كان (١) أصلها: (القائم بالقسط)؛ فلما (٢) قُطعت الألفُ واللامُ نصب (٣).
ومعنى قوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾: قائمًا بالعدل (٤)، كما يقال: (فلان قائم بالتدبير)؛ أي: يُجْرِيه على الاستقامة. فالله (٥) تعالى يُجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور (٦).
١٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]. القُرَّاءُ على كسرِ (إنَّ)، إلَّا الكسائي؛ فإنه فتح (أنَّ) (٧).
والوجه (٨)، الكسر (٩)؛ لأن الكلام الذي قبله قد تمَّ (١٠)، وهذا النحو من الكلام الذي يراد به التنزيه، أن يكون بجُمَلٍ متباينة أحسن؛ من حيث
(٢) من قوله (فلما..) إلى (.. قائمًا بالقسط): ساقط من: (ج).
(٣) ومعنى كلام الفرَّاء: أنَّ الأصل أن تكون (القائم..) معرفة مرفوعة؛ لكونها نعتا للفظ الجلالة المرفوع، وهو معرفة، لكن، لمّا نكرت (القائم)، انقطعت تبعية النعت للمنعوت، فتُرِك الرفعُ إلى النصب. وفي إعرابها وجوه أخر. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٩٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٠، "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣١٦، "التفسير القيم" ١٨٢ - ١٨٣، "الدر المصون" ٣/ ٧٥ وما بعدها.
(٤) القِسْطُ بكسر القاف: العدل، والنصيب. ويقال: (أقسط، يُقْسِط، إقساطًا)، فـ (هو مُقْسِط). والقَسْطُ بفتح القاف: الجَوْر. ويقال قَسَطَ، يَقْسِطُ، قَسْطًا، وقُسوطًا، فهو قاسِط. انظر: (قسط) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩، و"المجمل" ٧٥٢.
(٥) قوله: (فالله تعالى يجري التدبير على الاستقامة): ساقط من: (ج).
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ٧/ ٢٢٢ - ٢٢٣.
(٧) انظر: "السبعة" ٢٠٢ - ٢٠٣، "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٢.
(٨) من قوله: (الوجه..) إلى نهاية قول الله تعالى: (.. والصابرين): نقله عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢٢ بتصرف يسير جدًّا.
(٩) (الكسر): ساقطة من (ج).
(١٠) في (ج): (قديم).
كان أبلغ في الثناء (١)، وأذهب في باب المدح؛ ومن ثمَّ جاء: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧].
فأما وجه قراءة الكسائي، فإن النحويين ذكروا فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون الشهادة واقعة على ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾ (٢)، وفَتح ﴿أَن﴾ في قوله: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ على تقدير: حذف حرف الجر؛ كأنه قيل: (شهد الله؛ لأنه (٣) لا إله إلَّا هو، أنَّ الدين عند الله الإسلام). وهذا معنى قول الفرَّاء، حيث يقول (٤) - في الاحتجاج للكسائي: إن شِئتَ جعلتَ (أنه) على الشرط (٥)، وجعلت الشهادة واقعة على قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾. وتكون ﴿أَن﴾ (٦) الأولى يصلح فيها الخفض، كقولك: شهد الله بتوحيده، أنَّ الدين عند الله الإسلام.
الوجه الثاني: أنه فتحهما على أن الواو تُراد (٧) في قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾؛ كأنه قيل: (شهد الله أنه لا إله إلَّا هو: وأنَّ الدين عند الله الإسلام). فيكون قوله (٨): (أنَّ الدين عند الله الإسلام) جملةً استغني فيها
(٢) في (ب): (الذين).
(٣) في (ج): (أنه).
(٤) في "معاني القرآن": ١/ ١٩٩، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا.
(٥) ويعني بقوله (على الشرط)، أي: على العلة، وسماه شرطًا؛ لأن المشروط متوقف عليه، كتوقف المعلول على علته، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين، ولما كان (أنه) على الشرط لم يقع عليه الفعل، وإنما وقع على (أن الدين). انظر: "الدر المصون" ٣/ ٨٦.
(٦) (أنَّ): ساقطة من: (ج).
(٧) في (ج)، (د): (تزاد).
(٨) (قوله): ساقطة من: (ج)، (د).
عن حرف العطف؛ بما تضمنت من ذكر الأول المعطوف عليه، وهو التوحيد، كما استغني عنه بذلك في قوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، ولو كانت (الواو) لكان ذلك حسنًا (١)، كما قال: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ (٢) [الكهف: ٢٢].
الوجه الثالث: وهو مذهب البصريين: أن تجعل (أنَّ) الثانية بدلًا من الأولى، فكأنَّ (٣) التقدير: (شهد الله أنَّه، أنَّ الدِّينَ عند الله الإسلام). فيكون هذا من الضرب الذي الشيء فيه، هو هو (٤)، نحو قولك: (ضربت زيدًا نفسَه). ألا ترى أنَّ الدين الذي هو الإسلام، يتضمنُ التوحيد، وهو هو في المعنى.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٣) ضعف ابن عطية هذا الوجه في "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٣، وبين أبو حيان وجه الضعف في هذا التخريج، فقال: "وجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاه الفصل نحو: (أكل زيد خبزًا وعمرو سمكًا) وأصل التركيب: (أكل زيد وعمرو خبزا وسمكًا.. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح): "البحر المحيط" ٢/ ٤٠٨.
(٤) وهو ما يسمى: البدل المطابق، أو بدل كلِّ من كل، وهو الذي يساوي المبدل منه في المعنى مساواة تامة.
وإن (١) شئت، جعلته مِنْ بدل الاشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد (٢)، فيكون كقولك: (ضربت زيدًا، رأسَه) (٣). فإن قيل: على هذه القراءة، لو جاز إيقاع الشهادة على (أنَّ الدين)، لم يحسن إعادة اسم الله، ولكان: (أنَّ الدين عنده (٤) الإسلام)؛ لأن الاسم قد سبق، فالوجه الكِنَايةُ عنه. قيل: إنَّ العرب ربما أعادت الاسم في موضع الكناية (٥)؛ كقول الشاعر:
لا أرى الموتَ، يسبقُ الموتَ شيءٌ (٦)
(٢) من قوله: (فكأن..) إلى (.. يشتمل على التوحيد): نقله عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٣ بتصرف يسير.
(٣) انظر هذه التوجيهات، وغيرها لقراءة الكسائي -إضافة إلى ما سبق من مراجع- في: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٥٧٢، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٧٠، "القطع والائتناف" له: ٢١٨، "الحجة" لابن خالويه: ١٠٧، "المشكل" لمكي ١/ ١٥٢، "الكشف" له ١/ ٣٣٨، "البيان" للأنباري ١/ ١٩٥، "الدر المصون" ٣/ ٨٣ - ٨٨.
(٤) في (ج): (عند الله).
(٥) يعني بـ (الكناية): (الضمير).
(٦) صدر بيت، وعجزه:
نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وهو لعدي بن زيد، في "ديوانه" ٦٥. وورد منسوبًا له في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي: ١/ ٣٦، "أمالي ابن الشجري" ١/ ٣٧٩، ٢/ ٦، "الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي: ٨/ ٣٠، "الخزانة" ١/ ٣٧٨، ٣٧٩، ٦/ ٩٠، ١١/ ٣٦٦. وقيل: البيت لسوادة بن عدي، وورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" ١/ ٦٢، والنكت في تفسير "كتاب سيبويه" للشنتمري: ١/ ١٩٨، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٧٦،=
ومثله كثير (١).
فأما المعنى: فقال ابن عباس (٢): افتخر المشركون بآبائهم، فقال كلُّ فريق منهم: لا دين إلَّا ديننا، وهو دين الله منذ بعث الله (٣) آدَم، فكذبهم الله -تعالى-، فقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، يعني الذي جاء به محمد - ﷺ - (٤).
وأصل الدين في اللغة: الجزاء. ثم الطاعة تسمى دينًا؛ لأنها (٥)
(١) انظر: "الكتاب": ١/ ٦١ - ٦٢.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) (الله): ليست في: (ج).
(٤) (صلى الله عليه وسلم): ساقطة من: (ب).
(٥) (لأنها): ساقطة من: (د).
للجزاء، وكل ما (١) يطاع الله تعالى به فهو دين (٢)، فاليهود يدَّعون أنهم يطيعون (٣) بما أتاهم به موسى، فذلك دين اليهودية، وكذلك النصارى، وكل فرقة. والمسلمون يطيعونه بما أتاهم به محمد - ﷺ -، فهو دين الإسلام (٤)، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ ومعنى (الإسلام) في اللغة: الدخول (٥) في السَّلَمِ؛ أي: في الانقياد والمتابعة. قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ (٦) [النساء: ٩٤]؛ أي: انقاد لكم وتابعكم (٧).
(٢) انظر المعاني السابقة لـ (الدين) وغيرها، في "تأويل مشكل القرآن" ٤٥٥، "الكامل" للمبرد: ١/ ٣٢٨، "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٨١، "الأمالي" للقالي: ٢/ ٢٩٥، "والوجوه والنظائر في القرآن الكريم" د. سليمان القرعاوي: ٣٢٣ - ٣٢٨. إلا أن ابن فارس جعل أصل (الدين): الانقياد والذل، وجعل كون الدين بمعنى (الطاعة)؛ أن مرد الطاعة إلى الانقياد. وهكذا خرج بقية المعاني الواردة لـ (الدين). انظر: "معجم المقاييس" ٢/ ٣١٩ (دين).
(٣) في (ج): (د): (يطيعونه).
(٤) في (د): (دين الله الإسلام).
(٥) من قوله: (الدخول..) إلى (.. وتابعكم): نقله بنصه عن "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩.
(٦) وفي: نسخة (د)، وتأويل المشكل: ورد (السلام) بدلا من: (السلم)، وكذلك هي في مصاحفنا. وما أثبته، وردت به القراءة الصحيحة عن نافع، وابن عامر وحمزة، وكذلك وردت عن عاصم من رواية المفضل عنه، وعن ابن كثير من رواية عبيد عن شبل عنه، ويناسب مع إراده المؤلف من معنى بعده وقرأ بقية السبعة: السلام) بالألف الممدوة انظر: "السبعة" ٢٣٦، "الكسف" لمكي ١/ ٣٩٥، "حجة القراءات" لابن زنجلة ٢٠٩.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٥/ ٢٢٦. وقال الخطابي في "غريب الحديث" ٢/ ٤١١:
(السَّلَمُ: الاستسلام) وقال بعد أن أورد آية ٩٤ من النساء بقرأءة (السَّلَم): (أي: من استسلم وأعطى المقادة، وكذلك (الإسلام)؛ إنما هو: الطاعة لله، والانقياد لأمره، وأحدهما مشتق من الآخر). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" ٢/ ٣٩٤، "اللسان" ٤/ ٢٠٧٧ (سلم).
وقيل: أصله: السِّلْم (١). فـ (أَسْلَمَ): دخل في السِّلْم؛ كقولهم: (أشْتى)، و (أَقْحَطَ)، و (أرْبَعَ) (٢). وأصل السِّلْم: السَّلامة؛ لأنه انقياد على السلامة.
ثم من (٣) الإسلام (٤) ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، وهو قوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (٥) [الحجرات:
(٢) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٢. وقد يكون المؤلف نقله عنه مع اختصار وتصرف.
وأشتى أي: دخل في الشتاء، وأقحط: دخل في القحط، وأربع: دخل في الربيع. انظر المرجع السابق.
(٣) من قوله: (من الإسلام..) إلى (قال أسلمت لرب العالمين): نقله بتصرف واختصار عن "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩.
(٤) في (ب): (أسلم).
(٥) الإسلام هنا: هو الإسلام بالمعنى اللغوي، وهو: الانقياد بالجوارح دون القلب. وانقياد اللسان والجوارح في الظاهر يُعد إسلامًا لغةً، وفي نفس الوقت يُكتَفى به شرعًا عن البحث عن خبايا القلوب. (وكل انقياد واستسلام واذعان، يسمى: إسلامًا لغةً) والأعراب المذكورون في الآية هم بعض الأعراب؛ لأنه تعالى قال: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٩٩] انظر: "أضواء البيان" ٧/ ٦٣٦، ٦٣٩.
١٤]؛ أي: انقدنا (١)؛ من خوف السيف.
ومنه، ما هو متابعة وانقياد باللسان والقلب، وهو قوله: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فهذا معنى الإسلام.
وذكر ابن الأنباري (٢) في المسلم قولًا آخر، وهو: أنَّ المسلم معناه: المُخْلِصُ لله العبادة. من قولهم: (سَلَّمَ الشيءَ لفلان)؛ أي: خلَّصه (٣) له، و (سَلِمَ له الشيءُ) (٤)؛ أي: خَلصَ له.
فعلى هذا الإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، وهو التبريء عن الشرك.
وأصله أيضًا من السلامة؛ لأنه يعود إلى أن يُسْلِم دينَه لله، حتى يكون له سالمًا من غير شريك.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.
معنى الاختلاف في اللغة، هو: ذهابُ أحدِ النَفسَيْنِ إلى نقيض ما ذهب إليه الآخر (٥).
(٢) في "الزاهر" ٢/ ٢٠٣. ولكن المؤلف ينقل قول ابن الأنباري عن "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٢ نظرًا لتطابق العبارة مع "التهذيب". وعبارة ابن الأنباري: (المسلم: المخلص لله العبادة، وقالوا: هو مأخوذ من قول العرب: (قد سَلم الشيءُ لفلان): إذا خلص له).
(٣) في (أ)، (ب): (خلَّفته). والمثبت من: (ج)، (د). نظرًا لموافقته لما في "الزاهر" و"التهذيب" ولموافقته للمعنى المراد وهو الإخلاص.
(٤) (الشيء): ساقطة من (ج).
(٥) قال الراغب: (والاختلاف والمخالفةُ: أن يأخذ كلُّ واحدٍ طريقًا غير طريق=
والاختلاف في الأجناس: امتناعُ أحدِ الشيئين أن يَسُدَّ مَسَدَّ الآخر.
وأراد بـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: اليهود (١). قال ابن عباس (٢): يعني: قريظة والنضير وأتباعهم. يقول: لم يختلف اليهود (٣) في صدق نبوَّةِ محمد - ﷺ - لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته وصفته.
﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد: النبي - ﷺ -. وعلى هذا؛ سَمَّى النبي - ﷺ - (العِلْمَ)، وهو يريد المعلوم. والمصدر يقع على المفعول كثيرًا.
والمعنى: أنهم كانوا يصدقونه بنعته وصفته قبل بعثه (٥)، فلما جاءهم اختلفوا فآمن به بعضُهم، وكفر به الآخرون، فقالوا: لست الذي وُعِدْناهُ (٦)، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
ويجوز أن يريد بـ (العِلْم): بيان ما جاء في التوراة من نعت محمد - ﷺ -
(١) وممن قال بأنهم اليهود: الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: إنهم النصارى. وقال ابن السائب: إنهم اليهود والنصارى. ولفظ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعم الفريقين. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٨/ ٦١٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٠، "زاد المسير" ١/ ٣٦٣، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ٢٢٦، "تفسير القرطبي" ٤/ ٤٤.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) (اليهود): ساقطة من: (ب).
(٤) لم أهتد على مصدر قوله.
(٥) (قبل بعثه): ساقطة من: (د).
(٦) في (ج) و (د): (وعدنا به).
وصفته، وبيان ما جاء في شأنه.
يعني: أنهم ما اختلفوا إلَّا بعد صحة علمهم بنبوَّتِه، وإذا كان الاختلاف بعد العِلْم، كان ذلك أبلغ في الكفر والعناد، ودليل هذا التأويل قوله في سورة البقرة: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣].
وقوله تعالى: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ معنى البغي: طَلَبٌ للاستعلاء (١) بالظلم. أخبر الله تعالى عن عِلَّةِ اختلافهم، فقال: فعلوا ذلك طلبًا للرئاسة، وحسدًا له على النُبُوَّةِ. فانتصب (٢) ﴿بَغْيًا﴾ في قول الأخفش (٣) على تقدير: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (٤).
وقال الزجَّاج (٥): والذي هو الأجود؛ أن يكون ﴿بَغْيًا﴾ منصوبًا بما دلَّ عليه: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾. فيكون المعنى: اختلفوا بغيًا بينهم.
قال أبو علي (٦): وجهُ قولِ الأخفش: أنَّ ﴿بَغْيًا﴾ انتصب (٧) على أنه
(٢) في (ج)، (د): (وانتصب).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ١٩٩.
(٤) من قوله: (إلا..) إلى (.. اختلفوا بغيًا بينهم): ساقط من: (د).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٨٧، نقله عنه بنصه.
(٦) في "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني"، له: ١/ ٥٧٣ - ٥٧٥. تَصَرّف في بعض عباراته، ونقل بعضَها بالمعنى.
(٧) قوله: (وجه قول الأخفش: أن بغيًا انتصب): ساقط من: (ج).
مفعول له؛ أي: للبغي؛ كقولك: (جئتُ مَخافةَ الشرِّ، وابتغاءَ الخير). [قال] (١):
وأَغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادِّخارَهُ (٢)
(٢) صدر بيت. وعجزه:
وأصْفَح عن شتمِ اللئيمِ تَكَرُّما
وهو لحاتم الطائي، وهو في: "ديوانه" (ن: دار مكتبة الهلال): ٧٢، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" ١/ ٣٦٨، "الإفصاح" ٢٧٩، "شرح المفصل" ٢/ ٥٤، "اللسان" ٥/ ٣١٦٥ (عور)، "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري: ١/ ٣٩٢، "شرح شواهد المغنى" ٢/ ٩٥٢، "الخزانة" ٣/ ١١٥، ١٢٢. "الجمل" للخليل: ٩٥، "معاني القرآن" للفرَّاء: ٢/ ٥، "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٦٧، "الكامل" ١/ ٢٩١، "المقتضب" ٢/ ٣٤٨، "المحلى" (وجوه النصب)، لابن شقير: ٦٩، "وأسرار العربية" للأنباري: ١٨٧، "الاقتضاب" ١٠٩.
وورد في بعض المصادر بالروايات التالية: (.. اصطناعه وأعرض عن ذات..) و (.. اصطناعه وأصفح عن ذات..) و (.. وأصفح عن شتم..). ومعنى (أغفر): استُر. و (العَوْراء): الكلمة، أو الفعلة القبيحة، و (الادِّخار)، افتعال من (الذُّخر)، بمعنى: الاتخاذ والحفظ، وأصلها: (اذتخار)، فقلبت التاء ذالًا، وأدْغِمَت فيها الذالُ الأصليةُ، فصارت ذالًا مشدوةً، ثم أبدِلَت الذالُ دالًا. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٩٠ (ذخر)، ٥/ ٣١٦٥ (عور)، ٦/ ٣٢٧٤ (غفر). ومعنى البيت: إذا جهل علي الكريمُ بكلمة أو فعلةٍ قبيحة، سترتها عليه، وسامحته، واحتملتها منه؛ للإبقاء على صداقته، ولادِّخاره ليوم احتاج إليه فيه. وإن شتمني اللئيمُ أعرضت عن شتمه والرد عليه؛ إكرامًا لنفسي. والشاهد في البيت: نصب (ادِّخارَه)، و (تكَرُّما) على المفعول لأجله، والأصل فيه: (لادخارِه)، و (للتكرمِ)، فلما حُذِف حرفُ الجرِّ، انتصب الاسمُ.
ووجه قول الزجَّاج: أنَّه انتصب على المصدر؛ كأنه لمَّا قيل: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ دلَّ (١) على: (وما بغى (٢) الذين أوتوا الكتاب). فحُمِلَت ﴿بَغْيًا﴾ عليه (٣). فإن قيل: ما الفصل (٤) بين ما ينتصب على المصدرة نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ (٥)، وما ينتصب على أنَّه مفعول له؛ نحو: (ادِّخاره)، وبابه؟
فالقول: إنَّ الجميع وإن كانا يجتمعان في أنهما ينتصبان عن تمام الكلام؛ فالمفعول له؛ معناه: الإخبارُ بالغرض الذي من أجله فُعِل الفعلُ، والسبب له. والعامل فيه؛ هو هذا الفعل (٦) الظاهر.
وأما (٧) المصدر: فالنحويون يُسَّمونه مفعولًا مطلقًا؛ لأن الفاعل
(٢) في (أ)، (ج): (بغا). والمثبت من: (ب)، (د).
(٣) أي أنَّ (بغيًا) مصدر مؤكِّد (مفعول مطلق)، ويكون التقدير: (وما بغى الذين أوتوا الكتاب... بغيًا). والمعنى بناء على رأي الأخفش: أن الاختلاف بينهم حاصل قبل مجيء العلم وبعده، ولكن سببه بعد مجيء العلم هو البغي، فهو المفعول لأجله. والمعنى على رأي الزجاج: أن الخلاف بينهم حصل بعد مجيء العلم فقط وسببه البغي. هذا والله أعلم.
(٤) في (ب): (الفعل).
(٥) وقد انتصبت (صُنْعَ) بفعلٍ مضمرٍ دلَّ عليه ما قبله؛ لأن معنى الجملة: (صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعًا)، أو (صنع صنعًا، الله). ثم أضاف المصدر إلى الفاعل. ويجوز نصبها على الإغراء؛ أي: (انظروا صنع اللهِ). ولكن ليس هذا الوجه محل الشاهد. انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٢/ ٧٦٨، "إعراب القرآن" للنحاس: ٢/ ٥٣٦، "البيان" للأنباري: ٢/ ٢٢٨.
(٦) في (د): (السبب).
(٧) في (د): (فأما).