الأسد، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم، وقيل: الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد، والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر، والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فاغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم. واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على صرفكم وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على يَدْعُوكُمْ نعم التعليل عليه بقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد، وكذا على ما ذهب إليه المغربي، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه.
وقيل: لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول بزيادتها. وقيل: التعليل على ظاهره و «لا» ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن، ولا يخفى ما فيه، وربما يقال: إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة- لا- ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى:
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ إلخ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها، وفي المقصد الأسنى- الخبير- بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا، وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عطف على فَأَثابَكُمْ والخطاب للمؤمنين حقا، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان، وتذكير عظم المنة أَمَنَةً مصدر كالمنعة وهو مفعول أَنْزَلَ أي ثم أنزل عليكم أمنا نُعاساً بدل اشتمال منها، وقيل:
عطف بيان، وجوز أن يكون نُعاساً منصوبا على المفعولية وأَمَنَةً حال منه والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة، أو على أنه جمع آمن كبار وبررة.
وقيل: إن أمنة مفعول له لنعاسا، واعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة، ورد أنه ليس للفعل موقع حسن، وقيل: إنه مفعول له لأنزل.
واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل أنزل هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم، ورد بأن الأمنة كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه، والمراد هنا الثاني كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل وقرئ بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن المقدم، والتشويق إلى المؤخر، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام،
فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدرا من قابل فقال لهم: نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا فقال: انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا، ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلّى الله عليه وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فلذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ إلخ،
وعن ابن عباس في الآية قال: آمنهم الله تعالى يومئذ
بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام.
وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته- أي ترسه- من النعاس، وعن الزبير بن العوام مثله قيل: وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الإلهية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامة الأنصار، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل، والجملة في موضع نصب على أنها صفة- لنعاسا- وقرأ حمزة والكسائي- تغشى- بالتاء الفوقانية على أن الضمير- للأمنة.
والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابا لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنة؟ فأجيب بأنها تغشى طائفة، وقيل: إنها في موضع الصفة لأمنة، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه وَطائِفَةٌ وهم المنافقون. قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهما له ومقصودا والحصر مستفاد من المقام، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره، طائِفَةً مبتدأ وجملة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ إلخ خبره، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا | محياك أخفى ضوء كل شارق |
إذا مت كان الناس صنفان شامت | وآخر مثن بالذي أنا صانع |
وقال ابن الحاجب: غَيْرَ الْحَقِّ وظَنَّ مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا يَظُنُّونَ محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل، وأبو البقاء يجعل غَيْرَ الْحَقِّ مفعولا أولا أي أمرا غير الحق، وبِاللَّهِ في موضع المفعول الثاني وإضافة ظَنَّ إلى الجاهلية قيل: إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له، وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضا. صفحة رقم 307
يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يقول لحاضرون منهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صورة الاسترشاد: هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء، واختاره بعض المحققين.
والجملة قيل: إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها، أو بدل من يَظُنُّونَ وهو بدل الكل بحسب الصدق، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم، واستشكل بأن قوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنا إلخ تفسير ل يَظُنُّونَ وترجمة له والاستفهام لا بكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول: أخبرني زيد قال: لا تذهب أو أمرني قال: لا تضرب، أو نهاني قال: اضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة.
وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع استفهام ترجمة له؟ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير كون الاستفهام حقيقيا، وأما على تقدير كونه إنكاريا فلا إشكال، ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية، وبعض من جعله إنكاريا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، وقد قال ذلك عبد الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل: وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه، وقيل: الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، ومِنْ الثانية سيف خطيب، وشَيْءٍ في موضع رفع على الابتداء، وفي خبره كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما لَنا فمن الأمر حال، والثاني مِنَ الْأَمْرِ فلنا تبيين وبه تتم الفائدة قُلْ يا محمد إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى وأوليائه فينصر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان، أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء وتجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء، وعلى هذا لا كناية في الكلام، وجاء مؤكدا لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك.
واستظهر في البحر من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقيا على حقيقته إذ لو كان معناه نفى أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى- ليس لنا من الأمر شيء- بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على ذلك التقدير أيضا أما إذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعارا بأن لهم تدبيرا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن، وقرأ أبو عمرو ويعقوب كُلَّهُ بالرفع على الابتداء والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا له، والجملة خبر إِنَّ، وأما على قراءة النصب فكل توكيد لاسم إِنَّ ولِلَّهِ خبرها.
وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون كُلَّهُ بدلا من الْأَمْرِ وفيه بعد يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي ما لا يستطيعون إظهاره لك، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير يَقُولُونَ وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الاحتمال الثاني في الآية الأولى، والذاهب إلى حمل الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضا على ما مر، والجملة الجوابية اعتراضية في كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح، وأما جعل هذه الجملة حالا من ضمير قُلْ والرابط لك فلا يخفى حاله يَقُولُونَ أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا منافقين، والجملة إما بدل من يُخْفُونَ أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: ما الذي أخفوه؟ فقيل ذلك، ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم هَلْ لَنا للمؤمنين ليس في حال قولهم لَوْ كانَ لَنا لأصحابهم، وبدل الحال حال، وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين، وقيل: لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد، وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنيا على التضييق كما لا يخفى، ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فان.
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله تعالى ولأوليائه ما قُتِلْنا فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا به أولا، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه، ومعنى ما قُتِلْنا ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته، ويحتمل أن يكون الإسناد مجازيا بإسناد ما للبعض للكل، فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة، والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال: لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له: ما ترى فقال: إنا والله ما نؤامر لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله تعالى ثم أنزل إلى هاهُنا وقد يقال: إن هذا القول منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم ابتداء وقصة الله تعالى علينا رادا له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الاستفهام إنكاريا وأما على تقدير أن يكون حقيقيا ففيه خفاء فتأمل قُلْ يا محمد في جواب ذلك لَوْ كُنْتُمْ أيها المنافقون فِي بُيُوتِكُمْ ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم لَبَرَزَ أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز الَّذِينَ كُتِبَ في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في تلك المعركة إِلى مَضاجِعِهِمْ أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب، وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة
وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك، ولأن الظاهر من «عليهم» أنهم مقتولون لا قاتلون، وقيل:
المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا: لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن مطلقا للحي والميت فهو حقيقة، وقرئ «كتب» بالبناء للفاعل، ونصب «القتل» و «كتب عليهم القتال» و «لبرّز» بالتشديد على البناء للمفعول وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم معاملة المبتلى الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل معطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وَلِيَبْتَلِيَ إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا.
والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى: أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظا أو معنى، وقيل: إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى: لِيَبْتَلِيَكُمْ أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة وكلتا العلتين لَبَرَزَ الَّذِينَ كأنه قيل: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ لنفاذ القضاء، أو لمصالح جمة وللابتلاء.
واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم.
وقيل: إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق: وقيل: للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم وظاهر قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل: لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال: اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره، وفي القرآن أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٤٢] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: ٢٢] ومن هنا قال بعض السادات: القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، وربما يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناء على أن المراد بالجمعين واحد.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه، وفي الآية وعد ووعيد أو
أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين، واختار الصدور هاهنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقا بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال: إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضا.
ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالا من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال: إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلا من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالا فيها دون الثانية لأنها لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الدبر عن المشركين بأحد مِنْكُمْ أيها المسلمون، أو أن الذين هربوا منكم إلى المدينة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وهما جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وجمع أبي سفيان. إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة- ومعنى السببية- انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج: إن للشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة | بكوفة الجند غالت ودها غول |
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مستة سراء |
أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين فيه ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا للظنون بأتم وجه، وقد يقال: صفحة رقم 311
هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب صغائرها وكبائرها حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي.
ومجاهد- وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان- كما يقوله الكرامية- وإلا لما لما سمي المنافق كافرا، وقيل: المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في المذهب أو النسب، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم: يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا- قال السدي- وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل: أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل: اكتفى بذكر الأرض مرادا بها البر عن ذكر البحر، وقيل: المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد، وجيء- بإذا- وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه إِذا مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضارا لصورة ضربهم في الأرض، واعترض بوجهين: الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى إِذا ضَرَبُوا حين يضربون فيما يستقبل، الثاني أن قولهم: لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض.
وأجيب عن الأول بأن إِذا ضَرَبُوا في معنى الاستمرار كما في وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ١٤، ٧٦] فيفسد الاستحضار نظرا للحال، وعن الثاني بأن قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا قالوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفا كما في قوله تعالى: فَإِذا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة: ١٩٨] وكقولك إذا طلع هلال المحرم: أتيتك في منتصفه.
وقال الزجاج: إِذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل إِذا ضَرَبُوا ظرفا لقالوا بل ظرف لما يحصل للإخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل: قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إِذا ضَرَبُوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني، وأنت تعلم أن تجريد إِذا عن معنى الاستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقا كاف في توجيه الآية مزيل لاشكالها، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جوابا إذ يصير مستقبلا فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضا ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد، وأقعد منه- وإن كان بعيدا- ما قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار إِذا على الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل على أن ضمير لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه، والتقدير وَقالُوا مخافة هلاك إخوانهم إِذا ضَرَبُوا أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما لم يحملوا إِذا هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: ١] لتصفوا لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور، وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله:
وإني لآتيكم تشكر ما مضى | من الأمر واستيجاب ما كان في غد |
وندمان يزيد الكأس طيبا | سقيت «إذا» تغورت النجوم |
ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى | لها قلب «عفّى» الحياض أجون |
فيوما «بغزاء» ويوما بسرية | ويوما بخشخاش من الرجل هيضل |
(والثاني) : أنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل: قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناء على أن المراد به صفحة رقم 313
السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا بأن لم يسافروا أو يغزوا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا، والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمرا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا، وتقدير فماتوا، أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- على أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، واعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو. وكأن القائل التبس عليه استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة.
وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببا لدخول الجنة، وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سبب لدخولها. ثم قال: والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- والإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون وَقالُوا ابتداء كلام معطوفا على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات، وعلى كل من الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدا إلى الكافرين، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال.
وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة- بقالوا- حينئذ لا غير، ووجه الآية بما يقضي منه العجب وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما، وقيل: المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر
لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة- غير عاصم- يعملون بالياء، وضمير الجمع حينئذ للكفار، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف.
هذا (ومن باب الإشارة) وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ نَبِيٍّ مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية قاتَلَ مَعَهُ عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة رِبِّيُّونَ متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات وَما ضَعُفُوا في طلب الحق وَمَا اسْتَكانُوا وما خضعوا للسوى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد في جهاد النفس وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات وَثَبِّتْ أَقْدامَنا في مواطن حروب أنفسنا وَانْصُرْنا بتأييدك وإمدادك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين لربوبيتك فَآتاهُمُ اللَّهُ بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى ثَوابَ الدُّنْيا وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو مقام توحيد الذات وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا وهم النفوس الكافرة وصفاتها يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية فَتَنْقَلِبُوا ترجعوا القهقري خاسِرِينَ أنفسكم بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف بِما أَشْرَكُوا أي بسبب إشراكهم بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بوجوده سُلْطاناً أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقر ملة وَمَأْواهُمُ النَّارُ وهي نار الحرمان وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ المشروط بالصبر والتقوى إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلا ذريعا بِإِذْنِهِ وأمره لا على وفق الطبع حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ جبنتم عند تجلي الجلال وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وخالفتم في أمر الطلب وَعَصَيْتُمْ المرشد المربي مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الفوز بأنوار الحضرة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا لقصور همته وضعف رأيه وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ لطول باعه وقوة عقله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي عن أعداء نفوسكم وجنودها لِيَبْتَلِيَكُمْ أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على المؤمنين في طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما | فليقس أحيانا على من يرحم |
أي واردا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم الصادقون في الطلب وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ بمقتضى سوء استعدادهم يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ الخبيثة ما لا يُبْدُونَ بزعمهم لك أيها المرشد الكامل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا بسيف الشهوات هاهُنا أي في هذه النشأة قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات لَبَرَزَ على حسب العلم الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في لوح الأزل إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: ٢٢] أي نظهرها بهذا التعين، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ تعالى ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا
ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل»
ولله تعالى در من قال:
لله در النائبات فإنها | صدأ اللئام وصيقل الأحرار |
ما كنت إلا زبرة فطبعنني | سيفا وأطلع صرفهن غراري |
ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله: اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفا من قلبه يقول: يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد أَوْ كانُوا غُزًّى أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا موافقين لنا ما ماتُوا بمقاساة الرياضة وَما قُتِلُوا بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا صفحة رقم 316
النصب لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي عدم الكون مثلهم حَسْرَةً يوم القيامة فِي قُلُوبِهِمْ حين يرون ما أعد الله تعالى لكم وَاللَّهُ يُحْيِي من يشاء بالحياة الأبدية وَيُمِيتُ من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلا أو نية.
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى، واللام الأولى هي موطئة للقسم، والثانية واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه- ومغفرة- مبتدأ ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارا للاعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة رَحْمَةٌ لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناء على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر. وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في- ما- أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذ محذوف أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل الكوفة- غير عاصم- «متّم» بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم يَجْمَعُونَ بالياء على صيغة الغيبة، وقرأ الباقون «تجمعون» بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر، والمعنى أنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلّا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب، أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا، ومما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه:
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت | فقتل امرئ بالسيف والله أفضل |
تُحْشَرُونَ ولا يخفى أنه من باب التأويل لا من قبيل التفسير فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارّين الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقة- بلنت- والتقديم للقصر،- وما- مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين، وهو المأثور عن قتادة، وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر، فقد قال الأخفش وغيره:
يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء، ورَحْمَةٍ بدل منها، وجوز أن تكون صفة لها، وقيل: إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي فَبِما رَحْمَةٍ عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق، وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة.
قيل: وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين: إحداهما ما يدل على شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم، والثانية ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل، وقد اجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في المعاشرة قولا وفعلا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسيه، وقال الكلبي:
فَظًّا في الأقوال غَلِيظَ الْقَلْبِ في الأفعال.
وذكر بعضهم أن الفظ سيئ الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال، وغَلِيظَ الْقَلْبِ السيئ في الأمور الباطنة، والثاني سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة، ولهذا
ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية
وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظا غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط فَاعْفُ عَنْهُمْ مترتب على ما قبله أي إذا كان أمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي في الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة، وإليه ذهب جماعة، واختلف في مشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباه- وهو الأصح- ذهب إلى جوازها، وفائدتها الاستظهار برأيهم، ويؤيد ذلك ما
أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»
أو التطييب لأنفسهم، وإليه ذهب قتادة، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم، أو أن تكون سنة بعده لأمته، وإليه ذهب الحسن، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده، ويؤيده ما
أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا»
وقيل: فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء، وادعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلا غير جائز لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولا به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معوّل عليها وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلّى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى انتهى، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى، على أن من قال: إن فائدة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها، وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين.
ويؤيد كون المراد من الصحابة- المأمور صلى الله تعالى عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم وصححه. والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: أبو بكر، وعمر، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك.
بقي أن بين ما
أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما: «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما»
وما
أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي»
تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل، وكأن في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «وما خالفتكما»
دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في الأدب المفرد عنه وَشاوِرْهُمْ فِي بعض الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و «اعقلها وتوكل» يرشد إلى ذلك، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال
التدبير بالكلية، وعن خالد بن زيد أنه قرأ فَإِذا عَزَمْتَ بصيغة المتكلم، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعى للتوكل عليه سبحانه والأمر به.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما، ثم أمر صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي أن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتا وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط.
ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم- كما قال شيخ الإسلام- وإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين، فإذا قلت: لا أكرم من فلان ولا أفضل منه بالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: ١٤٤، الأعراف: ٣٧، يونس: ١٧، الكهف: ١٥] في مواقع كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم أحد.
وقرئ «يخذلكم» من أخذله إذا جعله مخذولا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر على نحو انتفاء الغالب، وقيل: وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم يجيء في الثاني كذلك تلطفا بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وان كان الكلام مفيدا له مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه فعلى الأول- بعد- ظرف زمان وهو الأصل فيها، وعلى الثاني مستعار للمكان وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول.
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات على التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى، والفاء كما قالوا: لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة.
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما صح ولا استقام لنبي من الأنبياء أن يخوف في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل الغل الأخذ بخفية ولذا استعمل في السرقة ثم خص في اللغة بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولا أيضا، قيل: وسميت بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى
عنقه، ويقال لها: جامعة أيضا، وقال الرماني، وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل، ومن ذلك الغل للحقد، والغليل لحرارة العطش، والغلالة للشغار، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد
فقد حكى الواحدي عن الكلبي، ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذ طلبا للغنيمة قالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم لكم» ولهذا نزلت الآية،
أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها، والرواية الأولى أوفق بالمقام، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، والرواية الثانية أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلول،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلائع فغنم النبي صلّى الله عليه وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية،
فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية، وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية، أو تعظيما لشأنه صلّى الله عليه وسلم، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على حدّ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] خوطب به صلّى الله عليه وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد النهي عنه- ولا يخفى بعده- والصيغة على الاحتمال الأول إخبار لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب، وقد وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: ٦٧] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: ٥٣] وكذا للامتناع العقلي كقوله تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: ٣٥] وما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: ٦٠] وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب- أن يغل- على صيغة البناء للمفعول، وفي توجيهها ثلاثة أوجه، أحدها أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت:
وطائفة قد «أكفرتني» بحبكم | وطائفة قالت مسيء ومذنب |
ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية، ولا يخفى أنه بعيد جدا- ولا أدري كيف سند هذه الرواية- ولا أظن الخبر إلا موضوعا، ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وهو جملة صفحة رقم 321
شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وما- موصولة والعائد محذوف أي بالذي غله، وجوز أن تكون حالا ويكون التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول، وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره،
فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك»
والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على رؤوس الأشهاد زيادة في عقوبته، وإلى هذا ذهب الجبائي، ولا مانع من ذلك عقلا.
والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديما فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له:
أرأيت قول الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها؟! قال: أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا، وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار،
فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عز وجل: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لو كنت مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم، وقيل: الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما احتمل من وباله وإثمه- واختاره البلخي- وقال: يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له وله صوت، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل.
وقيل: إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقي القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك.
وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال: إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك، وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل، وجواب أبي هريرة لا يأباه، وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون: إنه يلقى من غير تعذيب، وبتقديره لا محذور أيضا فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء،
وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠] فيضعهم فيها
ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على القول بإلقائه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا، ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه، وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم
القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى، وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله وقيل: يحتمل أن يكون المراد ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة ثُمَّ للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه، أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك المتعال، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر ثُمَّ عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني، أو التراخي الرتبي.
أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير.
وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد، والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية وَهُمْ أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر قياسي، ويقال: بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله، وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط. مِنَ اللَّهِ أي كائن منه تعالى.
وفي المراد من الآية أقوال: أحدها أن المعنى أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ تعالى في العمل بالطاعة كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ منه سبحانه في العمل بالمعصية- وهو المروي عن ابن إسحاق- ثانيها أن معناه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ تعالى بفعل الغلول، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام، ثالثها أن المراد أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ تعالى بالجهاد في سبيله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ منه جل جلاله في الفرار عنه، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج، قيل: وهو المطابق لما
حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية-
وفيه بعد- وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي مصيره ذلك، وفي الجملة احتمالان، الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر، وقيل: لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فافهم، والثاني أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على باءَ بِسَخَطٍ عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إما تذييل، أو اعتراض، أو معطوف على الصلة بتقدير، ويقال: في حقهم ذلك، وأيّا ما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم، والْمَصِيرُ اسم مكان، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا، والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك: مرجع ابن آدم إلى التراب، وأما قولهم مرجع
العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما ملكوا هُمْ عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ، وقوله تعالى: دَرَجاتٌ خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا للملزوم على اللازم، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي هُمْ ذوو درجات أي منازل، أو أحوال متفاوتة، وهذا معنى قول مجاهد والسدي: لهم درجات، وذهب بعضهم أن في الآية حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول، والثاني للثاني عِنْدَ اللَّهِ أي في علمه وحكمه، والظرف متعلق بدرجات على المعنى، أو بمحذوف وقع صفة لها.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها- والبصير- كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان، فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات انتهى، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم- وهو الذي ذهب إليه الجمهور منا، ومن المعتزلة والكرامية قالوا: لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين الحالتين بالبديهة، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار.
وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات، ومثل هذا الخلاف في السمع، والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه، وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم وتفضل، وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الاعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها، والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنس- وخير الثلاثة الوسط- وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة- والأول خير من الثالث- وأيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري: المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ أي بينهم رَسُولًا عظيم القدر جليل الشأن مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من نسبهم، أو من جنسهم عربيا مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا وإِذْ ظرف- لمن- وهو وإن كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم المحققين، والجار إما متعلق ب «بعث» أو بمحذوف وقع صفة- لرسولا- والامتنان بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين، وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف نوع بني آدم، وإما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى الله تعالى عليه وسلم، وتخصيص المؤمنين بالامتنان مع عموم نعمة البعثة كما يدل عليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] لمزيد انتفاعهم على اختلاف الأقوال فيهم بها، ونظير ذلك قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] وقرئ- «لمن منّ الله» - بمن الجارة ومنّ المشددة النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه وحذف لقيام الدلالة، وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن منّ الله تعالى على المؤمنين وقت
بعثه، ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون إِذْ مبتدأ والجار والمجرور خبرا «وقد اعترض ذلك» بأنه لم يعلم أن أحدا من النحويين قال بوقوع إِذْ كذلك، وما في المثال إذا لا إذ، وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا، وإنما جوزوا فيها وجهين: النصب على أن الخبر محذوف وهي سادّة مسدّه. والرفع على أنها هي الخبر، وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب في حال القيام لا كونه، وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه الأول هو المشهور، وجوز الثاني عبد القاهر تمسكا بقول بعضهم: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ على إذا والمبتدأ على الخبر.
وانتصر بعضهم للزمخشري، بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به، وبدلا من المفعول وهذا في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها، ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الإقدام عليها من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه، نعم حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه ارتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناء على ما ذكرنا بلا خفاء وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد ثبوت المفعولية ولا على الابتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا إلا بورود سماع في ذلك، ففي صحة كلام الزمخشري تردد بيّن لأن مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع إِذْ مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا يخفى، وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلّى الله عليه وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن.
وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلّى الله عليه وسلم بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان، ثم قال: فلو قال شخص: أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن، أولا أدري هل هو من العرب أو العجم؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام- ولا أعلم في ذلك خلافا- فلو كان غبيا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى، وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة؟ فيه تأمل، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوفا متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به وَيُزَكِّيهِمْ أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية، أو من خبائث الاعتقادات الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين، أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراء- ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ قد تقدم الكلام في ذلك.
وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة