آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﲿ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ

الخلاص الوحيد من تخلف الأمة وضعفها وفسادها، وتوضيح أحكام الدين لغير المسلمين ودعوة الناس إلى صراط مستقيم حتى يهتدوا به.
وهي أيضا تحذير من أفعال أهل الكتاب والمنافقين الذين يدلسون الحقائق، ويزيفون معاني الكتب المنزلة، ويتخلفون عن الجهاد بالأعذار الواهية.
وهي كذلك احتجاج على اليهود الذين نسبوا الفقر إلى الله والغنى لأنفسهم، وتكذيب لهم، ورد قاطع بأن الله مالك السموات والأرض ومن فيهن، وله القدرة الباهرة على كل شيء، والسلطان النافذ في كل شيء.
توجيه النفوس نحو التفكر في خلق السموات والأرض وجزاء العاملين ذكورا وإناثا
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)

صفحة رقم 202

الإعراب:
الَّذِينَ إما في موضع جر صفة لأولي الألباب، أو في موضع رفع مبتدأ، وخبره:
رَبَّنا على تقدير: يقولون: ربنا، أو خبر مبتدأ محذوف، أو في موضع نصب على تقدير فعل محذوف قِياماً حال منصوب من ضمير يَذْكُرُونَ. وَعَلى جُنُوبِهِمْ حال من ضمير يَذْكُرُونَ. ويَتَفَكَّرُونَ: معطوف على يَذْكُرُونَ. باطِلًا مفعول لأجله.
سُبْحانَكَ اسم مصدر منصوب انتصاب المصادر.
يُنادِي جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة مُنادِياً. لِلْإِيمانِ اللام إما بمعنى إلى الإيمان، أو متعلق ب مُنادِياً أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي. أَنْ آمِنُوا منصوب ب يُنادِي أي ينادي بأن آمنوا، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به. مَعَ الْأَبْرارِ أي أبرارا مع الأبرار، وهو جمع بارّ أو برّ. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
أَنِّي لا أُضِيعُ أي بأني، فحذف حرف الجر. فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وخبره لَأُكَفِّرَنَّ. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا: عطف على عطف. ثَواباً إما منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، كأنه قال: لأثيبنهم ثوابا، أو منصوب على القطع بتعبير الكوفيين وهو الحال عند البصريين، أو منصوب على التمييز. والوجه الأول أوجه الأوجه. وَاللَّهُ مبتدأ، وحُسْنُ الثَّوابِ مبتدأ ثان، وعِنْدِ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو اسم الله تعالى.
البلاغة:
رَبَّنا كرر خمس مرات مبالغة في التضرع من قبيل الإطناب. وَما لِلظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر لتخصيص الخزي بهم. وهناك طباق في قوله السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واللَّيْلِ

صفحة رقم 203

وَالنَّهارِ
وقِياماً وَقُعُوداً وذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. وهناك إيجاز بالحذف في عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، وفي قوله وَيَتَفَكَّرُونَ.. رَبَّنا أي قائلين ربنا.
وفي الآيات جناس مغاير في قوله آمِنُوا.. فَآمَنَّا وفي عَمَلَ عامِلٍ وفي مُنادِياً يُنادِي. لَآياتٍ.. دخول اللام في خبر إن لزيادة التأكيد، والتنكير للتفخيم.
المفردات اللغوية:
إِنَّ فِي خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإتقان. السَّماواتِ كل ما علاك مما تراه في الأعلى. وَالْأَرْضِ ما تعيش عليه، وهو بشكل كروي، كوكب دائر غير ثابت وخَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: إيجادهما من غير مثال سابق، ويشمل كل ما فيهما من العجائب.
اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما ومجيء كل منهما خلف الآخر، مع زيادة ونقصان بحسب الفصول والموقع الجغرافي من الكرة الأرضية. لَآياتٍ لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.
لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول. وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين، أي في كل حال. وعن ابن عباس: يصلون كذلك حسب الطاقة. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليستدلوا به على قدرة صانعهما. رَبَّنا يقولون: ربنا. باطِلًا عبثا لا فائدة منه، بل دليلا على قدرتك.
سُبْحانَكَ تنزيها لك عن العبث وعما لا يليق بك.
أَخْزَيْتَهُ أهنته. وَما لِلظَّالِمِينَ الكافرين، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم. مِنْ أَنْصارٍ من زائدة، أي مؤيدين يمنعونهم من عذاب الله تعالى.
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر معاصينا، واحدها ذنب: وهو مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية.
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا غطّ إساءاتنا، أي الصغائر أو أنواع التقصير في حقوق العباد، فلا تظهرها بالعقاب عليها.
وَتَوَفَّنا أمتنا أي اقبض أرواحنا. مَعَ الْأَبْرارِ في جملة الأخيار المحسنين أعمالهم وهم الأنبياء والصالحون.
وَآتِنا أعطنا. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك من الرحمة والفضل.
ويلاحظ أن سؤال الناس تلك الأمور هو أن يجعلهم من مستحقيه، وتكرار: رَبَّنا مبالغة في التضرع. الْمِيعادَ الوعد بالبعث والجزاء.

صفحة رقم 204

فَاسْتَجابَ أجاب دعاءهم لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي لا أترك ثوابه. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضكم كائن من بعض أي الذكور من الإناث وبالعكس، والجملة مؤكدة لما قبلها، أي سواء في المجازاة بالأعمال وترك تضييعها. نزلت لما قالت أم سلمة: يا رسول الله، إني لا أسمع النساء في الهجرة بشيء. فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة. فِي سَبِيلِي أي بسبب ديني وطاعتي وعبادتي. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أسترها بالمغفرة. ثَواباً مصدر مؤكد من معنى لأكفرن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه التفات عن التكلم. حُسْنُ الثَّوابِ الجزاء.
سبب النزول:
نزول الآية (١٩٠) :
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى به من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..
فليتفكروا فيها. قال ابن كثير: وهذا مشكل، فإن هذه الآية مدنية، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة «١».
نزول الآية (١٩٥) :
فَاسْتَجابَ لَهُمْ: أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ.
المناسبة:
ختمت سورة آل عمران بهذه الآيات، بعد مجادلة الكفار والمنافقين

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ١/ ٤٣٨

صفحة رقم 205

والمقصرين من المؤمنين وردّ الشبهات، لتوجيه الأنظار نحو ما يثبت وجود الله ووحدانيته وعظمته وكبرياءه.
فضل هذه الآيات:
ورد في فضل هذه الآيات أحاديث كثيرة منها: ما رواه ابن مردويه وعبد بن حميد عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا، فقال ابن عمر:
ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي، ثم قال: «ذريني أتعبد لربي عز وجل» قالت: فقلت، والله، إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة، فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد، فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه، فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرءوهن وهو يعقلهن «١».
التفسير والبيان:
إن في إبداع السموات والأرض، الأولى في ارتفاعها واتساعها، والثانية في انخفاضها وكثافتها وصلاحيتها للحياة، وما فيها من نظام بديع وأفلاك وكواكب

(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٤٠ وما بعدها.

صفحة رقم 206

ومجرّات، وبحار وجبال وأنهار، وزروع ونبات وأشجار مثمرة وغير مثمرة، ومعادن وثروات، وتعاقب الليل والنهار مع الطول والقصر والاعتدال على مدار العام وبحسب الفصول والموقع، لأدلة دالة على وجود الله وكمال قدرته وعظمته ووحدانيته، بشرط أن يكون من ذوي العقول التامة الناضجة التي تدرك الأشياء بحقائقها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ، وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف ١٢/ ١٠٥- ١٠٦].
ثم وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم يجمعون بين التذكر والتفكير، يذكرون الله في مختلف أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع، لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.
ويتفكرون ويفهمون ما في السموات والأرض من أسرار ومنافع وحكم دالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ورحمته.
والتفكر يكون في مصنوعات الخالق لا في الخالق، لاستحالة الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته،
أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال: تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون الله قدره».
وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
ويقول المتفكرون الذاكرون: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا ولا أوجدته باطلا زائلا، فأنت منزه عن الباطل والعبث، وكل خلقك حق مشتمل على فائدة وحكمة وقدرة، أي أن المؤمن المتفكر بعد أن تدبر ونظر ودقق وتفكر يتوجه إلى الله تعالى متضرعا معلنا قناعته بحكمة الله العليا في خلق المخلوقات، فاجعل لنا وقاية وحاجزا من عذاب النار، وأجرنا من عذابها، ووفقنا للعمل الصالح

صفحة رقم 207

والاعتقاد الجازم الثابت الصحيح.
ومعنى سُبْحانَ اللَّهِ: تنزيه الله عن السوء، كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث موسى بن طلحة.
إن من أدخلته النار بعدلك وبسبب انحرافه وضلاله وخطئه، فقد أهنته وجعلته ذليلا لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وما للكافرين الظالمين أنفسهم بسبب جورهم وظلمهم أعوان ومؤيدون ينقذونهم من عذاب الله تعالى.
فهو جزاء عادل لمحض الظلم وتجاوز الحدود، وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها.
ربنا إننا سمعنا مناديا داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول:
آمنوا بربكم، فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه، أي أنهم مزجوا إيمانهم بالله وبقدرته، بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شرائع وأحكام وآداب وأخلاق.
ربنا فاستر ذنوبنا الكبائر، وسيئاتنا الصغائر، وأكرمنا بصحبة الأخيار الصالحين، المعدودين في جملتهم، العاملين بمثل أعمالهم، كما قال تعالى:
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء ٤/ ٦٩].
رَبَّنا وَآتِنا: أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، على ألسنة رسلك، أو على الإيمان والتصديق برسلك. وفي هذا إشعار بتقصيرهم، والاعتماد على توفيق الله وعنايته. ولا تفضحنا أمام الناس يوم القيامة، إنك صادق الوعد ومنجزه على الإيمان والعمل الصالح، سواء في الدنيا بالتقدم والتفوق والسيادة، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥] وفي الآخرة بالفوز بالجنة، كما قال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [التوبة ٩/ ٧٢].

صفحة رقم 208

فأجاب الله دعاءهم، لصدق إيمانهم، وجازى كل عامل بعمله، سواء أكان ذكرا أم أنثى، فالذكور والإناث متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الجزاء على صالح الأعمال، ولا غرابة في ذلك فهم من أصل واحد، وكل واحد من الذكور والإناث من الآخر وبالعكس، فالرجل مولود من الأنثى، والأنثى مولودة من الرجل.
وبعد أن ربط الله الجزاء بالعمل أوضح مظاهر العمل، منها الهجرة في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة تأييدا لدعوة الإسلام ومؤازرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الإخراج والطرد من الديار، ومنها الإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل.
فهؤلاء المحسنون أعمالهم يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، أثابهم الله ثوابا من عنده جزاء العمل الصالح، وليس عند الله إلا حسن الثواب والجزاء وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- على الإنسان النظر والتفكر والاستدلال بعجائب صنع السموات والأرض، فهي ترشده إلى الإيمان الصحيح، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير غني عن العالمين لأن الإيمان يجب أن يستند إلى دليل يقيني يدل على تحققه ووجوده، لا إلى التقليد أو محض الوراثة.
٢- قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويقرأ هذه الآيات العشر، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي فرض الصبح وسنته أو ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل.
أخرج أبو نصر الوائلي السّجستاني الحافظ عن أبي هريرة أن

صفحة رقم 209

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة.
٣- المؤمن يلازم ذكر الله تعالى في كل أحواله، من قيام وقعود واضطجاع وغيرها، ليظل على صلة بربه، فقال سبحانه: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤١] وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢/ ١٥٢].
ويدل هذا على أن المصلي يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب،
كما ثبت لدى الأئمة الستة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «كانت بي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب»
والقيام فرض على القادر في صلاة الفريضة، وتصح صلاة النافلة حال القعود وأجره نصف أجر القائم، والمضطجع نصف أجر القاعد،
ورد في حديث عمران بن حصين في رواية: «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد».
والذكر إما باللسان، وإما بالصلاة فرضها ونفلها.
٤- ويضم إلى الذكر عبادة أخرى هي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته لزيادة التبصر، وتقوية الإيمان.
٥- صيغ الدعاء في هذه الآيات تدل على الإيمان بالله والرسول، وعلى الثقة بوعد الله ومصاحبة الأبرار، وعلى كمال الطلب بمغفرة الذنوب وستر العيوب والبعد عن النار، فإن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعدوا بذلك دون الخزي والعقاب. والدعاء على هذا النحو على جهة العبادة، والدعاء مخّ العبادة. وطلب النصر على العدو معجّلا لإعزاز الدين،
روى أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا، فهو منجزّ له رحمة، ومن وعده على ذنب عقابا فهو فيه بالخيار».
ومعنى الدعاء بإنجاز ما وعد الله: طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب

صفحة رقم 210

إنجاز الميعاد، أو هو من باب اللجوء إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم السلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه.
٦- تضمن وعد الله تعالى على صدق الإيمان وصلاح الأعمال أمورا ثلاثة:
أ- محو السيئات ومغفرة الذنوب، لقوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
ب- الظفر بجنان الخلد، لقوله تعالى: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
ج- اقتران الثواب بالتكريم لقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.
٧- الجزاء منوط بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
٨- لا فرق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب، فهما من جنس واحد، ومن نفس واحدة، وبعضهم من بعض في التكليف والأحكام والطاعة والنصرة ونحو ذلك، كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة ٩/ ٧١].
٩- تكرار النداء ب رَبَّنا خمس مرات للاستعطاف وإظهار فضل الله بالتربية والملك والإصلاح.

صفحة رقم 211
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية