آيات من القرآن الكريم

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ

ضلال مبين. ومثله قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (١) [البقرة: ١٩٨].
١٦٥ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ الآية.
الواوُ في ﴿أَوَلَمَّا﴾، لِعَطْفِ جملةٍ على جملة. ودخل أَلِفُ الاستفهام على واو النَّسَقِ (٢)؛ لأنَّ له صدر الكلام.
قال الزجّاج (٣): ومثله من الكلام قولُ القائل: (تكَلّمَ فلانٌ بكذا وكذا) فيقول مجيبًا له: (أوَ هُوَ مِمَّن يقول ذلك؟).
والمعنى: أَوَ حين أصابتكم مُصيبةٌ. ويعنى بالمصيبة: ما أصابتهم يوم أحد.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾.
هو مِنْ صفة النَّكِرَةِ (٤). ومعناه: قد أصبتم مثليها يوم بدر؛ وذلك [أنَّ] (٥) المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحُد سبعين، [وقَتَلَ المسلمونَ منهم يوم بدر، سبعين] (٦) وأسروا سبعين. هذا قول أكثرِ المفسرين: ابن

(١) هذا رأي الكوفيين، ومنهم: الفراء، أنَّ (إنْ) -هنا- نافية، بمعنى (ما)، واللام بمعنى: (إلا)، بينما مذهب أهل البصرة أنَّ (إنْ) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين (إنْ) النافية.
انظر: المصادر السابقة، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٥٦، و"الجنى الداني" ٢٠٩، و"المغني" لابن هشام ٣٠٦.
(٢) النَّسَق، هو: العطف.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٧. نقله عنه بتصرف يسير.
(٤) أي: في موضع رفع؛ صفة لـ (مصيبة).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).

صفحة رقم 151

عباس (١)، وقتادة (٢)، وعكرمة (٣)، والربيع (٤)، والسُدِّي (٥).
وقال بعضهم (٦): أي: أَصبتم في يوم أحد مثلها (٧)، وفي يوم بدر مثلها (٨). فقد أصَبتم مِثْلَيْ ما أصابكم، وقتلوا منكم في يوم أُحُد، وقتلتم منهم في يومين. وهذا اختيار الزجّاج (٩).
والأول أصح؛ لأن الكفار يوم بدر، نالوا مِنَ المسلمين -أيضًا- (١٠)؛ بقتل بعضهم (١١).

(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٠.
(٢) قوله في المصدرين السابقين.
(٣) قوله في المصدرين السابقين.
(٤) قوله في المصدرين السابقين.
(٥) قوله في المصدرين السابقين.
وانظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧١، و"عيون الأثر" ١/ ٤٣٢، ٢/ ٤٧ - ٤٨، و"فتح الباري" ٧/ ٣٠٧، كتاب المغازي. باب ١٠ رقم الحديث: (٣٩٨٦).
قال ابن حجر: (واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحُد، وأنَّ المراد بـ ﴿أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد من المسلمين بأحد سبعون نفسًا). "الفتح" ٧/ ٣٠٧ وقد عدَّه الطبري إجماعًا. انظر "تفسيره" ٤/ ١٦٤.
(٦) لم أقف على من قال بهذا القول. إلا ما ورد عن الزجاج كما سيأتي.
(٧) حيث قتل من الكفار يوم أحد ثلاثة وعشرون رجلًا. انظر: "عيون الأثر" ٢/ ٤٨.
(٨) (وفي يوم بدر مثلها): ساقط من (ج).
حيث قَتَلَ المسلمون من الكفار سبعينَ -كما سبق-، ولا مَدْخَلَ للأسرى -هنا- على هذا القول؛ لأنهم قد تم فداؤهم، فلا تتم المماثلة بهم.
(٩) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٨.
(١٠) في (ب): (تعبا).
(١١) في (أ): (بعضُهم) برفع الضاد. وفي (ب)، (ج): مهملة. والصواب ما أثبت. واستشهد من المسلمين في بدر: أربعة عشر رجلًا؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. انظر: "عيون الآثر" ١/ ٤٣٢.

صفحة رقم 152

وقوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾.
جواب الاستفهام. ومعناه: قلتم: مِنْ أينَ أصابَنَا هذا القتلُ والهزيمة، وقد تقدم الوَعْدُ بالنُّصْرَةِ، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا، والوحي ينزل عليه [فينا] (١)؟.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
فيه ثلاثة أوْجُه:
أحدهما -وهو قول أكثر أهل التأويل-: أن (٢) معناه: أنّكم تركتم ما أمِرْتُم به، وطلبتم الغنيمةَ وتركتم مراكزكم، فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاء الشَّرُّ. وهذا قول: الكلبي (٣)، وعطاء (٤)، واختيار: الفرّاء (٥)، والزجّاج (٦).
وعلى هذا القول: أضاف إليهم المعصيةَ والهزيمةَ، وإنْ كانت مخلوقة لله -تعالى- مُرَادةً، لأن المعصيةَ تضاف إلى العاصي من حيث المباشرة والكَسْب (٧).

(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٢) (أن): ساقطة من (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) لم أقف على مصدر قوله. وقد يكون قوله هو قول ابن عباس الذي أورده ابن الجوزي في: "الزاد" ١/ ٤٩٦؛ حيث إن أغلب أقوال عطاء التي يوردها المؤلف هي روايته عن ابن عباس.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦، وقد نقل المؤلف هذا القول عنه بنصه، وهو من قوله (تركتم ما أمرتم) إلى (.. جاء الشر).
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٨. وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣١١، وأبي الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣١٣.
(٧) (الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع، أو خير، كما قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦]. "مجموع فتاوى ابن تيمية" ٨/ ٣٨٧ =

صفحة رقم 153

والثاني: أن معنى قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: بخرُوجِكُم مِنَ المدينة، وخلافكم على رسولكم؛ وذلك أنه دعاهم إلى التَحَصُّنِ بالمدينة، وكان (١) قد رأى في المنام أنَّ عليه درْعًا حَصِينَةً، فأوَّلَها: المدينة. فقالوا: كنا نَمْتَنِع في الجاهلية، ونحن اليوم أحقُّ بالامتناع، فأكرهوا رسولَ الله على الخروج. وهذا قول: قتادة (٢)، والربيع (٣)، وابن عباس -في رواية عطاء- (٤)؛ لأنه قال: يريد: حيث اختلفوا على النبي - ﷺ - (٥).
الوجه الثالث (٦): ما روي عن علي - رضي الله عنه -، أنه قال: جاء جبريلُ إلى النبي - ﷺ -، يوم بَدْر، فقال (٧): يا محمدُ: إنَّ الله -تعالى- قد كَرِهَ ما صَنَعَ

= وانظر:"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٤٤٨.
وقد نقل السفاريني بعض اصطلاحات المتكلمين حول الكسب، فقال: (الكسب في اصطلاح المتكلمين: ما وقع من الفاعل مقارنًا لقدرة محدثة واختيار، وقيل: هو ما وجد بقدرة محدثة في المكتسب.
وقال العلَّامَةُ ابنُ حمدان -من علمائنا-: الكسب هو ما خلقه الله في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته في كسبه..). "لوامع الأنوار" ١/ ٢٩١. وانظر ما بعدها. وانظر للتوسع في موضوع الكسب: "شفاء العليل" ١٢١ وما بعدها، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٤٣٨ وما بعدها، و"المعتزلة وأصولهم الخمسة" ١٦٩ - ١٨٤، و"أفعال العباد في القرآن الكريم" لعبد العزيز المجذوب ٣٢٥ وما بعدها، و"الكليات"، لأبي البقاء ١٦١.
(١) (وكان): ساقطة من (ج).
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٤، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٦، و"الدر المنثور" ٢/ ١٦٦، وزاد السيوطي نسبته إلى عبد بن حميد.
(٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٥، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٦.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) انظر ما سبق عند تفسير الآية: ١٥٢ ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.
(٦) في (ج): (الثاني).
(٧) في (ج): (وقال).

صفحة رقم 154

قومُكَ في أخذهم الفداءَ من الأُسارى، وقد أمرك أن تُخَيِّرَهم بين أن يُقَدِّمُوا الأُسارى فَيَضْرِبُوا أعناقَهم، وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقْتَلَ منهم عِدَّتُهُم. فَذَكَرَ ذلك رسولُ الله - ﷺ - لقَومِهِ، فقالوا: يا رسول الله: عشائرُنا وإخواننا، لا؛ بل نأخذ فِدَاهم (١)، فنقوى (٢) به على قتال العدوِّ، ويُستشهد منّا بعددهم (٣).
فقُتِلَ منهم يوم أحد سبعون رجلًا، عدد (٤) أُسارى أهلِ بَدْر. فهو معنى قوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: بأخْذِكُم الفداء، واختياركم القَتْلَ (٥).

(١) هكذا جاءت في: (أ)، (ب)، (ج). على التخفيف. والأصل فيها أن تكون: (فداءهم). كما هي في "تفسير الطبري". وقد وردت في بعض ألفاظ الحديث: (.. بل نفاديهم)، ووردت: (قالوا الفداء).
(٢) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج). وجاءت في المصادر التالية: (فنتقوّى).
(٣) الحديث أخرجه: الترمذي في "السنن" رقم (١٥٦٧. كتاب السير. باب ١٨ (ما جاء في قتل الأسارى والفداء) وقال الترمذي: (حديث حسن غريب)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ١/ ١٦٦، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٢٩، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٥٩ وزاد نسبة إخراجه للنسائي، ولم أهتد إليه في (سننه) المطبوعة.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٣٦٨ وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وابن مردوية.
(٤) في (ج): (بعدد).
(٥) قال الشوكاني -بعد إيراده لهذا الأثر عن علي - رضي الله عنه -: (ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق؛ ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء، بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وما رُوي من بكائه - ﷺ -، هو وأبو بكر؛ ندمًا على أخذ الفداء. ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله -سبحانه-، لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي - ﷺ -، ومن معه من الندم والحزن، ولا صوَّب النبي - ﷺ - رأي عمر - رضي الله عنه -، حيث أشار بقتل الأسرى، وقال ما معناه: لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر). "فتح القدير" ١/ ٥٩٨ - ٥٩٩.

صفحة رقم 155
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية