آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

الخامسة: عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله، وهذا أثر لما قبله.
﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات الحميدة المذكورة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾؛ أي: لهم ثواب أعمالهم، وأجر طاعتهم حالَ كونه مدخرًا لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الذي رباهم بنعمه، وهداهم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل؛ لكونه عالمًا بجميع الأشياء، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب، فهو يحاسب الناسَ جميعَهم في وقت قصير، فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب في صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة الأفلام التي تعرض فيها الحوادث والوقائع في عصرنا الحاضر، وقد ختم الله سبحانه وتعالى هذه السورةَ بوصية للمؤمنين، إذا عملوا بها كانوا أهلًا لاستجابة الدعاء، وأحق بالنصر في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة فقال:
٢٠٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ على (١) شدائد الدنيا وآلامها من مرض، وفقر، وخوف، أو على تكاليف دينكم، وأدائها، وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات ﴿وَصَابِرُوا﴾؛ أي: تحملوا المكارهَ التي تلحقكم من غيركم، ويدخل في ذلك احتمالُ الأذى من الأهل والجيران، وترك الانتقام ممن يسىء إليكم؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والعفو عمن ظلمكم كما قال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ودفع شبه المبطلين، وحل شكوكهم، والإجابة عن شبههم.
﴿وَرَابِطُوا﴾؛ أي: اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعدادًا للقتال، كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ويدخل في هذا كل ما ولده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات، وقاذفات للقنابل، ودبابات، ومدافع رشاشة، وبنادق، وأساطيل بحرية، ونحو

(١) المراغي.

صفحة رقم 351

ذلك مما صار الآن ضروريًّا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزلَ من السلاح، وإن كان مدججًا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب، والخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية، والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الاستعدادَ المأمور به في الآية لا يتم إلا به.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها". متفق عليه.
وعن سلمان الخير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - قال: "رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه. جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان". رواه مسلم.
وفي سنن أبي داود قال: "كل الميت يختم على عمله، إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتاني القبر". وقيل: المراد بالمرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمن النبي - ﷺ - غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة.
ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات" قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". أخرجه مسلم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مخالفة أمره ونهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تظفروا السعادةَ الأبديةَ في الدنيا والآخرة، قال (١) محمَّد بن كعب القرظي يقول الله عز

(١) الخازن.

صفحة رقم 352

وجل: واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وقال (١) بعضهم في معنى هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا على مجاهدة أعدائي، واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي. وقيل: اصبروا على النعماء، وصابروا على البأساء، والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء. وقيل: اصبروا على الدنيا ومحنها، رجاءَ السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة، واتقوا ما يعقبكم الندامةَ لعلكم تفلحون غدًا في دار الكرامة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
ولقد (٢) أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر التقوى، ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعَرَفَ سنةَ نبيه وسيرة السلف الصالح من الأمة الإِسلامية، ومن فعل كل ما تقدم فصبرَ، وصابَرَ، ورابطَ لحماية الحق، وأهله، ونشَرَ دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه فقد أفلح، وفاز بالسعادة عند ربه.
الإعراب
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا لـ ﴿إنَّ﴾ تقديره: إن آيات دالات على وحدانية الله لكائنة لأولي الألباب في خلق السموات ﴿وَالْأَرْضِ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَاخْتِلَافِ﴾ معطوف على ﴿خَلْقِ﴾، وهو مضاف. ﴿اللَّيْلِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَالنَّهَارِ﴾

(١) الخازن.
(٢) المراغي.

صفحة رقم 353

معطوف على الليل. ﴿لَآيَاتٍ﴾ اللام حرف ابتداء. ﴿آيات﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر منصوب بالكسرة. ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾.
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر صفة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾. ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿قِيَامًا﴾ حال من فاعل ﴿يذكرون﴾. ﴿وَقُعُودًا﴾ معطوف عليه. ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿على جنوبهم﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف معطوف على ﴿قِيَامًا﴾ على كونه حالًا من فاعل ﴿يَذْكُرُونَ﴾، تقديره: وحالة كونهم مضطجعين على جنوبهم، ففي الآية عطف الحال المؤولة على الحال الصريحة عكسَ قوله تعالى: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾، و ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿يَذْكُرُونَ﴾ على كونه صلة الموصول. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾، جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يتفكرون﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. وقوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ مقول محكي لقول محذوف تقديره: يقولون: ربنا ما خلفت هذا باطلًا، وجملة القول المحذوف حال من فاعل ﴿يتفكرون﴾، تقديره: ويتفكرون في خلق السموات والأرض حالةَ كونهم قائلينَ ربنا ما خلقت هذا باطلًا. ﴿رَبَّنَا﴾ رب منادى مضاف. ﴿نا﴾ مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف كما سبق آنفًا. ﴿مَا خَلَقْتَ﴾ ﴿ما﴾ نافية. ﴿خَلَقْتَ﴾ فعل وفاعل. ﴿هَذَا﴾ مفعول به ﴿بَاطِلًا﴾ حال من اسم الإشارة، وهو الأحسن في إعرابه، وهي حال لا يستغنى عنها إذ لو حذفت للزم نفي الخلق، وهو لا يصح أو مفعول من أجله؛ أي: ما خلقت هذا للباطل، والعبث، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المذكور. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: سبحناكَ، ونزهناك عن كل ما لا يليق بك

صفحة رقم 354

سبحانك، وجملة التسبيح جملة معترضة بين قوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ وبين قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. ﴿فَقِنَا﴾ الفاء حرف عطف وسبب؛ لأن ما بعدها متسبب عن قوله ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾؛ لأن المعنى فحيث وحدناك، ونزهناك عن النقائص فقنا عذاب النار؛ لأن النار جزاء من عَصَى، ولم يوحد. ﴿قنا﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ ﴿ربَّ﴾ منادى مضاف و ﴿نا﴾ مضاف إليه. ﴿إِنَّكَ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الكاف﴾ في محل النصب اسمها. ﴿مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾ من اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تدخل﴾ وجوبًا لكونه مما يلزم الصدارة. ﴿تُدْخِلِ النَّارَ﴾ فعل ومفعولِ ثان في محل الجزم على كونه فعل شرط لمن، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فَقَدْ﴾ الفاء رابطة لجواب من وجوبًا لكونه مقرونًا بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ﴿من﴾ زائدة. ﴿أَنصَارٍ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ ﴿ربَّ﴾ منادى مضاف و ﴿نا﴾ مضاف إليه. ﴿إِنَّنَا﴾ إن حرف نصب و ﴿نا﴾ اسمها. ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿مُنَادِيًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿سَمِعْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء ﴿يُنَادِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنادي، والجملة في محل النصب صفة ﴿مُنَادِيًا﴾. ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ جار ومجرور

صفحة رقم 355

متعلق بـ ﴿ينادى﴾. ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ أن تفسيرية بمعنى؛ أي: ﴿آمِنُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِرَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آمنوا﴾ والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ ﴿ينادى﴾ لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: ﴿أن﴾ مصدرية. ﴿آمِنُوا﴾ فعل وفاعل في محل النصب، وجملة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة المتعلقة بـ ﴿ينادي﴾ تقديره. ينادي بطلب إيمانكم. ﴿فَآمَنَّا﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿آمنا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿سَمِعْنَا﴾ على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف ومضاف إليه. ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ الفاء حرف عطف وترتيب. ﴿اغفر﴾ فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَنَا﴾ متعلق بـ ﴿اغفر﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أمنا﴾. ﴿ذُنُوبَنَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿وَكَفِّرْ﴾ فعل دعاء معطوف على ﴿فَاغْفِرْ﴾. ﴿عَنَّا﴾ متعلق به. ﴿سَيِّئَاتِنَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَتَوَفَّنَا﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فاغفر﴾. ﴿مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿توفنا﴾، أو بمحذوف حال من ضمير المفعول تقديره: حالة كوننا مصاحبينَ للأبرار.
﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)﴾.
﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف ومضاف إليه. ﴿وَآتِنَا﴾ الواو عاطفة ﴿آتنا﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاغْفِرْ﴾، ﴿مَا وَعَدْتَنَا﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان ﴿لآتنا﴾ لأنه بمعنى أعطنا. ﴿وَعَدْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذرف تقديره: وعدتناه. ﴿عَلى رُسُلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بوعدتنا؛ ولكنه على حذف مضاف تقديره: على ألسنة رسلك كما مر في بحث التفسير. ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ الواو عاطفة ﴿لا﴾ ناهية.

صفحة رقم 356

﴿تُخْزِنَا﴾ فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاغْفِرْ﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تخزنا﴾. ﴿إِنَّكَ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب ومصدر و ﴿الكاف﴾ اسمها. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿تُخْزِنَا﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْمِيعَادَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها معللة لقوله ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة (١) إما على مقدر، تقديره: دعوا ربهم بهذا الدعاء، فاستجاب لهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، وإما على قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿استجاب﴾ فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿رَبُّهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. ﴿أَنِّي﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، والياء اسمها. ﴿لَا أُضِيعُ﴾ لا نافية. ﴿أُضِيعُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَمَلَ عَامِلٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿عامل﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ﴿أن﴾؛ وجملة ﴿أن﴾. في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: بعدم إضاعة عمل عامل. ﴿مِنْكُمْ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿استجاب﴾ هذا على قراءة فتح الهمزة، وأما على قراءة كسرها، فمقول لقول محذوف تقدير: فاستجاب لهم ربهم بقوله: أني لا أضيع عمل عامل منكم. ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾ جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ بدل تفصيل من مجمل بإعادة العامل، أو بدل ﴿من﴾ لفظ ﴿عامل﴾ على جعل ﴿من﴾ زائدة، كأنه قال: لا أضيع عمل ذكر. ﴿أَوْ أُنْثَى﴾ معطوف على ذكر. ﴿بَعْضُكُمْ﴾ مبتدأ، ومضا إليه. ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، فالجملة معترضة لاعتراضها بين المجمل أعني قوله: {عَمَلَ

(١) الشوكاني.

صفحة رقم 357

عَامِلٍ مِنْكُمْ}، وبين ما فصل به عمل العاملين من قوله ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾. ولذلك قال الزمخشري ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾، تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم. وقيل (١): هي في محل التعليل للتعميم في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ فكأنه قيل: إنما سوى بين الفريقين في الثواب لاشتراكهم في الأصل، والدين، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأن بعضكم مأخوذ من بعض، فكذلك أنتم سواء في ثواب العمل، لا يثاب رجل عامل دونَ امرأة.
﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾.
﴿فَالَّذِينَ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّي لا أضيع عمل عامل منكم، وأردت بيانَ كيفية عدم الإضاعة، فأقول لك. ﴿الذين﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿هَاجَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَأُخْرِجُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أخرجوا﴾. ﴿وَأُوذُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾ أيضًا. ﴿فِي سَبِيلِي﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق ﴿بأوذوا﴾. ﴿وَقَاتَلُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿هاجروا﴾. و ﴿وَقُتِلُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لأكفرن. ﴿لأكفرن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ونون التوكيد: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أكفرن﴾. ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مفصلة لعملِ العاملين المجمل أولًا.

(١) الجمل.

صفحة رقم 358

﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾.
﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لأدخلنهم﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿أدخلن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بـ ﴿نون التوكيد﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. و ﴿الهاء﴾ ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول. ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول ثان، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ﴾. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿جنات﴾ ولكنها سببية. ﴿ثَوَابًا﴾ حال من ﴿جَنَّاتٍ﴾، ولكنها مؤولة بمشتق تقديره: حالة كونها مثابًا بها، أو حال من ضمير المفعول في قوله: ﴿لأدخلنهم﴾ تقديره، حالة كونهم مثابين. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ ﴿ثَوَابًا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ مبتدأ ثان، ومضاف إليه، والتقدير: والله الثواب الحسن كائن عنده، والجملة الإسمية مستأنفة. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ الأحسن: أنه فاعل بما تعلق به ﴿عِنْدَهُ﴾؛ أي: مستقر عنده؛ لأن الظرف قد اعتمد بوقوعه خبرًا، والإخبار بالمفرد أولى.
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)﴾.
﴿لَا﴾ ناهية. ﴿يغرن﴾ فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، مبني على الفتح. ﴿الكاف﴾ ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به مبني على الفتح. ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل.

(١) الجمل.

صفحة رقم 359

﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧)﴾.
﴿مَتَاعٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو متاع يعود على تقلبهم. ﴿قَلِيلٌ﴾ صفة لـ ﴿متاع﴾ والجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف، وترتيب مع تراخ. ﴿مَأوَاهُمْ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الواو استئنافية. ﴿بئس المهاد﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر للمبتدأ المحذوف وجوبًا، الذي هو المخصوص بالذم تقديره، هي يعود على جهنم، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)﴾.
﴿لَكِنِ﴾ حرف استدراك. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿اتَّقَوْا﴾ فعل وفاعل. ﴿رَبَّهُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿جَنَّاتٌ﴾ مبتدأ ثان مؤخر عن خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره، في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿جنات﴾، ولكنها سببية. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير في قوله ﴿لَهُمْ﴾، والعامل فيه معنى الاستقرار. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خالدين﴾. ﴿نُزُلًا﴾ حال من ﴿جَنَّاتٌ﴾ لتخصصه بالصفة، والمعنى حال كون تلك الجنات ضيافةً وإكرامًا من الله لهم، أعدها كما يعد القرى للضيف إكرامًا له. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ ﴿نزلا﴾. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿ما﴾ مبتدأ. ﴿عِنْدِ اللَّهِ﴾ ظرف، ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿خَيْرٌ﴾ خبر للمبتدأ. ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾ صفة لـ ﴿خير﴾ أو متعلق به، والجملة الإسمية مستأنفة.
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إنَّ﴾ هو حرف نصب وتوكيد. {مِنْ أَهْلِ

صفحة رقم 360

الْكِتَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَمَنْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتدأ. ﴿مِنْ﴾ اسم موصول في محل النصب، اسم إن مؤخر، والتقدير: وإن من يؤمن بالله.. لكائن من أهل الكتاب، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿يُؤْمِنُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، وفيه مراعاة للفظ ﴿من﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يؤمن﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أنزل﴾.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿خَاشِعِينَ﴾ حال من ضمير ﴿يُؤْمِنُ﴾ في قوله: ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ﴾ وفيه مراعاة لمعنى ﴿من﴾ لأنه راعى معنى ﴿من﴾ في يسبعة مواضع أولها ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وآخرها ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خاشعين﴾ ﴿لَا يَشْتَرُونَ﴾ إلا نافية. ﴿يَشْتَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثانية من ضمير ﴿يُؤمِنُ﴾. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يشترون﴾ ﴿ثَمَنًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَشْتَرُونَ﴾. ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لـ ﴿ثَمَنًا﴾.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿أَجْرُهُمْ﴾ مبتدأ ثان مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: أولئك أجرهم كائن لهم، والجملة مستأنفة. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من أجرهم تقديره: حال كونه مدخرًا لهم عند ربهم ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ خبرها، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة بمنزلة التعليل.

صفحة رقم 361

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾. منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿لأي﴾ وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿اصْبِرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. وكذلك ﴿وَصَابِرُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اصْبِرُوا﴾. وكذلك جملة ﴿وَرَابِطُوا﴾ معطوف عليه. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصْبِرُوا﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ﴿لعل﴾ حرف نصب وترج وتعليل بمعنى كي. ﴿والكاف﴾ اسمها ﴿تُفْلِحُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة المعللة لجمل الأفعال المذكورة قبلها، والمعنى: اتصفوا بالصبر، وما بعده لطَلب فلا حكم ورجائه والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الخلق: مصدر قياسي لخلق من باب فَعل المفتوح المعدَّى، وهو إما باق على مصدريته، فيكون بمعنى التقدير، والترتيب الدال على النظام، والإتقان، أو بمعنى اسم المفعول؛ أي: مخلوقهما، و ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ جمع سماء، وهو ما علاك مما ترى فوقك، والأرض ما تعيش عليه.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ﴿والألباب﴾: جمع لب، كأقفال جمع قفل، وهو العقل.
﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ جمعان لقائم، وقاعد، وأجيز (١) أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأولان على ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا ﴿بَاطِلًا﴾ الباطل: العبث الذي لا فائدة فيه، والشيء الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد:
أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ

(١) جمل.

صفحة رقم 362

﴿سُبْحَانَكَ﴾ اسم مصدر لسبح الرباعي، وهو من الأسماء التي تلزم النصب على المصدرية، ومعناه تنزيهًا لك عما لا يليق بك ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ من أخزى الرباعي، من باب: أفعل من مزيد الثلاثي ﴿ذُنُوبَنَا﴾ جمع ذنب، وهو (١) التقصير في المعاملة بين العبد وربه ﴿سَيِّئَاتِنَا﴾ جمع سيئة، وهي التقصير في حقوق العباد، ومعاملة الناس بعضهم بعضًا.
﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ جمع بار، كصاحب وأصحاب، وهو المحسن في العمل، أو جمع بر أصله برر، ككتف وأكتاف اهـ سمين ﴿لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ ﴿الْمِيعَادَ﴾: مصدر ميمي، بمعنى الوعد، لا بمعنى المكان، والزمان ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾ ﴿استجاب﴾ من باب: استفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان؛ لأنه بمعنى أجاب الرباعي، ويتعدى بنفسه، وباللام ﴿أُضِيعُ﴾ من أضاع الرباعي، فهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه ضاع من باب باع ﴿ثَوَابًا﴾ الثواب اسم مصدر، لأثاب الرباعي، يقال: أثابه إثابة، وثوابًا، والثواب. هنا بمعنى الإثابة، التي هي المصدر فهو مصدرَ معنوي مؤكد لمعنى لأكفرن، ولأدخلنهم، فمعنى المجموع لأثيبنهم إثابةً، وإن كان في الأصل إسمًا لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى به.
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ من غر الثلاثي المضاعف المعدي يقال: غرني ظاهره؛ أي: قبلته على غفلة عن امتحانه، ويقال في الثوب إذا نشر، ثم أعيد إلى طيه: رددته على غره ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والتقلب: مصدر لتقلب الخماسي الذي هو من باب تفعل؛ أي: تصرفهم في التجارات، وتنقلهم في البلاد آمنين لطلب المكاسب ﴿مَتَاعٌ﴾ اسم مصدر من أمتع الرباعي؛ أي: ذلك الكسب والربح الحاصل لهم متاع ﴿قَلِيلٌ﴾ وإنما وصفه بالقليل؛ لأنه قصير الأمد ﴿ومأواهم جهنم﴾، والمأوى اسم مكان من أوى يأوي، من باب رمي يقال: أوى الرجل البيتَ يأوي إواءً ومأوى بالفتح على القياس؛ إذا نزل فيه، والمأوى مكانُ النزول. وجهنم اسم لطبقة من طباق النار يجازي بها الكافرون في الآخرة، ﴿الْمِهَادُ﴾ اسم للمكان

(١) المراغي.

صفحة رقم 363

الموطأ كالفراش والنزلُ بضمتين ما يهيأ للضيف النازل. وفي "السمين": النزاع ما يهيأ للضيف، هذا أصله ثم اتسع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء، وإن لم يكن ضيف، ومنه ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ وفيه قولان: هل هو مصدر، أو جمع نازل. انتهى ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾ جمع بار، وهو المتصف بالبر؛ أي: الإحسان كما مر ﴿وَصَابِرُوا﴾؛ أي: غالبوا أعداءكم بالصبر على شدائد القتال والحرب، وهو من باب: فاعل الرباعي فيدل على المفاعلة ﴿وَرَابِطُوا﴾؛ أي: أقيموا في الثغور رابطين خُيولَكم حابسينَ لها، مترصدينَ للغزو، فهو من باب: فاعل قال على المفاعلة أيضًا. وأصل (١) المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولَهم، وهؤلاء خيولَهم بحيث يكون كل من الخصمين مستعدًا لقتال الآخر، ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركوب مربوط. والتقوى: اسم من اتقى يتقى إتقاء ثلاثيه تقى يتقي، كقضى يقضي، والتقوى أن تقي نفسك وتحفظها من غضب الله وسخطه. والفلاح: اسم مصدر من أفلح، وهو الفوز، والظفر بالبغية المقصودة من العمل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع أنواعًا (٢):
منها: الاختصاص في قوله: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، و ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، و ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، و ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما لهم، أو وما له، مراعاةً لمعنى ﴿من﴾ أو لفظها.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿أن آمنوا فآمنا﴾، و ﴿عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾.
ومنها: المغايرُ في قوله: ﴿مُنَادِيًا يُنَادِي﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾.

(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط بتصرف.

صفحة رقم 364

ومنها: التنكير للتفخيم في قوله: ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ودخلت اللام في خبر إن لزيادة التأكيد.
ومنها: الالتفات إلى التكلم والخطاب في قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ و ﴿اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ فالسماء جهة العلو، والأرضُ جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة، والنهار: عبارة عن النور، و ﴿قِيَامًا﴾ و ﴿قُعُودًا﴾ و ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ حيث كرر خمس مرات، والغرض منه: المبالغة في التضرع، وفي ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ إن كان المعنى واحدًا، وفي ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وفي ﴿ثَوَابًا﴾ و ﴿حُسْنُ الثَّوَابِ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾؛ أي: على ألسنة رسلك، وكذلك في قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: قائلين ربنا.
والاستعارة بسماع المنادى إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبالاستجابة عن قبول مسألتهم، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازاته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان، وتغير معالمه عن خضوعهم، وتذللهم بين يديه، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته.
قيل: ويحتمل أن يكون الحساب أستعير للجزاء كما استعير ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦)﴾؛ لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
فإن قلت (١): ما الفائدة في الجمع بين ﴿مُنَادِيًا﴾ و ﴿يُنَادِي﴾؟

(١) جمل.

صفحة رقم 365

قلتُ: أجاب الزمخشري بأنه ذكر النداء مطلقًا، ثم مقيدًا بالإيمان تفخيمًا لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء السائرة، أو لإغاثة الملهوف، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، فإذا قلت ينادي للإيمان فقد رفعت شأنَ المنادي وفخمته ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ وأتى هنا بالصلة مستقبلةً، وإن كان ذلك قد مَضَى دلالةً على الاستمرار والدوام (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

(١) هذا آخر ما أوردناه على سورة آل عمران من التفاسير، وفرغنا منه في تاريخ: ٢٦/ ٨/ ١٤٠٨ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.

صفحة رقم 366

سورة النساء (١)
سورة النساء: مدنية كلها على الصحيح، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء، إلا وأنا عند رسول الله - ﷺ - وقد بَنَى النبي - ﷺ - بعائشة في المدينة، في شوال من السنة الأولى من الهجرة.
وآياتُها مئة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وكلماتها ثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة، وحروفها ستةَ عشرَ ألف حرف، وثلاثون حرفًا.
التسمية: وسميت سورة النساء لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بهن، بدرجة لم توجد في غيرها من السور، ولذلك أطلق عليها سورةُ النساء الكبرى في مقابلة سورة النساء الصغرى التي عرفت في المصحف بسورة الطلاق.
مناسبتها: والمناسبة بينها وبين سورة آل عمران من أوجه (٢):
منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة بذلك، وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السورة.
ومنها: أن في السابقة ذكرَ قصة أحد مستوفاة، وفي هذه ذيل لها، وهو قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
ومنها: أنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد، وهي غزوة حمراء الأسد بقوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وأشير إليها هنا في قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ الآية.
وقال أبو حيان (٣): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أحوال

(١) بدأت تفسير هذه السورة في تاريخ: ٢٨/ ٨/ ١٤٠٨ هـ.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.

صفحة رقم 367

المشركين، والمنافقين، وأهل الكتاب، والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ على المجازاة، وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق، والتوادد، والتعاطف، وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الإنساني، كان عابدًا لله مفردَه بالتوحيدَ والتقوى، طائعًا له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه، فنادى تعالى دعاءً عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سببًا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم، وأنشأهم من نفس واحدة، ومن كان قادرًا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع، وإعدام هذه الأشكال، والنفع، والضر.. فهو جدير بأن يتقى انتهى.
ذكر ما حوته هذه السورة من الموضوعات (١)
١ - الأمر بتقوى الله تعالى في السر والعلن.
٢ - تذكير المخاطبين بأنهم خلقوا من نفس واحدة.
٣ - أحكام القرابة والمصاهرة.
٤ - أحكام الأنكحة والمواريث.
٥ - أحكام القتال.
٦ - الحجاج مع أهل الكتاب.
٧ - بعض أخبار المنافقين.
٨ - الكلامُ مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها.
وبالجملة: اشتملت هذه السورة على ذكر حقوق النساءِ والأيتام، وخاصةً اليتيمات اللاتي في حجور الأولياء، والأوصياء، فقررت حقوقَهن في الميراث،

(١) المراغي.

صفحة رقم 368

والكسب، والزواج، واستنقذتهن من أسر الجاهلية، وتقاليدها الظالمة المهينة.
وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتَها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها، حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر، والميراث وإحسان العشرة.
وتعرضت لأحكام المواريث على الوَجْهِ الدقيق العادلِ الذي يكفل العدالةَ، ويحقق المساواة، وأفصحت عن المحرمات من النساء بالنسب، والرضاع، والمصاهرة.
واشتملت على تنظيم العلاقات الزوجية، وبينت أنها ليست علاقةَ جسد، وإنما هي علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاء يوثق المحبةَ، ويديم العشرةَ وبربط القلوبَ.
وذكرت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدَتْ إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية عندما يبدأ الشقاقُ، والخلاف بين الزوجين، وبينت معنى قوامة الرجل، وأنها ليست قوامةَ استعباد، وتسخير، وإنما هي قوامة نصح، وتأديب التي تكون بين الراعي ورعيته.
ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبينت أن أساس الإحسان التكافل، والتراحم والتناصح، والتسامح، والأمانة، والعدل حتى يكون المجتمع راسخَ البنيان قوي الأركان، ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجيّ الذي يحفظ على الأمة استقرارها، وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء.
ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين، والدول الأخرى المحايدة، أو المعادية، واستتبع الأمر بالجهاد جملةً ضخمةً على المنافقين، فهم نابتة السوء، وأصول الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم، كما أومأت إلى خطر أهل الكتاب، وخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.

صفحة رقم 369

ثم ختمت السورة ببيان ضلالات النصارى، في أمر المسيح عيسى ابن مريم، حيث غالوا فيه حتى عبدوه، ثم صلبوه؛ أي: جعلوه صليبًا مصورًا معبودًا لهم مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الشافعية عقيدة التوحيد وصدق الله تعالى حيث قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
قيل (١): وجعل هذا المطلع مطلعًا لسورتين إحداهما: هذه، وهي الرابعة من النصف الأول، والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني، وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد.
فضلها: وقد ورد (٢) في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في "مستدركه" عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية، و ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآية، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، و ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية. ثم قال: هذا إسناد صحيح، إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، وقد اختلف في ذلك.
الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم (٣): سورة النساء مدنية تحتوي على أربع وعشرين آية منسوخة:
الأولى منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ مدنية النساء نسخت بأية المواريث وهي قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الآية ١١ مدنية النساء.

(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) الناسخ والمنسوخ.

صفحة رقم 370

والثانية منها: قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية ٩ النساء نسخت بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الآية ١٨٢ مدنية البقرة.
والثالثة منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ ١٠ مدنية النساء، وذلك أنه لما نزلت هذه الآية امتنعوا من أموال اليتامى، وعزلوهم فدخل الضررُ على الأيتام، ثم أَنْزَل (١) الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ٢٢٠ البقرة. من المخالطة ركوب الدابة، وشرب اللبن فرخص في المخالطة، ولم يرخص في أكل الأموال بالظلم ثم قال عز وجل: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ٦ النساء، فهذه الآية نسخت الأولى، والمعروف هنا: القرض فإذا أيسر رده، فإن مات قبل ذلك. فلا شيءَ عليه.
والرابعة منها: قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ الآية ١٥ مدنية النساء. كانت المرأة إذا زنت، وهي محصنة حبست في بيت، فلا تخرج منه حتى تموت، قال رسول الله - ﷺ -: "خذوا عني قد جعل الله لهن السبيلَ الثيبُ بالثيب الرجمُ، والبكر جلد مائة، وتغريب عام" فهذه الآية منسوخة بعضها بالكتاب، بقوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ١٥ مدنية النساء. وبعضها بالسنة، وكني فيها بذكر النساء عن ذكر النساء والرجال.
والخامسة منها: قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ ١٦ مدنية النساء. كان البكران إذا زنيا عيرا وشتما فنسخ الله ذلك بالآية التي في سورة النور، وهي قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ ٢ مدنية النور.

(١) وفي "الخازن": وقد توهم بعضهم أن قوله: ﴿وإن تخالطوهم﴾ ناسخ لهذه الآية، وهذا غلط ممن توهمه؛ لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلمًا وهذا لا يصير منسوخًا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله ﴿وإن تخالطوهم فإخوانكم﴾ وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو أعظم القرب. اهـ منه.

صفحة رقم 371

والسادسة منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ الآية. ١٧ مدنية النساء، وذلك أن الله تعالى ضمن لأهل التوحيد أن يقبلَ قبل أن يغرغروا، وقال رسول الله - ﷺ -: "كل من كان قبل الموت" ثم استثنى في الآية بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، فصارت ناسخة لبعض حكمها لأهل الشرك، ثم قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى آخرها ١٨ النساء.
والسابعة منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ إلى قوله: ﴿بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ ١٩ النساء، ثم نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ١٩ النساء.
والثامنة منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ٢٢ النساء؛ أي: من أفعالهم فقد عفوت عنه.
والتاسعة منها: قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ ٢٣ النساء، نسخت بالاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يعني عفوت عنه.
والعاشرة: قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ ٢٤ مدنية النساء. نسخت بقوله - ﷺ -: "إني كنت أحللت هذه المتعةَ، ألا وإن الله ورسوله قد حرمَاها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ووقع ناسخها من القرآن موضعَ ذكر ميراث الزوجة الثمنَ، أو الربعَ فلم يكن لها في ذلك نصيب.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: موضع تحريمها في سورة المؤمنين، وناسخها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ٥ مكية المؤمنون، وأجمعوا على أنها ليست بزوجة، ولا ملك اليمين، فنسخها الله بهذه الآية.
والحادية عشرة منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية ٢٩ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى في سورة النور:

صفحة رقم 372

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ ٦١ مدنية النور، وكانوا يجتنبونهم في الأكل، فقال تعالى: ليس على من أكل مع الأعرج والمريض حرج، فصارت هذه الآية ناسخة لتلك الآية.
الثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ الآية ٣٣ مدنية منسوخة، وناسخها قوله تعالى في آخر الأنفال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ الآية ٧٥ مدنية الأنفال.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ﴾ الآية ٦٣ مدنية نسخت بآية السيف.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ الآية ٦٤ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية ٨٠ مدنية التوبة.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ الآية ٧١ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ ١٢٢ مدنية التوبة.
السادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ الآية ٨٠ مدنية النساء. نسختها آية السيف.
السابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ٨١ مدنية النساء. نسخ الإعراض عنهم بآية السيف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ ٩٠ مدنية النساء. نسخها الله بآية السيف.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ ١٩١ النساء. نسخها الله بآية السيف.
العشرون منها: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ الآية ٩٢ مدنية

صفحة رقم 373

النساء. نسخها الله تعالى بقوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ١ مدنية التوبة.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية. ٩٣ مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ٤٨، ١١٦ النساء. وبالآية التي في الفرقان، ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ ٦٨ مدنية. الفرقان.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ ١٤٥ النساء. نسخ الله بعضها بالاستثناء بقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا﴾ الآية ١٤٦ النساء.
الثالثة والعشرون، والرابعة والعشرون. قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ ٨٨ النساء. وقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ٨٤ النساء نسخهما آية السيف، فتكون مع هاتين أربعًا وعشرين آية. انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

صفحة رقم 374

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...﴾ مناسبتها للآية التي في آخر السورة السابقة - أعني قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ - ظاهرةٌ؛ لأن كلا الآيتين آمرة بالتقوى كما سبق.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها (١) لما قبلها: أنه لما وصل الأرحام.. أتبع بالأيتام؛ لأنهم صاروا بحيث لا كافلَ لهم، ففارق
(١) البحر المحيط.

صفحة رقم 375

حالهم حال من له رحم. ذكره أبو حيان.
وقيل: مناسبتها أنه سبحانه وتعالى لما (١) افتتح السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقادَ له من التكاليف؛ ليبتعد عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة.. شرع يذكر أنواعها، وأولها: إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها: حكم ما يحل عدده من الزوجات، ومتى يجب الاقتصار على واحدةٍ، ثم أوجب إيتاء الصداق لهن.
قوله تعالى ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه وتعالى، لما أمر في الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاءِ النساء مهورهن.. أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معًا، وهو أن لا يكون كل منهما سفيهًا مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم، حتى تحسن أحوالهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنه لا ينبغي الإسراف في أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيًّا.. فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرًا.. فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أرباب المروءة.
قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها، أنه سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى، وأمر بإعطائهم أموالَهم إذا رشدوا، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجَهن بغير مهر.. ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى، يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وحاز بالغنيمة، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى؛ لأن اليتيم مرهف الحس، يألم للكلمة تهينه، ولا سيما ذكر أبيه، وأمه بسوء، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن، ولا يقهر بالسوء من القول، ثم طلب الإشفاقَ عليهم ومعاملتَهم بالحسنى، فربما يترك الميت ذريةً ضعافًا يود أن غيره

(١) المراغي.

صفحة رقم 376

يعاملهم بمثل هذه المعاملة، وبعد ذلك شدد في الوعيد، ونفر من أكل أموال اليتامى ظلمًا، وجعل أكله كأكل النار.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجَها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيَها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك، إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طَابَ لهم من النساء سواهن، وإن الناس استفتوا رسولَ الله - ﷺ - بعد هذه الآية، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...﴾ الآية. أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج البخاري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. الحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره بنحوه، وأخرجه مسلم أيضًا.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوح ابنتَه أَخذَ صداقها، دونها، نهاهم الله عن ذلك فأنزل ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إنها نزلت في مال اليتيم إذا كان

(١) لباب النقول.

صفحة رقم 377

فقيرًا، فإنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف. أخرجه البخاري ومسلم.
قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه (١) أبو الشيخ، وابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار من المذكور، حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار، يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه خالد، وعرفطة، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته رسول الله - ﷺ - فذكرت له ذلك فقال: ما أدري ما أقول: فنزلت ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ...﴾ الآية.
وقال المراغي (٢): وقد روي في سبب نزول هذه الآية ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ...﴾ أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة، وثلاث بنات له منها، فزوى ابنا عمه سويد، وعرفطة ميراثه عنهن، على سنة الجاهلية، فجاءت امرأته إلى رسول الله - ﷺ - في مسجد الفضيخ مسجد بالمدينة كان سكنه أهل الصفة - فشكت إليه أن زوجها أوسًا قد مات وخلف ثلاث بنات، وليس عندها ما تنفق عليهن منه، وقد ترك أبوهن مالًا حسنًا عند ابني عمه لم يعطياها مثله شيئًا، وهن في حجري لا يطعمنَ ولا يسقينَ، فدعاهما رسول الله - ﷺ - فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأُ عدوا نكسب عليها، ولا تكسب، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله - ﷺ -: لا تفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته نصيبًا مما ترك، ولم يبين فنزلتْ ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ إلخ فأعطى زوجتَه الثمن، والبنات الثلثين، والباقي لبني العم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...﴾ سبب نزولها (٣) ما روي عن مقاتل بن حيان أن رجلًا من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولي مال يتيم

(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
(٣) القرطبي.

صفحة رقم 378
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
الناشر
دار طوق النجاة، بيروت - لبنان
سنة النشر
1421
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية