
بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}؛ يريد: المنافقين.
وقال الزجاج (١): يروى أن النبي - ﷺ -، حين أمر المسلمين يوم أحد بالحرب، اتَّبَعَهُ المؤمنون، وتَخَلَّفَ عنه جماعةٌ مِنَ المنافقين (٢).
فأعلم الله عز وجل: أنّ مَنْ اتَّبَعَ نَبِيَّهُ، اتَّبَعَ رِضوانَهُ، وأنَّ مَن تَخَلّف عنه فقد باء بِسَخَطٍ مِنَ الله.
ومعنى (باءَ به)؛ أي: احتمله، ورَجَع به. وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (٣).
١٦٣ - قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: ذَوُو (٤) درجات. فحذف المضاف. وحَسُن ذلك ههنا؛ لأن اختلاف أعمالهم، قد صيَّرَهم بمنزلة المختلفي الذوات، كاختلاف مراتب الدرجات؛ لتبعيدهم من استواء الأحوال، فجاء على هذا المَجَاز.
والمجاز في موضعه، أحسنُ مِنَ الحقيقة، لِمَا فيه [مِنَ] (٥) الإيجاز مِن غيرِ إخلال، ومِنَ المُبالغة التي لا ينوبُ مَنَابها الحقيقة، إذْ (٦) قولك: (هو الشمسُ ضياءً)، أبْلَغُ في النفس مِن: (هو كالشمس ضياءً). فكذلك: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ (٧)، أبلغ مِنْ: (هم أهلُ درجاتٍ) (٨).
(٢) انظر: تفسير ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ آية: ١٢٢ من سورة آل عمران.
(٣) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ البقرة: ٦١.
(٤) في (ب): (ذو).
(٥) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٦) في (أ)، (ب): إذا. والمثبت من (ج).
(٧) في (أ): (بدرجات درجات).
(٨) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٦، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥٠٦. =

وأصل الدَّرَجَةِ: الرُّتْبَةُ (١)، ومِنْهُ: (الدَّرْجُ)، لأنه يُطوَى رُتْبةً بعد رُتْبةٍ؛ قال: (أدْرَجَني إدْرَاجًا) (٢) و (الدَّرَجَانُ) (٣): تَقارُبُ الخَطْوِ؛ كَمِشْيَة الشَّيْخ، والصَّبِيِّ؛ لتقارُبِ الرُّتَبِ (٤).
فأما التفسير: فالآيةُ تحتملُ ثلاثةَ أوجه:
أحدها: أن يكون المراد بقولهم: دَرَجاتُ المؤمنين والكافرين جميعًا. والمعنى: أن المؤمنين ذَوُو (٥) دَرَجةٍ رفيعةٍ، والكافرين ذَوُو
(١) انظر (درج) في: "جمهرة اللغة" ١/ ٤٤٦، و"التهذيب" ٢/ ١١٦٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٥١، وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٢.
قال الراغب: (الدرجة، نحو المنزلة، لكن يقال للمنزلة: (درجة)، إذا اعتُبِرت بالصعود، دون الامتداد على البسيط؛ كدرجة السطع والسلَّم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة..). "مفردات ألفاظ القرآن": ٣١٠ (درج).
(٢) قال ابن دريد: (والدَّرْج: مصدر (دَرَجْتُ الشيء دَرْجًا)، و (أدرجته إدراجًا): إذا طويته). "جمهرة اللغة" ١/ ٤٤٦.
وأراد المؤلف، هنا والله أعلم: الدَّرْج -أو الدَّرَج-: الذي يُكتَبُ فيه. يقال: (أنفذته في دَرْج الكتاب)؛ أي: في طَيِّه. انظر: "الصحاح" ٣١٤ (درج).
وفي "مفردات ألفاظ القرآن": ٣١١ (درج): (والدرْج: طيُّ الكتاب والثوب. ويقال للمطوي: دَرْج).
(٣) في (أ)، (ب): (والدرجات). والمثبت من: (ج)، ومصادر اللغةُ.
(٤) انظر: (درج) في: "التهذيب" ٢/ ١١٦٧، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٣١١، و"اللسان" ٣/ ١٣٥١.
(٥) في (ب): (ذو). وكذا في الموضع التالي.

درجةٍ (١) خَسِيسَةٍ.
وهذا الوجه مروي عن ابن عباسٍ، قال (٢): يعني أنَّ مَن اتَّبَعَ رِضْوانَ الله، ومَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله، مختلِفُو (٣) المَنَازِلِ عند الله فَلِمَن اتبع رِضْوانه الكرامةُ والثواب، ولِمَن باء بسخطٍ منه المَهَانةُ والعذاب.
وهذا قول الكلبي -أيضًا-، فإنه قال (٤): هم درجاتُ، بعضهم أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ، وكلٌّ في عذابٍ وهَوَانٍ، وأهل الجَنَّةِ بعضهم أفضلَ من بعض، وكلٌّ (٥) في فَضْلٍ وكَرَامَةٍ (٦).
الوجه الثاني: أن تكون الآيةُ خاصَّةً في المؤمنين؛ يريد: أنَّ بعضهم أرفع درجة عند الله مِنْ بعض.
وهذا قول ابن عباس -في رواية عطاء-، قال (٧): يريد: أصحاب النبي - ﷺ -، بعضهم أفضل من بعض، وهذا أيضًا اختيارُ الفرّاء، قال (٨): يقول: هم في الفضل مختلفون، بعضهم أرفع من بعض.
الوجه الثالث: أن تكون الآية خاصة في الكافرين (٩). وهذا قول
(٢) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٣ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٢٩، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٣.
(٣) في (ب): (يختلفوا).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) من قوله: (وكل..) إلى (.. بعضهم أفضل من بعض): ساقط من (ج).
(٦) وهو قول ابن إسحاق، واختيار الطبري. انظر: "تفسيره" ٤/ ١٦٢.
(٧) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦. نقله عنه بتصرف.
(٩) في (ج): (المنافقين).

الحسن، يقول (١): بعض أهل النار أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ؛ ألا تَرَاهُ (٢) يقول: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: ١٣٢].
قال: وبلغني أن النبي - ﷺ - قال: (إنَّ منها (٣) ضحْضاحًا (٤)، وإنَّ منها غَمْرًا (٥)، وإني لأرجو أنْ يكون أبو طالب في ضحْضَاحِها) (٦).
أ- يعني أهل الخير وأهل الشر درجات.
ب- إنها درجات الجنة.
ج- للناس درجات بأعمالهم، في الخير والشر. انظر: "تفسير الحسن البصري" ٢٤٦، ٢٤٧.
(٢) في (ج): (تسمعه) بدلًا من: (تراه).
(٣) الضمير يعود على النار.
(٤) أصل الضحْضَاح: الماء القليل، الرقيق، أو الذي يصل إلى الكعبين. فشَبَّه قِلَّةَ النار به. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٢/ ٤٠٠، و"الفائق" ٢/ ٣٣٢.
(٥) الغَمْر: الماء الكثير. وجمعه: غِمَار، وغُمُور. انظر: "القاموس" ٤٥٢ (غمر).
(٦) هذا الجزء من قول الحسن (والمتضمن حديث النبي - ﷺ -، المرسل عن الحسن (إن منها ضحضاحا..)، قد ورد بألفاظ مختلفة من طريق أخرى صحيحة، في بيان حال أبي طالب عم النبي - ﷺ -، يوم القيامة.
فقد أخرج البخاريُّ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي - ﷺ -: ما أغنيت عن عمك؟ فوالله كان يحيطك ويغضب لك. قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار". "الصحيح" (٣٨٨٣). كتاب مناقب الأنصار. باب قصة أبى طالب، (٦٢٠٨) كتاب الأدب. باب كنية المشرك.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (٢٠٩) كتاب الإيمان رقم (٣٥٧) باب شفاعة النبي - ﷺ - لأبي طالب، وورد في لفظٍ لمسلم: "نعم وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله - ﷺ - وذُكِرَ عنده عَمُّهُ أبو طالب، فقال -واللفظ للبخاري-: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه". =