
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٥]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)تفسير المفردات
تحسونهم: أي تستأصلونهم بالقتل من قولهم: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس: إذا أتت على كل شىء، فكأن القاتل أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه أصاب بطنه، ورأسه أصاب رأسه، بإذنه: أي بعونه وتأييده، فشلتم: أي ضعفتم، فى الأمر: أي أمر الحرب، صرفكم عنهم: أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها، ليبتليكم: أي ليختبركم، والمراد ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر، صفحة رقم 98

عفا عنكم: أي تاب عليكم، تصعدون: أي تذهبون فى الأرض وتبعدون، يقال أصعدنا من مكة إلى المدينة أي ذهبنا، ولا تلوون على أحد: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، يقال فلان لا يلوى على شىء أي لا يعطف عليه ولا يبالى به، فى أخراكم: أي فى آخركم، يقال جئت فى آخر الناس، وفى أخراهم، وفى أخرياتهم، فأثابكم: أي جازاكم، الغم: ألم أو ضيق فى الصدر يكون من الأمر الذي يسوء الإنسان ولا يدرى المخرج منه، والأمنة: الأمن وهو ضد الخوف، يغشى: يغطى ويستر، يقال غشيه النعاس أو النوم أي غطاه كما يلقى الستر على الشيء: لبرز: أي لخرج لسبب من الأسباب، إلى مضاجعهم: أي مصارعهم التي قدر قتلهم فيها، وذات الصدور السرائر، والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين، استزلهم أي أوقعهم فى الزلل والخطيئة، ببعض ما كسبوا: أي بسبب بعض الذنوب التي اقترفوها، فمنعوا من التأييد الإلهى.
المعنى الجملي
روى ابن جرير عن السّدى قال: لما برز رسول الله ﷺ إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل فى وجوه خيل المشركين وقال لهم:
لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفى إلى الجنة، أو يعجلنى بسيفه إلى النار؟ فقام إليه على بن أبى طالب فقال: والذي نفسى بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفى إلى النار، أو يعجلنى بسيفك إلى الجنة، فضربه علىّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم فتركه، فكبر رسول الله ﷺ وقال أصحاب علىّ له: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال إن ابن عمى ناشدنى حين انكشفت عورته فاستحييت منه، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد

ابن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه فى جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح فى خيله، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعين.
ونستخلص من هذه الرواية أمرين:
(١) أن النبي ﷺ أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم، وأنه قال لهم لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
(٢) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم، أما الذين بلغ الإيمان قرارة نفوسهم فقد ثبتوا.
وروى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد- قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الآية.
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد ﷺ من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير الله ومعونته، وكان رسول الله ﷺ وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم فى الرأى والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم، فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.
وصفوة القول- إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.
وفى قوله: من بعد ما أراكم ما تحبون- تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله ﷺ فى الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة.
(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي ﷺ وهم ثلاثون رجلا.
(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.
والخلاصة- إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك: أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين.

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث فى وقعة (حمراء الأسد).
(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلمّ بآخرين، بل يمحص ما فى صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.
(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم، والذّعر الذي فجأكم.
وبينا أنتم فى هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى، هلمّ إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوة بالرسول، فتقتدون به فى الصبر والثبات.
(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قال فى الأساس: إنه لفى غمّة من أمره: إذا لم يهتد للخروج منه، ومنه قوله تعالى: «لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم بالهزيمة والقتل، والغم الثاني للرسول ﷺ بمخالفة أمره، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب.
والخلاصة- إنه أذاقكم هذا عوض هذا.
وقد يكون المعنى- جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله ﷺ بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.
(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم،

وتتعودوا احتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم.
(وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم، والدواعي التي حفزتكم عليها، وقادر على مجازاتكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن الإقدام على المعصية.
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم وغلبكم النوم، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف.
والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصايب، وعناية من الله يخص بها بعض عباده فى مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.
وعن أبى طلحة رضي الله عنه غشينا النعاس ونحن فى مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وما من أحد إلا يميل تحت حجفته (ترسه).
وعن الزبير رضي الله عنه، لقد رأيتنى مع رسول الله ﷺ حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم، والله إنى لأسمع معتّب بن قشير والنعاس يغشانى، ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا.
(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة فى إيمانهم.
(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير ومن لف لفهم، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين.
وخلاصة هذا- إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين:

(١) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.
(٢) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم، إذ الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول فى قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحق عليهم ما وصفهم الله به من قوله:
(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه، إذ كانوا يقولون فى أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله.
(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار:
هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شىء، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان، فما حدث فى ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأ كبير، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها.
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى فى الخليقة، ووفق النظم التي وضعها، وربط فيها الأسباب بالمسببات.
ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك فى قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقوله: َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».
(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يضمرون فى أنفسهم ما لا يستطيعون

إعلانه لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ويبطنون الإنكار والتكذيب.
(يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة.
وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله:
(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم فى بيوتكم ولم تخرجوا للقتال- لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت فى علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون فى البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم.
والخلاصة- إن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلا، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك فى اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.
(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما فى قلوبهم من وساوس الشيطان، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان.
وقد قيل: لا تكرهوا الفتن، فإنها حصاد المنافقين.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بالأسرار والضمائر، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
وفى هذا ترغيب وترهيب، وتنبيه إلى أن الله غنى عن الابتلاء والامتحان،

وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول ﷺ أن يثبتوا فى أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم فى الزلل واستجراره لهم بالوسوسة، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع فى ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببا فى كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا فى الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وفى هذا إيماء إلى سنة من سنن الله فى أخلاق البشر وأعمالهم، وهى أن المصايب التي تعرض لهم فى خاصة أنفسهم أو فى شئونهم العامة، إنما هى آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها فى النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهى التي عناها سبحانه بقوله:
«وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» وإليها الإشارة بقوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ».
فهذه المصايب والعقوبات، سواء أكانت فى الدنيا أم فى الآخرة- آثار طبيعية للأعمال السيئة.