
يريد: عزيمة. فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام: لا توبة مع إصرار، وقال أيضا: ما أصر من استغفر، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار، فقال قتادة: هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله. وقال الحسن: إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب، وقال مجاهد:
لَمْ يُصِرُّوا معناه: لم يمضوا وقال السدي: «الإصرار» هو ترك الاستغفار، والسكوت عنه مع الذنب، وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال السدي: معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق: معناه، وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون: معناه، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل:
المعنى، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار.
ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره، وقوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بمنزلة قوله: ونعم الأجر، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف: ١٧٧] لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو علي: ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا «بساء» ولا يضمر شيء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤٠]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
الخطاب بقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش: الخطاب ب قَدْ خَلَتْ للكفار.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: وذلك قلق، وخَلَتْ معناه: مضت وسلفت، قال الزجّاج: التقدير أهل سنن، و «السنن» : الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك، وسنة الإنسان: الشيء الذي يعمله ويواليه، ومن ذلك قول خلد الهذلي، لأبي ذؤيب:
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها | فأوّل راض سنّة من يسيرها |
وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم | تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا |
من معشر سنّت لهم آباؤهم | ولكلّ قوم سنّة وإمامها |
لعمرك ما إن أبو مالك | بواه ولا بضعيف قواه |
إذا سدته سدت مطواعة | ومهما وكلت إليه كفاه |

وأضعف ضعف المطواع، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب، وأما الشرع فقد قال النبي عليه السلام: لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق، وليس من الهوان، قال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح، وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعلو كلمة الإسلام.
هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ، وقاله ابن إسحاق: وروي عن ابن عباس وابن جريج: إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل، وذلك أن رسول الله ﷺ حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام:
اللهم لا يعلوننا، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل، وصعد رسول الله ﷺ وأصحابه فيه، فأنزل الله تعالى عليه، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها، ويحتمل أن يتعلق بقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فيكون الشرط على بابه دون تجوز، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه.
ثم قال تعالى، تسلية للمؤمنين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ والأسوة مسلاة للبشر، ومنه قول الخنساء: [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخي ولكن | أعزّي النّفس عنه بالتأسّي |
قال القاضي أبو محمد: هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام: وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق، وعلى هذا لا يقال: هذه أولى من جهة نزول القرآن بها، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول، قال أبو الحسن الأخفش: «القرح» و «القرح» مصدران بمعنى واحد، ومن قال القرح بالفتح الجراحات بأعيانها، والقرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية، لأن هذا مما لا يعلم بقياس، وقال بهذا التفسير الطبري، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم» بالتاء من فوق، «قروح» بالجمع، «فقد صفحة رقم 513