
وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو، وتخلفوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ:
«يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: قَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدَا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: بِمَفازَةٍ قَالَ:
بِمَنْجَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا. والمراد:
ذات السموات والأرض وصفاتهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ: تَعَاقُبِهِمَا، وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَكَوْنِ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْآخَرِ، وَتَفَاوُتِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا، وَحَرًّا وَبَرْدًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ لَآياتٍ أَيْ: دَلَالَاتٍ وَاضِحَةٍ، وَبَرَاهِينَ بَيِّنَةٍ، تَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ مَا هُنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفِي الْعَاقِلَ، وَيُوصِلُهُ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ التَّشْكِيكَاتُ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْمَوْصُولُ: نَعْتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ- وَقِيلَ: هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا: ذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يُضَيِّعُونَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُصَلُّونَهَا قِيَامًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعُذْرِ. قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ، أَعْنِي: قِياماً وَقُعُوداً وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي بَدِيعِ صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فَإِنَّ هَذَا الْفِكْرَ إِذَا كَانَ صَادِقًا أَوْصَلَهُمْ إلى الإيمان

بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ مَا خَلَقْتَ هَذَا عَبَثًا وَلَهْوًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى حِكْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «١»
.......
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ:
هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَخَلَقَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، والإشارة بقوله: هذا إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ خَلْقُكَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الدعاء على ما قبله. وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ دَعَاهُ عِبَادُهُ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ:
أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً «٢» | وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرُّهْبَانِ |
خَزَى، يَخْزِي، خِزْيًا: إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ:
لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «يُنَادِي» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَذَكَرَ يُنَادِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مُنادِياً لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ هَذَا الْمُنَادَى بِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِيمانِ: بِمَعْنَى إِلَى وَقِيلَ: إِنَّ يُنَادِي يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى، يُقَالُ يُنَادِي لِكَذَا وَيُنَادِي إِلَى كَذَا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا هِيَ:
إِمَّا تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا: بِأَنْ آمِنُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. قَوْلُهُ: فَآمَنَّا أَيِ: امْتَثَلْنَا مَا يَأْمُرُ بِهِ هَذَا الْمُنَادِي مِنَ الْإِيمَانِ فَآمَنَّا، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لِإِظْهَارِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ هُنَا: الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ. وَالظَّاهِرُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْآخَرِ بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَاحِدًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْغَفْرِ وَالْكُفْرِ: السَّتْرُ. وَالْأَبْرَارُ: جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَارَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَتُهُ، قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ هَذَا دُعَاءٌ آخَرُ وَالنُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ النِّدَاءِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ هُوَ الثَّوَابُ الَّذِي وعد الله به
(٢). في القرطبي (٤/ ٣١٦) : أخرى الإله من الصّليب عبيده...

أَهْلَ طَاعَتِهِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ لَفْظُ الألسن، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١» وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ التَّصْدِيقُ، أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ وَقِيلَ: مَا وَعَدْتَنَا مُنَزَّلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمْ- مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ-، إِمَّا لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ، أَوْ: لِلْخُضُوعِ بِالدُّعَاءِ، لِكَوْنِهِ مُخَّ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا خُلْفَ الْوَعْدِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا عَصَاهُ وَيَدُهُ بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ، وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النوم عن وجهه بيده، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى جَنْبِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». وَثَبَتَ فِيهِ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ حَالَاتُكَ كُلُّهَا يَا ابْنَ آدَمَ، اذْكُرِ اللَّهَ وَأَنْتَ قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاذْكُرْهُ جالسا، فإن لم تستطع فَاذْكُرْهُ وَأَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ، يُسْرٌ مِنَ اللَّهِ وَتَخْفِيفٌ.
وَأَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ تَعْمِيمِ الذِّكْرِ لَا وَجْهَ لَهُ، لَا مِنَ الْآيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذِّكْرُ مِنْ قُعُودٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الذِّكْرِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى جَنْبٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ قُعُودٍ. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِمَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الصَّلَاةَ، كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّفَكُّرِ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَهُ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَيْلَهُ، فَعَدَّ أَصَابِعَهُ عَشْرًا». قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا غَايَةُ التَّفَكُّرِ فِيهِنَّ؟ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّفَكُّرِ مُطْلَقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: من