
أن آيات الأنفال [١٥- ١٦] قد نهتهم عن الفرار. وأنذرتهم إنذارا قاصما على ما شرحناه في سياقها. كما أن آية الأنفال [٤٥] قد أمرتهم بالصبر والثبات. ولقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلّتهم وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم وأن يكتفي بما وجهه إليهم في الآيات من عتاب وتأنيب وتحذير وتنبيه. وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عفو الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية.
ولقد قال المفسرون في صدد جملة بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إنها تعني عصيان رسول الله وحبّ الغنيمة وكراهية الموت. ولا يخلو هذا من وجاهة متصلة بظروف ما وقع يوم أحد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
. (١) ضربوا في الأرض: خرجوا للسياحة أو التجارة.
(٢) غزّى: جمع غاز.
وفي هذه الآيات:
١- تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل: إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.

٢- وتقرير بأنه من وراء مثل هذه الأقوال إلّا الحسرة وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله. ولكلّ نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
٣- وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى... إلخ والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين «١» يقولون ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون ومنهم من يخصّ بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محلّه. وفحوى الآية الأولى يدلّ على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلّما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصدّ. ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [١٥٤] أقوالهم ومن جملتها لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ