو غير ذلك، وخاصة أن علماءنا القدماء لم يكونوا يعرفون عن المنهج بالمفهوم الحديث شيئًا.
ولذلك إذا أردنا الوقوف على طبيعة المنهج الذي سلكه الماتريدي في تفسيره يجدر بنا أن نقف على القضيتين الآتيتين:
القضية الأولى: مصادر الماتريدي في التفسير وطريقته في التعامل معها.
القضية الثانية: طريقة الماتريدي العامة في التفسير.
القضية الأولى: مصادر الماتريدي وطريقته في التعامل معها:
ما من شك في أن العالم -أي عالم- يتأثر بمن سبقوه ويستفيد من علمهم، بل ومن طريقتهم.
وفي علم التفسير يستفيد المفسر -فضلاً عن إفادته من العلماء السابقين- من مصدرين عظيمين لا يستغني عنهما، ولو استغنى عنهما لأصاب تفسيره خلل عظيم وعطب خطير، ألا وهما الكتاب والسنة.

صفحة رقم 315

وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أَثْرَتْ تفسيره، وأَثَّرَتْ فيه، وهي:
أولًا: تفسير القرآن بالقرآن:
لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام اللَّه جل جلاله من اللَّه، فصاحب البيت أدرى بما فيه، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدِّين بالضرورة؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول، والعماد المتين لهذا الدِّين، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلًا.
والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره -وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور- لكنه لم يكثر منه، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي.
والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي، لكنه الرأي المقيد بالنص.
ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال: " وقوله: (وَكَذَلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق، فهو -والله أعلم- يحتمل أن يقول: لما قالوا: يا مُحَمَّد، أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.

صفحة رقم 316

ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة، كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وكقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) الآية ".
فالماتريدي بعدما حلل الآية موضع التفسير دفع بالآيات ليدلل على ما ذهب إليه، وهي كلها تدل على معنى الآية المفسرة، أو شبيهة بها.
ومنه -أيضًا- ما جاء عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) حيث قال: " ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين، أي: استجيبوا لله في أوامره ونواهيه، وللرسول فيما يدعوكم إليه، وإنما كان يدعو إليه إلى دار الآخرة، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، ودار الآخرة هي دار الحياة؛ كقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وكأنه قال -واللَّه أعلم- أجيبوا لله وللرسول؛ فإنه إنما دعاكم إلى ما تحيون فيها، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها، ولا يحيا بتركه الإجابة ".
ونلاحظ هنا أنه بدأ بالتحليل، ثم ذكر الآيات الدالة، ثم عاد للتحليل والتوجيه مرة أخرى.
وإذا كانت النماذج السابقة تتجه فيها الآيات المفسرة إلى بيان معنى الآية المفسَّرة، فإن الآية المفسرة قد تفسر كلمة واحدة في الآية، كما جاء في تفسيره لقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، فقد أراد الماتريدي تفسير كلمة (وَاتَّقُوا) فقال: " أي اتقوا فتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم، وهو العذاب؛ كقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ".
ثانيا: أسباب النزول:
استعان الماتريدي في تفسيره ببيان أسباب النزول، وأحيانًا يحشر المرويات التي وردت في سبب النزول ولا يكتفي برواية واحدة، وأحيانًا أخرى يكتفي برواية واحدة.
ومما ذكره في أسباب النزول ما جاء في سبب نزول قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية.
حيث قال: " فالسؤال يحتمل وجهين:
يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء، قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، وسألوا عن حلها

صفحة رقم 317

وحرمتها، فقال: (الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: الحكم فيها لله والرسول يجعلها لمن يشاء.
ويحتمل السؤال عنها عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردءًا لهم، وثلث مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللَّه عليهم اختلفوا في الغنائم، فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال، وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا، وقال الذين أقاموا مع رسول اللَّه: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللَّه فتنازعوا فيها إلى رسول اللَّه، فنزل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا؛ إذ انتزعه اللَّه من أيدينا فجلعه إلى رسوله، فقسمه على السواء ".
ثالثًا: السنة المطهرة:
استعان الماتريدي في تفسيره لكتاب اللَّه بالسنة المطهرة، وقد ذكرنا أمثلة لهذا من قبل عن تناولنا لموقفه من التفسير بالمأثور، وهو يكثر من ذكر الأحاديث في تفسيره، من نحو ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، فقد قال: " وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ)... قَالَ بَعْضُهُمْ: الدعاء ها هنا هو الدعاء، وقد جاء " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ "؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى العبد من نفسه الحاجة والعجز عن القيام بذلك، فعند ذلك يفزع إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه...
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قيل: المجاوزين الحد بالإشراك باللَّه. وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء؛ نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيًّا أو ملكًا، أو أنزلني في الجنة منزل كذا، وموضع كذا.
وروي عن عبد اللَّه بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: " اللهم إني أسألك الفردوس، وأسألك كذا، فقال له عبد اللَّه: سل اللَّه الجنة وتعوذ من النار؛ فإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

صفحة رقم 318

يقول: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور " ويحتمل الاعتداء في الدعاء هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له ".
وهناك بعض الأمور يجدر التنبيه عليها في تفسير القرآن بالحديث عند الماتريدي، أبرزها:
أ - أنه لا يذكر سند الحديث إلا قليلاً جدًّا.
ب - أنه -أحيانًا- يذكر الحديث بالمعني.
ج - أنه -أحيانًا- يورد شرحًا وتحليلاً على الحديث المستشهد به.
د - أنه يذكر أكثر من حديث في الموضع الواحد.
هـ - نشعر أن الماتريدي لا يهتم بمدى صحة الحديث.
رابعًا: أقوال المفسرين السابقين:
استعان الماتريدي بأقوال المفسرين قبله من لدن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فهو يدلل على صحة ما يذهب إليه أحيانًا بذكر أقوال هَؤُلَاءِ المفسرين حول الآية.
وطريقته في التعامل مع أقوال المفسرين قبله، تكاد تتطابق مع طريقة تعامله مع القرآن والسنة حين يعتمد عليهما في التفسير؛ حيث يقوم بتحليل الآية محل التأويل، ثم يعرض بعد ذلك أقوال العلماء حولها، وقد يعرضها على إطلاقها، وقد يختار من بينها، وقد يبدي اعتراضًا على بعضها.
ففي قوله تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) يبدأ الماتريدي بشرح معنى الآية فيقول: كيف تعطون لهم العهد، وكيف يستحقون العهد، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاًّ ولا ذمة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).
ثم أدار حوارًا طويلاً، نقل فيه كثيرًا من أقوال المفسرين قبله حول معنى كلمة (الإل)، قال: " الإل: اللَّه، والذمة: العهد. وقيل: الإل: القرابة، وقيل: الإل: العهد والذمة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الإل: العهد. قال: ويقال: القرابة.

صفحة رقم 319

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإل: القرابة.
وقال أبو عبيدة: الإل: العهد، والذمة: التذمم.
وقال ابن عَبَّاسٍ: الإل: اللَّه، بمنزلة جبريل، تفسيره عبد اللَّه؛ لما قيل: جبر هو عبد اللَّه.
وقيل: الإل: الحرم، يقول: كيف تعطونهم العهد، وهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) القرابة ولا العهد، ولا يرقبون الحرم فيكم، وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحمة حتى يعاون بعضهم بعضًا، ويناصره، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة، وكانوا يرقبون حرم اللَّه حتى لا يقاتلوا في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها ".
ويلفت النظر هنا أن الماتريدي تارة ينص على اسم العالم الذي ينقل عنه، وتارة يعبر بـ " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو " قيل ".
ويلفت النظر -أيضًا- أنه قدم تفسيرًا للآية أولاً دون أن يصرح بمعنى الإل، ثم لما أورد قول بعضهم من أن الإل بمعنى الحرم، قدم تفسيرًا للآية أوضح وأبين من الأول، ولا ندري إن كان هذا التفسير كلامه أم هو ناقل له عن غيره.
ونلاحظ أن نقوله السابقة اتجهت إلى معنى اللفظ في مجملها، ولم تتجه إلى المعنى العام للآية، وهو بذلك لا يكون ناقلاً عن علماء التفسير وحسب، بل قد يقع نقله في دائرة النقل عن علماء اللغة والأدب، يدل على ذلك النموذج الآتي.
فعند قول اللَّه تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) اختار أن يكون معنى (وَلِيجَةً): ملجأ يلجئون إليه، وهذا المعنى مستفاد من تفسيره العام للآية، ثم قال: " وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها: الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج ".
ثم أخذ يعدد معاني الوليجة ناقلًا إياها عن بعض العلماء دون ذكر لأسمائهم.
وقد ينقل أقوال العلماء، ثم يعرض عنها، ويختار ما يستريح إليه، وبعبارة أدق يتبنى رأيًا خاصَّا له، فمثلاً عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا).

صفحة رقم 320

يقول: " اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.
وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه:
أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهم) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.
والثاني: في قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة؛ فلا خوف عليهم في ذلك.
والثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا لَا يَحُجَّنَ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ " وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ونلاحظ -هنا- أنه يعترض على أسلافه، ويذهب بعيدًا عنهم في اختياره، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها.
وأحيانًا نجد الماتريدي يطرح أقوالاً للمفسرين السابقين، ويذكر المعنى الذي يرتضيه، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى، ويردها، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم، فمثلاً عند قول اللَّه تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول: " ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم، يعني إلى المنافقين، فقالوا: قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى، فكانوا يحلفون للأنصار: واللَّه ما كان شيء من ذلك، فأكذبهم الله فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) وما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة ".
ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول: " والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول اللَّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللَّه، فاعتذروا إليهم، وحلفوا على ذلك؛ ليرضوهم، فقال: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة، ولكن ليسوا بمؤمنين ".

صفحة رقم 321

ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى، مفندًا إياها، فقال: " وأما ما قاله بعض أهل التأويل: إن رجلاً من المنافقين قال: واللَّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ [الْحَمِيرِ]، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللَّه، فدعاه، فقال: " مَا حَمَلَكَ عَلَى الذِي قُلْتَ " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول اللَّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.
ويذكر ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللَّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه:
أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم، وكتموا من المكر وأنواع السفه.
والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.
والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف؛ طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللَّه، ويطلبون به مرضاته ".
والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عَبَّاسٍ تارة أخرى، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية، يفهم هذا من كلامه؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك، فيقولون: ورد في سبب النزول كذا، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا... وهكذا.
وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد، ولكن يضيف إليها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)

صفحة رقم 322

حيث قال: " اختلف فيه:
قال الحسن وأبو بكر الأصم: إنه خاطب بقوله: (وَمَا يشُعِركُمْ) وأهل القسم الذين أقسموا باللَّه جهد أيمانهم (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، فقال: (وَمَا يشُعِركُمْ) أي: ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءتكم آية، ثم استأنف، فقال: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)... وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف والابتداء.
وقال غيرهم من أهل التأويل: الخطاب لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنهم لما قالوا: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) ظنوا أنهم لما أقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية: يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون؛ فقال لهم: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على طرح " لا "، أي: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. وهكذا كأنه أقرب.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أهل الإسلام قالوا: إنهم وإن جاءتهم آية لا يؤمنون، فقال عند ذلك: (وَمَا يشعِركُمْ) وخاطبا به هَؤُلَاءِ (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
والثاني: أنهم وإن آمنوا بها إذا جاءت، فنقلب أفئدتهم من بعد ".
وعلى كل حال فما نقله الماتريدي عن أهل التأويل أو أهل التفسير، فإنه لم يقف -في الجملة- حياله عاجزًا، بل حاور سابقيه، ورد أقوالهم ونقدها وفندها أحيانًا، وزاد عليها أحيانًا أخرى.
خامسًا: علم الكلام:
سبق أن بينا أن للماتريدي مذهبًا اعتقاديًا ينصر فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبينا بشيء من التفصيل الفارق بين مذهبه والمذاهب الأخرى، وبخاصة الأشعرية.
وتفسير الماتريدي لا يخلو من آراء كلامية، سواء صرح بذكر قائليها أو لم يصرح، ولعلنا نعرض لبعض النماذج التي تؤيد ما نقول.
يقول الماتريدي عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ)
" الحياة حياتان: مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات، وحياة منشأة: وهي حياة الأجسام، فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة، وأما المؤمن فله الحياتان جميعاً؛ المكتسبة والمنشأة، فيسمي كلًّا بالأسماء التي اكتسبها، فالمؤمن اكتسب أفعالاً طيبة فسماه بذلك، والكافر اكتسب أفعالاً قبيحة، فسماه بذلك ".

صفحة رقم 323

ومسألة الكسب مسألة كلامية، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها.
وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها - اهتمامًا كبيرًا، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) حيث قال: " إن الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل، وقال: خلق الموت والحياة، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا، وقال: إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع، ثم إن اللَّه يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال، فإذن لا يموت بتوفي الرسل؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة، وهو ظاهر بحمد اللَّه، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند، وباللَّه التوفيق ".
ويمكنني القول: إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي، فبرز واحدًا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدًا عن حصنه، غيورًا على شرف كلمته، متصديًا لأهل الأهواء والبدع، منازلاً المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم، داحضًا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم، ومن ثم كان رائدًا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي.
وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، فقال:
" قال الحسن: المشيئة -ها هنا- مشيئة القدرة، وقال: لو شاء اللَّه قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط، على ما جعل الملائكة -جبلهم- على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعًا، ويقول: هم مجبورون على الطاعة؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورًا مجبورًا على

صفحة رقم 324

الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة.
أو يقول: فضلهم بالجوهر والأصل، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونًا بالأعمال الصالحة الطيبة؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) وغيره، وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وقوله: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ونحوه، لم يفضل أحدًا بالجوهر على أحد، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة؛ لذلك قلنا: إن قوله يخرج على التناقض.
وتأويل قوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر، ولو شاء لهداهم جميعًا ووفقهم للطاعة وأرشدهم لذلك، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ...) الآية، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا، ثم لم يجعل كذلك؛ دل هذا على أن قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) هو الأمر والرضا، أو ذكروا على الاستهزاء؛ حيث قال: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
والمعتزلة يقولون: المشيئة -هاهنا- مشيئة قسر وقهر، وقد ذكرنا أنه لا يكون في حال القهر إيمان، إنما يكون في حال الاختيار، والمشيئة مشيئة الاختيار، ولا يحتمل مشيئة الخلقة؛ لأن كل واحد بشهادة الخلقة مؤمن؛ فدل أن التأويل ما ذكر ".
فالنص يدل دلالة واضحة على تبني الماتريدي الدفاع عن عقيدة أهل السنة، التي تقول بأن أفعال العباد اختيارية ليس فيها إجبار، يقول الإسفراييني:
أفعالنا مخلوقة لله... لكنها كسب لنا يا لاهي وكل ما يفعله العباد... من طاعة أو ضدها مراد لربنا من غير ما اضطرار... منه لنا فافهم ولا تماري
فأهل السنة والجماعة أثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تنسب إليهم على وجه الحقيقة لا على جهة المجاز، وأن اللَّه خالقهم وخالق أفعالهم.
هذا، وقد يصرح الماتريدي بنسبة الآراء الاعتقادية إلى أصحابها، دون تعليق منه،

صفحة رقم 325

ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حيث قال: " تعلق بظاهر هذه الآية: الخوارج والمعتزلة.
أما المعتزلة فإنهم قالوا: إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيًا، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم؛ فدل أنه إنما لم يردهم؛ لما علمه منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل؛ فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدِّين، وقالوا: لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم، ومن قولهم: إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.
وقالت الخوارج: أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه، وسماهم بالقول كاذبين، بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذباً؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ)، الآية، فإذا سرقن، صرن كاذبات في البيعة، كما جعل من ذكر كاذبًا في الوعد إذا أخلف، وعلى ذلك يجعلونه كافرًا ".
سادسًا: علم الفقه:
علمنا من ترجمة الماتريدي أنه تتلمذ بأبي حنيفة النعمان، وإن لم يلقه، فهو قد تتلمذ عليه من خلال مذهبه الفقهي المعروف، فقد قرأ ما كتب أبو حنيفة وما كتب تلاميذه ونقلوه عنه.
ولم يكن الماتريدي ناقلاً تابعًا للمذهب الحنفي وحسب، بل كان مجددًا، فهو قد أخذ من المذهب الحنفي أسلوبه في التفكير العقلي، واعتماده الرأي في التفسير والفقه والعقيدة، لكن دون إهمال للنص أو افتئات عليه، بل -كما سبق- وازن الماتريدي بين النقل والعقل موازنة جعلته من العلماء أصحاب الآراء الصائبة في كثير من الأحوال.
ونكاد عند مطالعة تفسير الماتريدي لا نجد من أعلام الفقه من يذكر باسمه سوى أبي حنيفة النعمان، ولعل هذا يؤكد الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها منذ برهة بين الماتريدي وأبي حنيفة، وتلمذة الأول على الثاني.
والماتريدي حين تعرض له آية من آيات الأحكام لا ينسى أن يقف أمامها يستجلي

صفحة رقم 326

بعض أحكامها ومسائلها، مما يدلنا على اعتماده علم الفقه مصدرًا من مصادر تفسيره.
وتتمثل طريقته في اعتماد علم الفقه مصدرًا لتفسير القرآن الكريم في أنه يقوم بتحليل الآية التي تتضمن الحكم الفقهي، ثم يورد بعض أقوال العلماء، ثم يفصل القول حول المسألة الفقهية المعروفة بما أفاض اللَّه عليه.
ففي تفسيره لقول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). عرض الماتريدي لعلاقة هذه الآية بما قبلها، وشرح الآية، ثم ذكر بعض الروايات عن الصحابة عامة، وعن بعضهم خاصة:
كحذيفة وابن عَبَّاسٍ وعمر وعلي - رضي اللَّه عنهم - في تفسير الآية وبيان ما فيها من أحكام فقهية، ثم شرع يدلي بدلوه في تفسير الآية، وبيان الأحكام الفقهية التي تنطوي عليها، ونراه ينقل عن الأئمة دون أن يذكر أسماءهم، ويعرض لاختلافات المذاهب دون أن يحددها ويعينها، وتناول -أيضًا-: الأصناف الثمانية المخصوصة بالزكاة بشيء من التفصيل، ويستعين في ذلك ببعض الأحاديث والمرويات وأقوال العلماء.
لكن ليس معنى هذا أن الماتريدي يهمل نسبة الآراء الفقهية إلى أصحابها في كل الأحوال، بل إنه في مواضع ذكر الآراء منسوبة إلى أصحابها.
ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...) الآية، فقد ذكر الماتريدي الأحكام التي تتعلق بالآية، وذكر كثيرًا من الأخبار والمرويات بشأنها، وأخذ يحلل ويدلل، ومما قال: " وكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يسهم للفارس بسهمين، وأبو يوسف - رحمه اللَّه - يرى أن يسهم للفرس بسهمين، ولصاحبه بسهم، والحجة في ذلك قوله: قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) ".
فهنا ينسب الماتريدي الآراء إلى أصحابها، ونلاحظ أن المذهب الحنفي هو المذهب الغالب -أو الأكثر ورودًا- في تفسير تأويلات القرآن، وليس هذا غريبًا؛ لأن الماتريدي -كما قلنا- يتبع المذهب الحنفي.
سابعًا: علوم اللغة:
لا يعول الماتريدي كثيرًا على علوم اللغة في تفسيره؛ لذلك نراه مقلًّا جدَّا من توظيفها إلا مما كان من ذكر أقوال العلماء حول بيان بعض الألفاظ، كما سبق في بيان معنى كلمة

صفحة رقم 327

(الإل)، وهذا اللون من أكثر الألوان شيوعًا في تفسير الماتريدي فيما يخص توظيفه علوم اللغة، ولكن مع هذا لا نعدم توجيهًا نحويًا أو نكتة بلاغية هنا أو هناك.
فمن قبيل التوجيهات النحوية ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١).
فقد قال الماتريدي: " وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)... قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، ثم قال: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ) أي: وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم فاعلموا أن اللَّه مولاكم، ليس بمولى لهم.
وقالت طائفة: قوله: (إِن كُنْتُمْ آمَنتُم) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين، ولكن على التنبيه والإيقاظ ".
والماتريدي -كما هو بيِّن من النص- يعرج على اللغة بهدف الكشف عن مراد اللَّه من الآية، فهو لا يفعل كبعض المفسرين الذين ينصب اهتمامهم على اللغة، حتى تكاد تفسيراتهم تكون لغوية خالصة ككتب معاني القرآن، من مثل: معاني القرآن وإعرابه للزجاج، ومعاني القرآن للأخفش، ومعاني القرآن للفراء... وغيرها، أو تكون التفسيرات ذات صبغة لغوية بارزة بجوار الاهتمام بمعاني الآيات، كتفسير النسفي.
ومن قبيل النكات البلاغية التي أشار إليها الماتريدي في تفسيره، ما جاء في قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، حين قال: " يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور، والبكاء كناية عن الحزن، يقول: افرحوا وسروا قليلاً، وتحزنون في الآخرة طويلًا ".
ولم يشر -أيضًا- الماتريدي إلى النكتة البلاغية بغرض إثباتها وحسب، بل لأنها تخدم المعنى وترشد إليه؛ ولذلك كان الماتريدي مقلاًّ من الاتكاء على مباحث البلاغة، ولم يكن تفسيره تفسيرًا بلاغيًّا صرفًا ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، أو كتب إعجاز القرآن ككتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولم يكن متشبعًا بالمباحث البلاغية كتفسير الزمخشري مثلاً، بل إن النكتة البلاغية تأتي لبيان غرض معين.
ولعل عدم اهتمام الماتريدي بعلوم اللغة راجع إلى أمرين:

صفحة رقم 328

الأول: اهتمامه بالمضمون دون الشكل، والمعنى دون اللفظ.
والثاني: اهتمامه في تفسيره بالمسائل العقدية والفقهية، وهو أمر مترتب على الأول.
ثامنًا: إعمال العقل والتفسير بالرأي:
إن الماتريدي فضلاً عن اعتماده على المصادر المذكورة سابقًا، أعمل عقله في الآيات وقال فيها برأيه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو حين يعمل عقله يقلب الآية على وجوهها المختلفة تارة، ويذكر فيها وجهًا واحدًا تارة أخرى.
فمن الأول -وهو كثير-: ما جاء في تفسيره قول اللَّه تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ)، حيث قال الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
والثاني: يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.
(فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) قيل: يجمعه جميعًا بعضهم على بعض ".
ومن الثاني ما جاء في تفسيره لصدر الآية المذكورة (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حيث قال: " جعل اللَّه تعالى الخبيث مختلطًا بالطيب في الدنيا في سمعهم وبصرهم ونطقهم وجميع جوارحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع منافعهم من الغنى والفقر وأنواع المنافع، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا... لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بأعلام، يعرف بتلك العلامات الخبيث من الطيب، من نحو ما ذكر في الطيب قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
ويلفت النظر في تفسير الماتريدي بالرأي أنه يتوخى المعاني القريبة من ظاهر الآية، فهو لا يوغل في التأويل كما يفعل المتصوفة في تفسيراتهم ولا يقف عند حدود ظاهر النص كما يفعل الظاهرية، بل إن الماتريدي ينظر في الآيات نظرة فاحصة معتدلة، ويتجه إلى المعاني التي تحتملها الآيات ولا تخرج بها عن المراد منها.
القضية الثانية: طريقة الماتريدي في التفسير:
نستطيع من خلال ما عرضناه من مصادر الماتريدي في التفسير ومن خلال تأمل التفسير الذي بين أيدينا أن نتلمس بعض الخطوط العامة لمنهج الماتريدي في التفسير.

صفحة رقم 329

إن منهج الماتريدي منهج متميز متفرد، فقد اختط لنفسه طريقة خاصة، وأسلوبًا متميزًا، وهي طريقة تتميز بالشمولية، وأسلوب يتسم بالوضوح، فهو يقوم باستقصاء الآية من كافة وجوهها، ويعرض المعنى الذي يريد إبرازه في وضوح ويسر، يفهمه القارئ العادي فضلاً عن المتخصص وكأننا أمام تفسير حديث، وليس تفسيرًا كتب في القرن الرابع الهجري.
وهذه الطريقة تتميز عن طريقة المفسرين السابقين، من وجوه يمكن استخلاصها مما سبق:
الأول: أن التفاسير السابقة كانت تقوم -في مجملها- على الرواية، بمعنى أن هذه التفسيرات تندرج تحت ما يعرف بـ " التفسير بالمأثور "، لكن الماتريدي يجمع بين الأمرين جميعًا.
الثاني: أن التفاسير السابقة كانت تعتمد على السنة عند إيراد المرويات، سواء كانت هذه المرويات أحاديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أم أقوالاً للصحابة، أو حتى أقوالاً لمفسري التابعين، فالمفسر كان يأتي بالسند كاملاً حتى يرفع الخبر أو الأثر المروي إلى قائله، وخير مثال على ذلك تفسير ابن جرير الطبري.
ولم يقتصر الأمر على التفاسير المتقدمة وحسب، بل إن تفسيرًا كتفسير القرآن العظيم لابن كثير المكتوب في القرن الثامن الهجري، يقوم على هذه الطريقة، فنجد السند والعنعنات.
وهذا بخلاف تفسير تأويلات القرآن الكريم للماتريدي الذي تخلى عن ذكر السند في نقله للمرويات، سواء كانت من السنة أو من غيرها، حتى أننا نجده أحيانًا يهمل حتى القائل المباشر للرواية، فيقول: " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو: " قيل "، وهكذا.
وهذه الطريقة هي التي نجدها في تفسيرات المحدثين، وهي تناسب عصر الناس هذا، وكان الماتريدي سابقًا إليها قبل المحدثين بقرون متطاولة.
الثالث: أن تفسير الماتريدي -كما قلنا- شامل وعام، فنجد فيه: المسائل الاعتقادية، والمسائل الققهية، ومضمون الآية، بخلاف التفسيرات السابقة، بل وأحيانًا اللاحقة التي يكون من همها التركيز على جانب واحد من جوانب هدايات القرآن المتعددة، فنجد مفسرًا ينصب اهتمامه على مسائل اللغة، ومفسرًا آخر ينصب اهتمامه على مسائل الفقه، وبعضهم على مسائل الاعتقاد، وهكذا.

صفحة رقم 330

وطريقة الماتريدي أو منهجه يقوم على عدة خطوط عامة، هي:
أولًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بعرض الآراء التي قيلت حول الآية، أو الأوجه المحتملة فيها، فيستخدم: " قَالَ بَعْضُهُمْ "، " قال آخرون "، أو: " قيل "، أو: " قيل فيه بوجوه "، أو: " قال فلان "... وهكذا.
وهذا حينما يفسر بالنقل لا بالعقل، وإزاء هذه النقول لا يقف الماتريدي عاجزًا، بل ينقد ويحلل ويوجه ويختار من بين الأقوال المذكورة ما يراه أولى بمعنى الآية والمراد منها.
ثانيًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بذكر الأوجه المحتملة في تفسير الآية وذلك حين يفسر بالرأي، فيقول: " يحتمل "، أو: " يحتمل وجوه "... وهكذا.
ثالثًا: يقوم الماتريدي باستخلاص المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية، ويدير حولها حوارًا طويلاً يستقصي جوانبها، حتى لو لم يكن بعض هذه الجوانب داخلاً تحت إطار الآية المفسرة.
رابعًا: يبدأ الماتريدي أحيانًا تفسيره للآية بذكر القراءات الواردة فيها، فحين يفسر قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية يقول: " اختلف في قراءتها: قرأ بعضهم بالياء، وبعضهم بالتاء " ويعلل للقراءات بقوله: " فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ... ومن قرأ بالياء صرف الخطاب إلى الكفرة ".
خامسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- أسباب نزول الآية، ولكنه لا يسلم ببعضها؛ لما يراه أنه مخالف للمعنى المقصود، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا القبيل.
سادسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- المعنى اللغوي لبعض الألفاظ، ولا يهتم في تأويله بالشعر فلا يأتي إلا نادرًا، ولا يهتم بأقوال العرب؛ اكتفاء منه بالقرآن الكريم وسنة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء.
سابعًا: أن الماتريدي حين يستعين بالسنة لا يهتم بذكر السند، كما أنه يذكر الحديث بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه دون كتب السنة المثبت فيها الأحاديث، ثم إنه يجتزئ من الحديث بما يدل على الغرض، ولا يهتم بإيراده كاملًا.
ثامنًا: يهمل الماتريدي الحديث عن المكي والمدني، وإبراز فضائل السور، والناسخ والمنسوخ.
تاسعًا: أنه حين يشرع في تفسير أي سورة لا يقدم لها، بل يدخل إلى عالمها مباشرة،

صفحة رقم 331

ويعيش في رحاب آياتها دون أن يعرفنا شيئًا عن طبيعة هذه السورة، وعدد آياتها، وهل هي مكية أو مدنية، والظروف العامة لنزولها... إلخ.
ويمكن القول: إنه من خلال عرض منهج الماتريدي وطريقته في التفسير، يتبين القارئ أنه أمام تفسير غاية في الأهمية، يجمع كثيرًا من أطراف العلوم، وأنه يقوم على منهج نقدي تحليلي يقف ضد العقليين والنصيين المتطرفين.
يقول الكوثري: " كانت بلاد ما وراء النهر سليمة من أهل الأهواء والبدع؛ لسلطان السنة على النفوس هناك من غير منازع، تتناقل تلك الآثار بينهم جيلاً بعد جيل، إلى أن جاء إمام السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى؛ فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها؛ فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد ".
* * *

صفحة رقم 332

الفصل الثالث
بذور التجديد في تفسير الماتريدي
يمكن رصد التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة في ناحيتين:
الأولى: الإطار العام.
والثانية: الجزئيات.
فأما الناحية الأولى فتتمثل في:
أولًا: التجديد في المنهج:
سبق أن بينا أن طريقة الماتريدي في تفسيره طريقة متميزة، ومنهجه متطور إلى حد كبير، سواء من جهة الإطار العام، أو من جهة جزئيات المنهج.
فقد قام المنهج الماتريدي في تفسيره على التحليل والنقد، ولم يكن هذا معهودًا في التفسير قبل الماتريدي؛ حيث كان التفسير -كما قلنا- يعتمد على الرواية دون كبير تدخل من المفسر ودون نقد أو تمحيص أو تحليل، وفتح الماتريدي بهذا الباب واسعًا أمام من جاء بعده للتوسع في التحليل والشرح والتأويلات للآيات بإعمال العقل والنقل جميعاً.
وقد توسع الماتريدي في تفسيره في إعمال العقل، لكن مقيدًا بالنص، وهو لون من ألوان التجديد؛ حيث استطاع الماتريدي الموازنة بين العقل والنقل، وقد كان السابقون عليه يعتمدون في تفسيراتهم على النقل فقط. صحيح أن هناك من سبق الماتريدي في إعمال العقل، لكنه لم يكن في تفسير القرآن الكريم، بل كان في المسائل الاعتقادية، والمسائل الفقهية.
ويعد من التجديد في الإطار العام للمنهج عند الماتريدي في تفسيره الاستغناء عن ذكر السند عند التفسير بالمرويات.
ثانيًا: الاهتمام بالمسائل الاعتقادية:
اهتم الماتريدي كثيرًا في تفسيره بالمسائل الاعتقادية، ولعله غير مسبوق في الاهتمام بالمسائل الاعتقادية في التفسير؛ حيث كانت التفاسير السابقة تقوم على بيان معنى لفظ، أو شرح آية بشروح موجزة، مع ذكر الروايات حول الآية موضع التفسير، أما الاهتمام بالمسائل الاعتقادية التي تتضمنها فلا نكاد نجدها في التفاسير السابقة على تفسير تأويلات

صفحة رقم 333

أهل السنة، فقد توسع هذا التفسير في بيان هذه المسائل وناقشها، وذكر مذاهب العلماء فيها، بما يزيد -أحيانًا- عما تتضمنه الآيات من معان.
ثالثًا: الاهتمام بالمسائل الفقهية:
يعتبر الماتريدي في تأويلاته رائد المفسرين الذين ركزوا على المسائل الفقهية وعرض الآراء حولها في تفسيراتهم: كالإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن الكريم، فقد قام الماتريدي بعرض المسائل الفقهية المتضمنة في بعض الآيات، وعرض الآراء حولها، وزاد عن الحد المطلوب من الآية أحيانًا، وقد ذكرنا نماذج من هذا القبيل.
رابعًا: بروز شخصية الماتريدي في التفسير:
كانت التفاسير السابقة على الماتريدي تعتمد -كما قلنا مرارًا- على المرويات، أما تفسير تأويلات أهل السنة فقد اعتمد فيه الماتريدي على التحليل، وعرض الآراء ومناقشتها، والقول في القرآن بالرأي، وإبداء الآراء الشخصية حول الآيات، فنحن نحس بشخصية الماتريدي بارزة في تفسيره، فلم يكن مجرد ناقل أو جامع للروايات كما كان شأن أسلافه، والنماذج السابقة تكشف عن ذلك بوضوح.
هذه هي أبرز بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة، الذي أحسبه يسلك فيه منهجًا ويتبع فيه طريقة لم يسلكها المفسرون المتأخرون.
* * *

صفحة رقم 334

الفصل الرابع
تأثر الماتريدي بمن سبقوه
إن الماتريدي تأثر بمن سبقه، عامة، وتأثر بالإمام أبي حنيفة النعمان خاصة، حيث أخذ عنه الإطار العام لمذهبه في الكلام.
لقد تأثر الماتريدي بالمنهج المتوازن بين العقل والنقل الذي سلكه أبو حنيفة، فقد سلك ذلك المسلك الوسط الذي لم يسلكه -كما يقول الشيخ أبو زهرة- سوى أبي حنيفة، وبلغ فيه الشأو والغاية.
وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام أبو حنيفة، وتبناه الماتريدي، لا يقدح في سلفية كل منهما، ولا يخرجهما عن دائرة أهل السنة؛ لأن أبا حنيفة يعد أول من كون مدرسة كلامية لأهل السنة وحاربت المبتدعة، وأظهرت الحق جليَّا.
يقول أبو اليسر البزدوي: " أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تعلم هذا العلم، وكان يناظر المعتزلة وأهل البدع، وكان يعلمه أصحابه في الابتداء، وقد صنف فيه كتبًا، وقع بعضها إلينا، وعامتها محاها وغسلها أهل البدع، ومما وقع إلينا كتاب العالم والمتعلم، وكتاب الفقه الأكبر، وقد نص كتاب العالم والمتعلم أنه لا بأس بتعلم العلم ".
وهذا النص يكشف عن دور أبي حنيفة البارز، كما يدل في الوقت نفسه على مجموعة من مؤلفاته التي أثرت في الماتريدي كما سنعرف فيما بعد.
وهذه الكتب رد فيها على المعتزلة، وبخاصة كتابه: الفقه الأكبر، ونصر فيه قول أهل السنة في خلق الأفعال، وفي الاستطاعة مع الفعل.
ولقد استفاد الماتريدي من هذه الكتب، فقد تناول هذه الكتب والرسائل، وتأثر بها تأثرًا فكريًّا واضحًا؛ حتى إنه ليمكن القول: إن منهج الماتريدي لا يخرج عن المنهج العام الذي وضعه أبو حنيفة في مؤلفاته، هذا المنهج الذي يستخدم العقل، لكنه العقل المقيد بالنص، بحيث لا يخرج عنه، ولا يتقدم عليه بحال؛ لأن اللَّه تعالى ركب العقول ووفقها للاستدلال.
ومعلوم أن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - كون مدرسة فكرية ضمت أعظم العلماء وجهابذة

صفحة رقم 335

الفكر في أصول الدِّين وفروعه، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد اللَّه البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصر بن يَحْيَى البلخي وغيرهم، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي.
ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟
معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي -كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة- وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجًا، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدِّين الإسلامي.
ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد، ومن هنا يقول أبو معين النسفي: " إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو، وبلخ وغيرهما - كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب ".
ومن أبرز هَؤُلَاءِ الأئمة: أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه.
ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط، بل إنه تأثر به في مجال الفقه، وتأثر به في المنهج والطريقة.
ولم يكن -أيضًا- المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي، بل إنه -وكما بان لنا- تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم، وتأثر بالتابعين، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق.
لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عندما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق؛ ولذلك يمكن أن يقال: استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى

صفحة رقم 336

العلم، حتى كان رائدًا لأهل السنة في اتباع هذه الطريقة.
هذا، ولقد تأثر الماتريدي بأبي حنيفة في آرائه الكلامية، حيث إن المدرسة السنية فيما وراء النهر، ظلت تدافع عن العقيدة الصحيحة، بدفع البدع، وصد الانحرافات، ومقاومة الضلالات الناتجة عن التعصب للفرق المخالفة لأهل السنة، بعيدًا عن التوغل في الدقائق الكلامية، مهتدية في مسلكها بمنهج الإمام أبي حنيفة دون أن تدخل عليه جديدًا، الأمر الذي جعلنا لم نصل إلى آراء خاصة لهم خارجة عن آراء شيخهم، وهَؤُلَاءِ مهدوا الطريق لأبي منصور للقيام بمنهجه ولإرساء دعائم مذهبه الكلامي المتأثر بمنهج أبي حنيفة والمجدد في الوقت ذاته.
* * *

صفحة رقم 337

الفصل الخامس
تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده
لقد كان الماتريدي من أفاضل علماء أهل السنة في بلاد الشرق الإسلامي، ففي الطبقات السنية: اتفق الناس على علو قدره وعظم محله وطيب نشره، فإنه كان من كبار علماء الإسلام الذين بعلمهم يقتدى، وبنور فضلهم يهتدي، وكان إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره اللَّه بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.
ولذلك كان أثر الماتريدي في لاحقيه أثرًا كبيرًا، ولعلنا نتلمس هذا التأثير في عدة اتجاهات هي:
أولًا: تأثيره في التفسير:
تأثر الذين جاءوا من بعد الماتريدي به كثيرًا في التفسير، فأخذ عنه كثير من المفسرين، منهم صاحب روح المعاني، حيث تجد تأثره بالماتريدي في تفسير قوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ويقول: " فهو الحامد والمحمود، والجميع شئونه، ولهم كلام غير هذا، والكل يُسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي -روح اللَّه روحه- أنه جعل هذا حمدًا من اللَّه تعالى لنفسه، قال: وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق، ولا ضير في ذلك؛ لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك؛ إذ لا عيب يمسه، ولا آفة تحل به ".
وينقل عنه الآلوسي -أيضًا- تفريقه بين التفسير والتأويل، فيقول: " وقال الماتريدي: التفسير: القطع بأن مراد اللَّه تعالى كذا، والتأويل ترجيح أحد الاحتمالات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية ".
ونقول الآلوسي عن الإمام الماتريدي في تفسيره لا تحصى عددًا.
ونقل عنه -أيضًا- القرطبي، فعند تفسيره قول اللَّه تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) قال: " حكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - أنه قال:

صفحة رقم 338

يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما من لم يجاوز الحد وفعل كما كان يفعل في عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - فهو حسن ".
وأفاد من الماتريدي -أيضًا- المفسر الكبير، واللغوي البحر، الجامع بين الرواية والدراية، العالم أبو حيان في كتابه البحر المحيط، فمثلاً عند قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)، ينقل عن الماتريدي تأويله: " ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه، يقال: هو شحيح بمودتك، أي: حريص على بقائها، ولا يقال في هذا: بخيل، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع: الشح للمنع، والحرص للطلب، فأطلق على الحرص الشح؛ لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر، ولأن البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل ".
هذا ولم يقتصر تأثير الماتريدي على مفسري المتقدمين، بل لقد أفاد منه مفسرو المتأخرين حتى عصرنا الحاضر، فقد أفاد منه السيوطي في الإتقان، وأفاد منه الزرقاني في مناهل العرفان، وأفاد منه الزركشي في برهانه، وأفاد منه ابن تيمية في فتاويه، وغيرهم كثير وكثير، وما يزال اسم الماتريدي وتفسيره تأويلات أهل السنة يتردد في تفاسير المحدثين وبحوثهم في التفسير.
ثانيًا: تأثير الماتريدي في العقيدة:
لقد كان لمذهب الماتريدي الكلامي أثره في اللاحقين، فقد أفادوا منه أيما إفادة، وأفادوا من مسائله الاعتقادية التي عرضها في تفسيره تأويلات أهل السنة.
وتدليلاً على ذلك نسوق بعض النماذج، فقد جاء في أنواء البروق ما نصه: " وأما الحلف بصفات الأفعال، ففي المجموع وشرحه وحاشيته ما حاصله: أن اليمين لا ينعقد بنحو الإماتة والإحياء، اللهم إلا أن يلاحظ المذهب الماتريدي، وهو أن صفات الأفعال

صفحة رقم 339

قديمة ترجع إلى صفة التكوين، أو يريد مصدرها ومنشأها وهو القدرة والاقتدار الراجع للصفة المعنوية، أي: كونه قادراً؛ إذ المعنوية ينعقد بها جزمًا ".
ونقل عنه وعن غيره ابن تيمية، ما نصه: " وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة والمرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة، ويقولون: لا يكون فاعلاً إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته، والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق، وهذا هو ما ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي ".
وفي فتاوى الرملي: " أن الكلام القديم هو صفة اللَّه تعالى يجوز أن يسمع بلا صوت ولا حرف؛ كما يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف، وهذا هو المرجح في كلام الشيخ جلال الدِّين، ومنع الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ذلك، وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي ".
وتأثر اللاحقين بالماتريدي في الآراء الكلامية أكثر من أن تقوم به هذه الصفحات القليلة، بل إنه يحتاج إلى دراسات مستفيضة، وكيف لا وهو صاحب ذلك المذهب المعروف بمذهب الماتريدية في علم الكلام كما أوضحنا من قبل.
ثالثًا: تأثير الماتريدي في علم الفقه:
امتد تأثير الماتريدي في لاحقيه إلى الفقه، فقد أفاد منه العلماء في هذا المجال إفادة جمة، وفي سبيل إثبات ذلك نذكر بعض النماذج الدالة، منها ما ذكر صاحب بدائع الصنائع من " أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللًا على صورة المذي، ولم يتذكر الاحتلام - فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومُحَمَّد، وعند أبي يوسف لا يجب، وأجمعوا أنه لو كان منيًّا أن عليه الغسل؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام، وأجمعوا أنه إن كان وديًا لا غسل عليه؛ لأنه بول غليظ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على

صفحة رقم 340

فراشه منيًّا فهو على الاختلاف، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين. وجه قول أبي يوسف أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي بإسناده عن عائشة - رضي اللَّه عنها - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا رأى الرجل بعدما ينتبه من نومه بلة، ولم يذكر احتلامًا اغتسل، وإن رأى احتلامًا، ولم ير بلة فلا غسل عليه "، وهذا نص في الباب ".
وفي تفسير قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية، نقل أبو حيان عن الماتريدي قوله: " في الآية دليل على أن المال كله للذكر، إذا لم يكن معه أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين، وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر، بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك، ومثلًا النصف هو الكل. انتهى ".
رابعًا: تأثير الماتريدي في علوم اللغة:
لم يكن تأثير الماتريدي كبيرًا في علوم اللغة؛ نظرًا؛ لأنه كان لا يعتمد عليها في تفسيره كثيرًا، ومع هذا لا نعدم نقلاً عنه هنا أو هناك في هذا المجال؛ ومن ذلك ما جاء في التلويح عند الكلام عن قول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠). " ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد، والمراد التمثيل لا حقيقة القول ".
وخلاصة ما سبق أن الماتريدي كان له فضل على لاحقيه لا ينكر، وأن أثره ممتد ومتشعب في مجالات شتى من العلوم: علم الكلام، والفقه، واللغة، والتفسير، وغيرها؛ مما يدل على موسوعية هذا العالم الجليل وفضله الذي لا ينكر في خدمة الإسلام وعلومه.
* * *

صفحة رقم 341

وصف نسخ الكتاب الخطية
اعتمدنا في تحقيق " تأويلات أهل السنة للماتريدي " على ثلاث نسخ خطية: نسختين بدار الكتب المصرية، ونسخة بتركيا.
النسخة الأولى: نسخة مصورة منقولة عن المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم " ٦ " قوله، ومحفوظة أيضًا تحت رقم ٢٧٣٠٦ ب وتقع في ثلاثة مجلدات، ينتهي الأول بورقة ٢١٩، والثاني بورقة ٤٤٠، والثالث بورقة ٦٥٦.
والنسخة مكتوبة بخط مصطفى بن مُحَمَّد بن أحمد في سنة ١١٦٥ هـ، وتشتمل على ٦٥٦ ورقة، وهي نسخة جيدة كاملة، ليس فيها تآكل سوى الورقة الأولى، وكل صفحة منها تتكون من سبعة وأربعين سطرًا، يشتمل كل سطر على نحو خمس وعشرين كلمة.
والمخطوطة الأصلية المصور عنها تقع في مجلد واحد، مذهبة الصفحات تبدأ فيها كل آية بمداد أحمر تكتب به كلمة: قوله، والخط فيها واضح تمامًا، وبها من هذه النسخة بعض تعليقات، إما تكميل آية وردت بالأصل، أو تعليق على رأى بمزيد توضيح، أو تبيين لمعنى لغوى.
النسخة الثانية: نسخة مصورة منقولة عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة كوبريلِّي
بالآستانة تحت رقم ٤٨، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم ٨٧٣ تفسير، وهي مكتوبة بخط أحمد بن مُحَمَّد يوسف الخالدي الصفدي الحنفي ٨١٨ هـ، ولوجد من هذه النسخة بدار الكتب المصرية أجزاء تنتهى بتفسير سورة الإسراء، وتقع في ١٦٣٩ ورقة، وفي كل صفحة ٣٥ سطرًا تقريبًا، ويشتمل كل سطر على نحو ١٦ كلمة، وخطها واضح في الأغلب منها، ويوجد بعض أجزاء من هذه المصورة في مكتبة معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية بالقاهرة، وقد تم الاعتماد عليها في التحقيق.
النسخة الثالثة: يوجد منها جزء واحد موجود في دار الكتب المصرية في ضمن أجزاء نسخة كوبريلِّي، ولكنه يختلف عن هذه النسخة من جهات:
- الجزء أصل مخطوط، بينما أجزاء نسخة كوبريلِّي مصورة.
- ثم إنه بخط يختلف عن خط النسخة.
- وتتكون صفحاته كل صفحة من نحو ٢٨ سطرًا، يشتمل كل سطر على ١٥ كلمة تقريبًا.
وهذا يؤكد أن هذا الجزء يختلف عن هذه النسخة، وأنه من نسخة أخرى.

صفحة رقم 342

وهذا الجزء يبدأ بتفسير سورة " المنافقون " من قوله: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى آخر القرآن الكريم، وعدد صفحاته ٢٥٦ صفحة، وفيه خرم ورقة أو ورقتين من سورة المزمل.
* * *

صفحة رقم 343

صور المخطوط
صورة من نسخة دار الكتب المصرية فيها تفسير سورة الفاتحة

صفحة رقم 344

صور المخطوط
صورة من نسخة دار الكتب المصرية

صفحة رقم 345

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية

صفحة رقم 346

صورة أول فاتحة الكتاب من نسخة مكتبة كوبريلي

صفحة رقم 347

صورة من نسخة مكتبة كوبريلِّي

صفحة رقم 348

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي، رضي اللَّه تعالى عنه:
الفرق بين التأويل والتفسير
هو ما قيل: التفسير للصحابة، رضي اللَّه عنهم، والتأويل للفقهاء، ومعنى ذلك: أن الصحابة شهدوا المشاهد، وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن.
فتفسير الآية أهم لما عاينوا وشهدوا، إذ هو حقيقة المراد، وهو كالمشاهدة، لا تسمح إلا لمن علم، ومنه قيل: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار؛ لأنه فيما يفسر يشهد على اللَّه به.
وأما التأويل: فهو بيان منتهى الأمر، مأخوذ من: آل يؤول، أي يرجع، ومعناه - كما قال أبو زيد: لو كان هذا كلام غيره يوجه إلي كذا وكذا من الوجوه، فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه، ولا يقع التشديد في هذا مثل ما يقع في التفسير، إذ ليس فيه الشهادة على اللَّه؛ لأنه لا يخبر عن المراد، ولا يقول: أراد اللَّه به كذا، أو عنى، ولكن يقول: يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه، هذا مما تكلم به البشر. واللَّه أعلم ما صحته من الحكمة.
ومثاله: أن أهل التفسير اختلفوا في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن اللَّه تعالى حمد نفسه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر أن يُحمد.
فمن قال: عنى هذا، دون هذا، فهو المفسر له.
وأما التأويل - فهو أن يقول: يتوجه الحمد إلى الثناء والمدح له، وإلى الأمر بالشكر لله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم بما أراد.
فالتفسير -ذو وجه واحد، والتأويل- ذو وجوه.
* * *

صفحة رقم 349

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صلى على النجاشي قال أناس من المنافقين: يصلي على حبشي مات في أرض الحبشة؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...) الآية.
وعن الحسن قال: لما مات النجاشي، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " استغفروا لأخيكم " قالوا: يا رسول اللَّه، لذلك العِلْج؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...) الآية، وقيل: لما صلَّى عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال المنافقون: صلى على من ليس من أهل دينه؟ فأنزل اللَّه الآية.
وعن الزهري عن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى على النجاشي، فكبَّر عليه أربع تكبيرات، وصففنا في المصلَّى خلفه، وكان مات بالحبشة.
قال: والنوازل على وجهين: من ترك بسببه خيرًا وسعة فله فيه فضل؛ لأنه كان مفتاح الخير، ومن ترك بسببه ضيقًا فعليه فضل لوم؛ كأنه مفتاح الضيق.
وأمَّا الأحكام: فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق، ولا يجوز أن يقال: نزل في شأن فلان؛ إنما أنزل لما في شأن فلان، لا في شأنه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا (٢٠٠)
قيل: على أداء الفرائض والعبادات، وقيل: اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد:

صفحة رقم 567

(وَصَابِرُوا)
في الجهاد لعدوكم.
وقيل: اصبروا على أمر اللَّه وفرائضه، وصابروا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وصحبه في المواطن.
وعن الحسن قال: أُمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى اللَّه لهم، وهو الإسلام، ولا يَدَعُوا دينهم؛ لشدة ولا لرخاء، ولا ضراء، ولا سراء، حتى يموتوا، ويكونوا يصابرون الكفار، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم، وأمروا أن يرابطوا المشركين.
وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا لعدوكم.
(وَرَابِطُوا)
أي: داوموا على دينكم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ):
قال: والصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى، والمصابرة مع غيره، وقد يكون كل واحد على المعنيين؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدو فيما يطيع ربه.
وقيل: رابطوا مع عدوكم ما أقاموا، واتقوا اللَّه فيما أمركم به، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم، وذروا ما نهاكم عنه، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *

صفحة رقم 568
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية