
حتى لا يبقى منهم أحد عندك فَاعْفُ عَنْهُمْ أي تجاوز عن زلاتهم وما أتوا يوم أحد وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي واسأل الله المغفرة لهم حتى يشفعك فيهم وقيل فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحقوق الله وذلك من تمام الشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم. واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة لهم مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته وعلى كافة الخلق فيما أحبوا أو كرهوا. فقيل هو عام مخصوص والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه. وقيل أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم. وقال الحسن قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده من أمته، وقيل إنما أمر بمشاورتهم ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأيا وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أن يشاور فيه الأمة وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك وقيل أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شاورهم في أسارى بدر وهو من أمر الدين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبر قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح ومنها أنه إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه وقال بعضهم في مدح المشاورة:
وشاور إذا شاورت كل مهذب | لبيب أخي حزم لترشد في الأمر |
ولا تك ممن يستبد برأيه | فتعجز أو لا تستريح من الفكر |
ألم تر أن الله قال لعبده | وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر |
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٠ الى ١٦١]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعني إن يعنكم الله بنصره ويمنعكم من عدوكم كما فعل يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ يعني من الناس لأن الله تعالى هو المتولي نصركم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما فعل يوم أحد فلم ينصركم ووكلكم إلى أنفسكم لمخالفتكم أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لا على غيره لأن الأمر كله لله ولا راد لقضائه ولا دافع لحكمه فيجب أن يتوكل العبد في كل الأمور على الله تعالى لا على غيره. وقيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره ولا لعملك شاهدا سواه (م) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير صفحة رقم 312

حساب قالوا ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام آخر فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. قوله عز وجل: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قال ابن عباس نزلت هذه الآية وما كان لنبي أن يغل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض القوم لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها. أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب وروي عن الضحاك قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلائع فغنم النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يقسم الطلائع فأنزل الله تعالى وما كان لنبي أن يغل وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل يقول ما كان لنبي أن يقسم إلى طائفة من المؤمنين ويترك طائفة ويجوز في القسم ولكن يقسم بالعدل ويأخذ فيه بأمر الله ويحكم فيه بما أنزل الله يقول ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه فإذا فعل ذلك النبي استنوا به وقال مقاتل والكلبي نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة. وقالوا نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا تقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم بل ظننتم أنا نغل فلا نقسم فأنزل الله هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعني فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية وقال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن إسحاق بن يسار هذا في شأن الوحي يقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة والغلول هو الخيانة. وأصله أخذ الشيء في خفية يقال غل فلان يغل قرئ بفتح الياء وضم الغين أي وما كان لنبي أن يخون لأن النبوة والخيانة لا يجتمعان لأن منصب النبوة أعظم المناصب وأشرفها وأعلاها لا تليق به الخيانة لأنها في نهاية الدناءة والخسة والجمع بين الضدين محال فثبت بذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخن أمته في شيء لا من الغنائم، ولا من الوحي. وقيل المراد به الأمة لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول والخيانة فدل ذلك على أن المراد بالغلول غيره وقيل اللام فيه منقولة معناه ما كان النبي ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء وقيل معناه ما كان لنبي الغلول أراد ما غل نبي قط فنفى عن الأنبياء:
الغلول وقيل معناه وما كان يحل لنبي الغلول وإذا لم يحل له لم يفعله وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الغلول. في بعض الروايات فبين الله تعالى بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به ونفى عنه ذلك بقوله وما كان لنبي أن يغل وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين ولها معنيان أحدهما أن يكون من الغلول أيضا ومعناه وما كان لنبي أن يخان أي تخونه أمته والثاني أن يكون من الإغلال ومعناه وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بالشيء الذي غله بعينه يحمله على ظهره يوم القيامة ليزداد فضيحة بما يحمله يوم القيامة وقيل يمثل ذلك الشيء في النار ثم يقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع ذلك الشيء في النار فيكلف أن ينزل إليه ليخرجنه يفعل به ذلك ما شاء الله وقيل معناه أنه يأتي بإثم ما غله فيجازى به يوم القيامة وهو قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر والمعنى أن كل كاسب خيرا كان ذلك الكسب أو شرا فهو مجزى به يوم القيامة وهو في جزاء عمله وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني بل يعدل بينهم يوم القيامة في الجزاء فيجازى كل على عمله.
(فصل في ذكر أحاديث وردت في الغلول ووعيد الغال) وقد تقدم أن أصل الغلول هو أخذ الشيء في خفية وأنه الخيانة إلا أنه قد صار في العرف مخصوصا