ونصره، يكون دائما قوي العزيمة، شديد الشكيمة، صلب الإرادة. فإن ظهرت فيه علائم الخوف من الكفرة كان مسلما بالوراثة والاسم الظاهر فقط، وليس مؤمنا حقا.
والمشرك والكافر في قلق دائم، واضطراب مستمر، وخوف مستحكم في قلبه وفي أعماق نفسه، إذ إن الكفر لا يلقي في نفسه شيئا صحيحا ثابتا من الطمأنينة والثقة، وإنما هي موروثات وتقاليد يرددها، وعصبية عمياء حجبته عن رؤية الحقائق، وصدّته عن التفكير الصحيح بوحدانية الله وقدرته الشاملة وسلطانه القاهر في الدنيا والآخرة.
وآية إلقاء الرعب في قلوب الكفر دليل على بطلان الشرك عقلا وحسا، وعلى سوء أثره في النفس، إذ لا يلقي في النفس الثقة والأمان والطمأنينة، وإنما على العكس يخلق الرعب، وينشر الهلع والخوف في كل وقت.
وما أقوى وأشد تأثيرا من تهديدات القرآن وإنذاراته بالنار الحامية للكافرين، ولو غضوا الطرف عنها، فإنهم لا بد سامعون لها. ودل قوله:
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المنبئ عن المكث الطويل على أنهم خالدون في النار، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يخرجون منها، ولو لراحة وقتية، أو تنفس واستنشاق هواء عليل فترة ما، يرد عليهم نسيم الحياة، وحلاوتها العذبة الرقراقة.
أسباب انهزام المسلمين في أحد وتفرقهم بعد وعدهم بالنصر
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٥]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
الإعراب:
أَمَنَةً نُعاساً في نصبهما وجهان: إما أن تكون أَمَنَةً منصوبا بأنزل، ونُعاساً بدلا منه، وإما أن تكون أَمَنَةً مفعولا لأجله، ونُعاساً منصوبا بأنزل. يَغْشى أي النعاس، ومن قرأ بالتاء ردّ إلى الأمنة. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ مبتدأ وخبر، والجملة منهما حال.
والواو: إما واو الحال، أو واو الابتداء، أو بمعنى إذ.
يَظُنُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أَهَمَّتْهُمْ أو في موضع رفع صفة لطائفة. إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ كلّه بالنصب تأكيد للأمر، وبِاللَّهِ: خبر إِنَّ. ومن قرأ بالرفع: فهو مبتدأ، وبِاللَّهِ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ. وَلِيَبْتَلِيَ لام كي، متعلقة بفعل مقدر دل عليه الكلام وتقديره: وليبتلي ما في صدوركم أوجب عليكم القتال.
وَلِيُمَحِّصَ: معطوف على لِيَبْتَلِيَ.
البلاغة:
يوجد طباق بين يُخْفُونَ ويُبْدُونَ وبين فاتَكُمْ وأَصابَكُمْ.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تنكير: فضل للتفخيم، وإظهار الْمُؤْمِنِينَ في موضع الإضمار للتشريف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ وفَتَوَكَّلْ والْمُتَوَكِّلِينَ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إياكم بالنصر. تَحُسُّونَهُمْ تقتلونهم وتستأصلونهم، مأخوذ من حسّه: أذهب القاتل حسّه بالقتل، كما يقال: بطنه: أصاب بطنه. بِإِذْنِهِ بإرادته وأمره وتأييده وعونه. فَشِلْتُمْ جبنتم وضعفتم عن القتال. وَتَنازَعْتُمْ اختلفتم. فِي الْأَمْرِ أي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب فقد نصر أصحابنا، وبعضكم قال:
لا نخالف أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَعَصَيْتُمْ أمره، فتركتم المركز لطلب الغنيمة. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الله. ما تُحِبُّونَ من النصر.
وجواب إِذا: دل عليه ما قبل أي منعكم نصره.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي الغنيمة. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه. ثُمَّ صَرَفَكُمْ ردّكم للهزيمة، وهو عطف على جواب إِذا المقدر.
عَنْهُمْ أي الكفار. لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم ويختبركم، فيظهر المخلص من غيره، والمراد ليعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن، وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. عَفا عَنْكُمْ تاب عليكم لما ارتكبتموه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالعفو.
إِذْ تُصْعِدُونَ اذكروا إذ تذهبون في الأرض أو الوادي وتبعدون هاربين. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تلتفتون لأحد. أُخْراكُمْ آخركم أو من ورائكم يقول: إليّ عباد الله، إلي عباد الله. فَأَثابَكُمْ فجازاكم. غَمًّا بالهزيمة. بِغَمٍّ بسبب غمكم ومضايقتكم للرسول بالمخالفة.
والغم: ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.
أَمَنَةً أي أمنا وهو ضد الخوف. يَغْشى يغطي ويستر. يُبْدُونَ يظهرون.
لَبَرَزَ لخرج. مَضاجِعِهِمْ مصارعهم التي قدر قتلهم فيها.
لِيَبْتَلِيَ يختبر. ما فِي صُدُورِكُمْ قلوبكم من الإخلاص والنفاق. وَلِيُمَحِّصَ يميز.
بِذاتِ الصُّدُورِ عليم بما في القلوب لا يخفى عليه شيء، وإنما يبتلي ليظهر للناس.
الْجَمْعانِ جمع المؤمنين وجمع المشركين بأحد، والذين تولوا: هم المسلمون إلا اثني عشر رجلا. اسْتَزَلَّهُمُ أزلهم الشيطان بوسوسته، أي أوقعهم في الزلل والخطأ. بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من الذنوب، وهو مخالفة أمر النبي، فمنعوا التأييد والنصر الإلهي الذي كان وعدهم به ربهم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٥٢) :
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ... :
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الآية- إلى قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا
يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد «١».
نزول الآية (١٥٤) :
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ: أخرج ابن راهويه عن الزبير قال: لقد رأيتني يوم أحد، حتى اشتد علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا ذقنه في صدره، فو الله، إني لأسمع كالحلم قول معتّب بن قشير: لو كان لنا من الأمر شيء، ما قتلنا هاهنا، فحفظتها فأنزل الله في ذلك: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً- إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ومعنى قوله: ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج، فلم
نقتل، لكنّا أخرجنا كرها. فرد الله عليهم: قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ..
الآية، أي أن من قدّر عليه القتل قاده أجله إلى الخروج في مكان فقتل فيه، ولم ينجه قعوده في منزله لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة.
التفسير والبيان:
والله لقد وفي لكم ربكم وعده النصر على العدو حين أخذتم تقتلونهم قتلا ذريعا وتفتكون بهم فتكا بتأييد الله ومعونته ومشيئته وإرادته.
صدقكم الله وعده، حتى إذا جبنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم في الرأي والعمل في تنفيذ أمر نبيكم بالثبات على جبل الرماة، فقال بعضكم: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبدا، ولم يثبت إلا عبد الله بن جبير مع نفر من أصحابه، لما حدث ذلك تأخر النصر وأحدقت الهزيمة بكم.
وبعبارة أخرى: فلما واجهتموهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، ولما اختلفتم وحصل ما حصل من عصيان الرماة، وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة «١».
عن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول، وتركوا مصافّهم. وترك الرّماة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٣٥ [.....]
فألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم: أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات، لا في الانهزام.
ثم بين سبب التنازع فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الغنيمة، قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يوم أحد. وهؤلاء هم الذين تركوا أماكنهم على الجبل طلبا للغنيمة.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين، فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله.
والعتاب مع من انهزم، لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب.
ثم بعد أن استوليتم عليهم، ردكم عنهم بالانهزام، فعل هذا ليمتحن إيمانكم، ولقد عفا الله عنكم وغفر لكم ذلك الصنيع، بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرطتم به، والله ذو فضل على المؤمنين أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، وربما كان سبب العفو والفضل والرحمة كثيرة عدد العدو وعددهم، وقلة عدد المسلمين وعددهم.
ثم ذكّر هم الله تعالى، فقال: اذكروا وقت أن صرفكم عنهم حين أصعدتم في الجبل أي ذهبتم منهزمين، وأنتم لا تلتفتون لأحد من الدهش والخوف والرعب، والحال أن الرسول قد خلفتموه وراء ظهوركم، يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، قائلا:
«إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة»
وقال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي عباد الله ارجعوا» فالرسول يدعوكم في آخركم، جاء في البخاري: أخراكم: تأنيث آخركم.
قال البراء بن عازب: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرّجّالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم.
ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا.
وكان جزاؤكم غمّا بغمّ، والغم الأول: إلحاق الهزيمة وحرمان الغنيمة والقتل بالصحابة، والغم الثاني الذي سبّب الغم الأول: هو ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ألم وضيق بسبب عصيانكم أمره، ومخالفتكم رأيه. وهذا أرجح الأقوال كما قال ابن جرير الطبري.
وقد فعل بكم ذلك كله لتتمرنوا على الشدائد، وتتعودوا احتمال المكاره، فإنها تصقل الأمم والأفراد، ولئلا تحزنوا على ما فاتكم من المنافع والمغانم، ولا على ما أصابكم من المضارّ من عدوكم، كالجراح والقتل، والله خبير بأعمالكم، فمجازيكم عليها، إذ العمل سبب النجاح والظفر، وتكميل الإيمان والتحلي بالفضائل. وفي هذا ترغيب بالطاعة وزجر عن المعصية.
ثم ذكر الله تعالى ما امتنّ به على عباده من بعد الغم الذي اعتراهم، وهو إنزال السكينة والأمن «١» وهو النعاس الذي غشيهم وغلبهم، وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، ليستردوا ما فقدوه من القوة، وما عرض لهم من الضعف، كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال ٨/ ١١]. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه «٢». وروى البخاري أيضا في التفسير عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه «٣».
وكان النعاس يغشى طائفة من الناس- والطائفة: تطلق على الواحد
(٢) هكذا رواه البخاري في المغازي معلقا.
(٣) ورواه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم بلفظ مقارب.
والجماعة-، وهم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم، كما قال ابن عباس، أو هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله، وهم الجازمون بأنّ الله سينصر رسوله، وينجز مأموله.
وطائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم أي حملتهم على الهم، وملأ الخوف قلوبهم، لعدم ثقتهم بنصر الله، ولعدم إيمانهم بالرسول، وهم جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي ومعتّب بن قشير وأتباعهم، لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف، ولا يهتمون بأمر الرسول والدين، وهم كما أخبر الله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه إذ قالوا: لو كان محمد نبيا حقا ما تسلط عليه الكفار، وهو قول أهل الشرك بالله.
وهذه الطائفة الثانية يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لنا من الأمر والنصر والفتح نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء لأنهم يعتقدون أن هذا ليس بحق. وهذا سبب خطئهم الفاحش، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا، والمهم تمام الأمر والعاقبة.
فرد الله تعالى عليهم: بأن كل أمر يجري فهو بحسب سنته تعالى في الخليقة، تلك السنة القائمة على ربط الأسباب بالمسببات، وأن الأمر والنصر كله لله، لا لغيره، وهو ناصر عباده المؤمنين كما وعدهم بقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٧٣].
وهؤلاء المنافقون يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد، ويتساءلون في الظاهر سؤال المؤمنين المسترشدين: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لكنهم يبطنون الإنكار والتكذيب والنفاق.
ويقولون في أنفسهم أو لبعضهم بعضا منكرين لقولك لهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ
: لو كان الأمر كما قال محمد: إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فهم يربطون بين النبوة والنصر، وأنه لو كان محمد نبيا ما هزم، وفاتهم أن النصر من عند الله وتوفيقه، وأن الهزيمة بسبب مخالفات المسلمين.
فرد الله عليهم بأن الآجال والأعمار بيد الله، وأن النصر من عند الله، وأن من كتب عليه القتل فلا بد أنه مقتول، فلو كان في بيته وانتهى أجله، لخرج إلى مكان مصرعه، والحذر لا يمنع القدر، والأمر كله بيد الله.
وقد فعل الله ما فعل من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في نهاية غزوة أحد، ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص والثبات، وليميز ما في القلوب من أمراض ووساوس الشيطان، والله عليم بذات الصدور أي بالأسرار والخفيات، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وإنما فعل هذا لينكشف حال الناس، وتظهر الحقائق، وتنجلي مواقف المؤمنين الصابرين والمنافقين المخادعين.
وإن المؤمنين الذين انهزموا أو تركوا أماكنهم يوم التقاء الجمعين من المسلمين والمشركين في أحد، إنما أوقعهم الشيطان فريسة له في الزلل والخطأ، بسبب بعض ما كسبوا من ذنوبهم، ومعناه أن الذين انهزموا يرم أحد، كان السبب في توليهم الأدبار: أنهم كانوا أطاعوا الشيطان، فاقترفوا ذنوبا أدت بهم إلى منع التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وهذا يدل على أن الذنب يجز إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وتكون لطفا فيها، كما قال الزمخشري «١».
وتكون المصائب والعقوبات ومنها الهزائم آثارا للأعمال السيئة، فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي عما كان من الفرار، ولم يؤاخذهم في الآخرة، وجعل عقوبتهم في الدنيا درسا وتربية وتمحيصا، وهذا يفتح أمامهم باب الأمل، ويدفع استيلاء اليأس على نفوسهم.
إن الله غفور يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتراف بالتقصير، حليم لا يعجل بالعقوبة على الذنب، وإنما يترك فرصة للعبد لتصحيح أخطائه، ومعالجة تقصيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
الناس في الماضي كالناس في الحاضر يعيشون في الأحلام والخيالات، فهم ينتظرون النصر منحة إلهية خالصة للمؤمنين، دون أن يقوموا بواجباتهم ويعملوا بما تقتضيه متطلبات الحروب مع العدو، فهم المكلفون من الخلق بالجهاد وحمل الأمانة، وإذا جاهدوا وصبروا وثبتوا، أيدتهم العناية الإلهية، وتحقق لهم النصر والفوز.
والله صادق الوعد بنصر المؤمنين ما داموا على الحق ثابتين، وفي ميدان المعارك مجاهدين صابرين مطيعين متوحدين غير متفرقين، وأما الجبن والضعف والتفرق والنزاع والأطماع الدنيوية فهي سبب الخذلان والهزيمة المنكرة، وقد صدق الله وعده للمؤمنين في أحد، وأراهم الفتح في بداية المعركة حين صرع صاحب لواء المشركين وقتل معه سبعة نفر، فلما عصوا وخالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على جبل الرماة، واشتغلوا بالغنيمة أعقبهم البلاء، وأدى بهم إلى الجراح والقتل، والهزيمة وفرار الناس من حول قائدهم النبي.
وتغير وجه المعركة من نصر إليه هزيمة، فبعد أن استولى المسلمون على المشركين ردهم عنهم بالانهزام، لقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وهذا دليل على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.
ولكن من لطف الله بعباده الذين أخطئوا هذه المرة أن عفا عنهم، ولم يستأصلهم بالمعصية والمخالفة، والله ذو فضل دائم على المؤمنين بالعفو والمغفرة، قال ابن عباس: ما نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم كما نصر يوم أحد، فأنكر الصحابة ذلك، فقال لهم: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحسّ: القتل.
ولم يكن فرار المسلمين في أحد مقبولا لأن القائد وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يزال صامدا يقاتل في قلب المعركة، ويدعو الفارّين إلى العودة والكرّ، فلما لم يرجعوا جازاهم الله بالغم والحزن وهو القتل والجراح وعدم الظفر بالغنيمة، بسبب الغم والضيق الذي ملأ قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمخالفتهم إياه. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا.
ولكن فضل الله ورحمته بالمؤمنين بعد هذا الغم ألقى عليهم النعاس أو النوم ليشعرهم بالأمن وليجددوا عزائمهم وترتاح نفوسهم من بعد هذه الهزيمة. أما المنافقون فظلوا في قلقهم واضطرابهم لا ينامون ولا يشعرون بالطمأنينة والأمن، ويقولون: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ استفهام معناه الجحد والإنكار، أي ما لنا شيء من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، بدليل قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتّب بن قشير، والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. وقيل: المعنى: يقول ليس لنا من الظّفر الذي وعدنا به محمد شيء.
فرد الله تعالى عليهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي النصر بيد الله، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء. والأجل والعمر بيد الله، وما من ميت إلا ويموت بأجله، سواء في الحرب وساحاتها، أم في المنازل والمضاجع وغرفها وحدائقها.
وهكذا كان أهل غزوة أحد بعد انتهائها فريقين: