
ثَالِثُهَا: مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ضَيَاعَ وَنِسْيَانَ بَعْضِهِ، وَطُرُوءَ التَّحْرِيفِ بِالتَّرْجَمَةِ، وَالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ إِجْمَالًا، وَاتِّبَاعُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ تَفْصِيلًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْعُمْدَةُ فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِ مَنْ خَالَفَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْهُ [ص١٢٩ - ١٣٢ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
رَابِعُهَا: الْخُشُوعُ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعِينُ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَمَلِ، فَالْخُشُوعُ أَثَرُ خَشْيَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْقَلْبِ تَفِيضُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالْمَشَاعِرِ، فَيَخْشَعُ الْبَصَرُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِسَارِ، وَيَخْشَعُ الصَّوْتُ بِالْمُخَافَتَةِ وَالتَّهَدُّجِ، كَمَا يَخْشَعُ غَيْرُهَا.
خَامِسُهَا: وَهِيَ أَثَرٌ لِمَا قَبْلَهُ عَدَمُ اشْتِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِآيَاتِ اللهِ كَمَا هُوَ فَاشٍ فِي أَصْحَابِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الْجِنْسِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ مِلَّتْهِمْ، وَيَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا.
قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ لَهُمْ أَجْرُهُمُ اللَّائِقُ بِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمُ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِنِعَمِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ ;
أَيْ فِي دَارِ الرِّضْوَانِ الَّتِي نَسَبَهَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا، بِخِلَافِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَفِهِمْ عِنَادًا حَمَلَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظَهَرَتْ لَهُ حَقِيقَتُهَا كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَحَجَدَ وَعَانَدَ كَمَا جَحَدُوا وَعَانَدُوا فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَكُتُبِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا مَقْرُونًا بِالْخَشْيَةِ، وَالْخُشُوعِ ; وَلِذَلِكَ لَا يَخْشَاهُ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي آيَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [٢: ٦٢] مِنَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا كَالَّذِينِ كَانُوا قَبْلَهُ.
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ بِمَا يَكْشِفُ لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ عَمَلٍ سَبَقَ مِنْهُمْ كَالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ الْوَقَائِعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِجَابَةُ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، وَإِيفَاءُ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيِ اصْبِرُوا

عَلَى مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْأَذَى، وَصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَكُمْ لِيَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، وَيَخْذُلُونَ الْحَقَّ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَارْبُطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْبُطُونَهَا اسْتِعْدَادًا لِلْجِهَادِ.
أَقُولُ: فَالْمُصَابَرَةُ، وَالْمُرَابَطَةُ، وَهِيَ الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُبَارَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُغَالَبَتِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَفِي رَبْطِ الْخَيْلِ كَمَا قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠] عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ، وَالْمَدَافِعِ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُرَابَطَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ثُغُورِ
الْبِلَادِ، وَهِيَ مَدَاخِلُهَا عَلَى حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِرَبْطِ خُيُولِهِمْ، وَخِدْمَتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى: يُكْثِرُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهَا بَتَّةً، صَارَ التَّقِيُّ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْأَهْبَلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَصْلَحَتَهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ النَّاسِ. وَلَا شَيْءَ أَشْأَمَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ فَهْمِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى.
التَّقْوَى: أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ غَضَبِهِ، وَسُخْطِهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا مَنْ فَهِمَ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - وَعَرَفَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مُطَالِبًا نَفْسَهُ بِالِاهْتِدَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَنْ صَبَرَ، وَصَابَرَ، وَرَابَطَ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي سَائِرِ شُئُونِهِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ الْفَوْزُ، وَالظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [٢٠: ٦٤] وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا [١٨: ٢٠] وَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ أَكْثَرَ وَعْدِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَإِرَادَةُ الْفَلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الصَّبْرَ، وَمُصَابَرَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَابَطَةَ، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّهَا مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَقَصْدِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ - الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ - مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِهَا، فَعِلْمُهُ إذًا هُوَ سَبَبُ فَلَاحِهِ.
فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُنِيلَنَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَنَا عَلَى أَسْبَابِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.

سُورَةُ النِّسَاءِ (وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ فِي الْعَدِّ الشَّامِيِّ، وَسِتٌّ فِي الْكُوفِيِّ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْآسِتَانَةِ، وَمِصْرَ، وَخَمْسٌ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ فَلَوْجَلَ. فَالْخِلَافُ فِي فَاصِلَتَيْنِ)
أَقُولُ: وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، قِيلَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " أَعْرَسَ بِي عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ " أَيْ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [٤: ٥٨]، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نُزُولَ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ السُّورَةِ كُلِّهَا مَكِّيَّةً، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي وَاقِعَةِ الْمِفْتَاحِ تُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْآيَةَ مُحْتَجًّا، وَمُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ فِيهَا. فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَأَزَالَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقِدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، عَادَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ يُنْظَرُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْوَاقِعِ، وَتَحْدِيدُ التَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا.
ثَانِيهِمَا: بَيَانُ شَأْنِ الدِّينِ، وَسُنَّةِ التَّشْرِيعِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَ
فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ بِالتَّفْصِيلِ كُلُّ آيَةٍ آيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَتِ الْمَدِينَةُ فِيهِ هِيَ عَاصِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُهُمْ وَنِظَامٌ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، أَوْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَحُكْمِ مَا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ

وَبَدْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَزْوٍ أَوْ نُسُكٍ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
يَغْلِبُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الْإِيجَازُ فِي الْعِبَارَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لِمَا فِي التَّكْرَارِ مِنَ الْفَوَائِدِ ; لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَبَارَى الْبُلَغَاءُ بِالْإِيجَازِ، وَيَغْلِبُ فِي مَعَانِيهَا تَقْرِيرُ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، وَالِاحْتِجَاجُ لَهَا، وَالنِّضَالُ عَنْهَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْبَعْثُ، وَعَمَلُ الْخَيْرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ، وَمُعْظَمُ الْحِجَاجِ فِيهَا مُوَجَّهٌ إِلَى دَحْضِ الشِّرْكِ، وَإِقْنَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَحِجَاجُهَا فِي الْغَالِبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا. فَإِذَا فَطِنْتَ لِهَذَا تَجَلَّى لَكَ أَفَنُ رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَوَائِلَهَا نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ، فَلَا شَيْءَ مِنْ أَحْكَامِهَا كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
افْتُتِحَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِأَحْكَامِ الْيَتَامَى وَالْبُيُوتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ، وَمُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ، وَحُقُوقُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، ثُمَّ ذُكِرَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ فِيهَا بَيْنَ أَحْكَامِ الْبُيُوتِ، وَأَحْكَامِ الْقِتَالِ حِجَاجٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَآدَابِهِ شَيْءٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَاخِرُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ هُنَّ خَاتِمَتُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَمِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا: أَنَّ هَذِهِ قَدِ افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا اخْتُتِمَتْ بِهِ تِلْكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ تَشَابُهَ الْأَطْرَافِ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَنَّ هَذَا آكَدُ وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ. (وَمِنْهَا) مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ شَيْءٍ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِتَالِ. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ أَحْكَامِ الْقِتَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) أَنَّ فِي هَذِهِ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي فُصِّلَتْ وَقَائِعُهَا وَحُكْمُهَا فِي
آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [٤: ٨٨] إلخ. كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ (أُحُدٍ) وَسَبَقَ ذِكْرُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [٤: ١٠٤] وَسَيَأْتِي. وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَا تَتَعَلَّقُ الْمُنَاسَبَةُ فِيهَا بِمُعْظَمِ الْآيَاتِ فَلَمْ أَرَهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ.