في الآخرة فتفوزوا بالسعادة وزيادة الثواب المتوقفين على التقوى في المحرمات كافة ومن تعاطي الربا في الدنيا لأنه من الكبائر
بدليل قوله تعالى «وَاتَّقُوا النَّارَ» بانكفافكم عنه لأنه يؤدي إليها، ويوجب الوقوع فيها وذوق عذابها المؤلم وهي «الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» (١٣١) وهيئت لهم لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل. وأنتم أيها المؤمنون إذا لم تنتهوا عن الربا يكون مصيركم مصيرهم.
تشير هذه الآية بهذا التهديد والوعيد لهذا الصنف من الناس وهي أخوف آية في القرآن إذ أوعد الله المؤمنين بما أعده للكافرين إن لم يجتنبوا محارمه، وهذه الآية والآية ٤٤ من سورة البقرة المارة تؤيد أن النار مخلوقة ومهيأة للكفار، كما أن الجنة معدة ومهيأة للمؤمنين، وهما كافيتان المراد على قول القائلين بعدم وجود الجنة والنار وأن الله سيخلقهما بعد، فضلا عن الآيات الأخر المثبتة وجودهما والأحاديث المخبرة عن ذلك، وخاصة حديث المعراج المصرح فيه اطلاع حضرة الرسول عليهما ليلة أسري به، راجع أول سورة الإسراء ج ١، فلم يبق من قيمة لما يتقولونه بعدم خلقهما بعد هذا تدبر «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (١٣٢) فتخلصون من النار وتدخلون الجنة برحمته.
هذا، وقد ذكرنا في الآية ٣٩ من سورة الروم في ج ٢ ما يتعلق بربا البيوع كالعينة وشبهها وفي الآية ٢٧٥ فما بعدها من البقرة المارة ما يتعلق بربا النسيئة وهذه الآية الثانية النازلة في الربا المبينة ربا الفضل وهو نوع آخر من أنواع الربا الثلاثة وهو أعظمها إثما عند الله تعالى، راجع الآية ١٧٥ من البقرة، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا استحق الدين الذي أصله ربا أو غيره على المدين ولم يقدر على إيفائه يقول له الدائن زدني في المال لأزيدك في الأجل، فيفعل مضطرا لعدم القدرة على أدائه ولربما استحق ثانيا وثالثا فيزيده في المال ويزيده في الأجل حتى يكون الفضل أكثر من الأصل، ولذلك شدد الله تعالى فيه ونهى عن أكله، وقد حرم الله الربا بأنواعه الثلاثة في هذه الآيات الثلاث وبالأحاديث التي ذكرناها قبل وفي سورة البقرة وحديث أحمد الذي لفظه: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية في الإسلام. وحديث ابن جرير وأبي الدنيا: الربا اثنان
وستون بابا أدناها الذي يقع على أمه. وحديث النسائي قال ابن مسعود إن النبي صلّى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، إذا علموا ذلك يلعنون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة. وهذه الآيات الثلاث كلها محكمة، لأن كلا منها في نوع مخصوص كما بيناه في محله، وما قاله بعضهم من أن هذه الآية ناسخة للآية والآيات من سورتي الروم والبقرة لا مستند له ولا حجة ولا دليل، بل جاءت تبين أن عذاب هذا الصنف كعذاب الكفرة، لأن التضعيف في الربا دلالة على الاستحلال والعياذ بالله.
هذا وما قاله بعضهم من أن آية البقرة مطلقة وآية آل عمران مقيدة لها فلا يكون الربا محرما إلا بالأضعاف المضاعفة لا وجه له ولا حجة ولا عبرة به، لأن قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) في البقرة نص على العام، وأل فيه إما أن تكون للجنس فيكون مطلقا في سياق النهي فيعم ضرورة كل أنواعه، وآية آل عمران هذه نص على فرد من أفرد ذلك العام ولا تعارض بين منطوقيهما، وإن التعارض بين منطوق الأول ودلالة الخطاب في الثانية لا يتحقق إلا إذا لم تكن هناك فائدة للقيد غير فائدة التخصيص، وقد اتفق علماء الأصول على ترجيح المنطوق على المفهوم في باب المطلق والمقيد ولو لم يكن للقيد فائدة أخرى، وعليه فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبقي الحكم للعام على فرض أن أضعاف مضاعفة ليس لها فائدة في التقيد بها غير التخصيص باتفاق الأصوليين، وإما أن تكون للاستعراق فيكون من قبيل العام أيضا وحاصله كذلك نص على العام ونص على فرد من أفراده، ولا تعارض بين منطوقيهما، وإنما التعارض بين منطوق الأول ومفهوم الثاني، ولا عبرة بالمفهوم حتى يكون القيد ليس له فائدة غير فائدة التخصيص، وقد اتفقت العلماء على أن القيد للتقبيح والتشنيع، ومثله مثل خشية إملاق في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن القتل منهى عنه سواء وجد خوف الفقر والفاقة أم لا كما أشرنا إليه في الآية ٣٣ من سورة الإسراء في ج ١ والآية ١٥ من سورة الأنعام في ج ٢ ومثل (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية ٣٣ من سورة النور الآتية، لأن الإكراه على البغاء ممنوع شرعا سواء أريد التحصن أم لا كما سنوضحه في محله إن شاء الله. وهذا الأسلوب
وهو التنصيص على أشنع الحالات وأقبحها أسلوب معروف في لغة العرب وكتاب الله وسنة رسوله، لأنه أدخل في الزجر وأقوى باعث على امتثال النهي، لا أنه هو العلّة التي يدور عليها الحكم وجودا وعدما، بل العلة غيره، وهذا هو أقبح الصور التي سيتحقق فيها، والذي يقطع الشك في تحريم القليل والكثير ويرد قول القائل بحل قليل الربا الذي يعين بالاجتهاد على زعمه الفاسد (ويجهل أن لا اجتهاد في مورد النص) ويعتبران آية (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ناسخة لآية (وَحَرَّمَ الرِّبا) لأنها مطلقة ومتأخرة عنها والمتأخر ينسخ المتقدم أو يقيده أو يخصصه، قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لأنها جملة حاصرة للخبر المقدم على المبتدأ المؤخر وللصفة على الموصوف، لأن معناها لكم رءوس أموالكم التي خرجت من أيديكم لا غيرها، ثم تأكيدها بقوله (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فهو تأكيد يدفع كل احتمال ويقطع كل شك ويجتث كل شبهة، لأن معناه لا تظلمون الآخذ بأن تأخذوا منه أكثر مما أعطيتموه، ولا تظلمون أنفسكم بحط شيء من رأس مالكم فتأخذوا أنقص منه إلا ما عفوتم، وعلى هذا فلم يبق من شك أن الحكم للعام باتفاق العلماء وعلى جميع قواعد الأصوليين. على أنا قد ذكرنا آنفا في تفسير الآية ٢٧٥ من البقرة أن هذه الآية مقدمة في النزول على آية البقرة لأنها آخر آية نزلت في العقود، فلم يبق محل لدعوى النسخ، تدبر ما يأتي فيما يدل على ما ذكرناه. هذا، وأن ما استأنس به هذا القائل بحل الربا القليل وعدم تحريمه إلا أن يكون أضعافا مضاعفة من قول عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب الربا.
وفي رواية: الحد بالحاء. وقوله رضي الله عنه إلا أن آخر ما نزل من القرآن هو آية الربا. ثم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يفسرها لنا، فدعوى الربا والريبة هو استيناس بغير محله، لأن عمر وسائر الأصحاب رضوان الله عليهم يعلمون ما بينه الله ورسوله من تحريم الربا الذي كان يتعاطى بالجاهلية قليله وكثيره، وجميع أنواعه لا سيما وأن الرسول قال في خطبته المشهورة في حجة الوداع على رءوس الأشهاد: كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وان حضرة الرسول بين بالأحاديث المتقدمة في سورة البقرة ما يكون فيه الربا من الأنواع الستة مما حدا بسيدنا عمر رضي الله عنه أن يقول ما قال وهو ما بينه الرسول صلّى الله عليه وسلم بأحاديثه التي بلغت عمر وما يلتحق بها فحسب، أو أن المراد بالربا معناه اللغوي، فيدخل فيه ما ذكره الرسول وما لم يذكره مما يتدرج تحت المعنى اللغوي الذي هو زيادة على مزيد عليه في معاملة بين طرفين عينا كانت أو نقدا، حاضرة أو نسيئة، ويدخل في هذا الباب الأوراق النقدية التي أحدثتها الحكومة وأمرت بالتعامل بها بدلا من الذهب والفضة بين الناس في مبايعاتهم وأنكحتهم وغيرهم إذا بيعت بالتفاضل حالا أو نسيئة، لأن الله تعالى حرم الربا بصورة عامة لم يقيده بشيء ما، والحديث الشريف إنما عد الأشياء الستة لأنها كانت مما يرابى بها بالمدينة ولم يحصرها بها ليقال لا يجوز أن يزاد على ما ذكره الرسول، ولا يقال إن هذه الأوراق من قبيل العروض فلا مانع من التفاضل ببيعها، لأن العروض لها قيم خاصة معروفة ومجهولة، أما الأوراق النقدية لولا طابع الدولة فلا قيمة لها، لأن الذي جعلها تتداول بين الناس بمثابة الذهب والفضة هو طابع الدولة وتكفلها بدفع قيمتها عند الحاجة. واعلم أن القول بعدم الربا في هذه الأوراق يجرّ إلى القول بعدم وجوب الزكاة فيها والنقد المتداول كله منها، فيتعطل ركن من أركان الدين الإسلامي والعياذ بالله. هذا، ونعود إلى البحث الأول فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: إذا كان المراد بالربا معناه اللغوي أي مطلق الزيادة اعتبار بإطلاق الآية المندرج تحتها كل ما فيه تفاضل فيا ترى ما حد هذا الاندراج، أيشمل ما قصد وما لم يقصد فيشمل زيادة العين وزيادة الانتفاع وغيرهما، أم لا يشمل إلا ما قصد إليه في المعاملة فحسب، أم هو المراد؟ فلهذا ود عمر أن يكون بينه الرسول حتى لا يقع في هذا التورط الشاق وهذه المسئولية العظيمة، وكيف لا وهو إن أخذ بالأول من غير مرجح له وحمل الناس عليه أوقعهم في معاملات كثيرة قد تكون الآية شاملة لها إن كان المراد المعنى الثاني، وإن أخذ بالمعنى الثاني ولم يكن مرادا في نفس الأمر أحرج الأمة وضيق عليها فيما لا قطع فيه، لذلك احتاط لنفسه في الفتوى وأخذ بأحوط الأمرين لأنه تردد بين احتمال مبيح واحتمال محرم، ت (٢٦)
صفحة رقم 401
ولما كان من الأحوط الأخذ بالتحريم فقد نصح لهم أن يتركوا ما فيه ريبة في ذلك اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقوله صلّى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. فالتقي الورع الذي يخشى عتاب الله يجتنب كل ما فيه شبهة ربا من نقد ومكيل وموزون وما يقوم مقام النقد من أوراق نقدية وغيرها حتى بيع العينة التي نهى الرسول عنها بأحاديث متعددة وهي أن يبيع الرجل آخر سلمة بثمن ثم يشتريها منه بأنقص مما باعها، لأن هذا من باب الاحتيال على الله بشأن الربا، وهو لا تخفى عليه خافية، ألا ترى أن بني إسرائيل لما احتالوا على صيد السمك الذي نهاهم الله عنه يوم السبت مسخوا قردة وخنازير كما بيناه في الآية ١٦٤ من سورة الأعراف في ج ١؟ ولهذا البحث صلة في الآية ٦٣ من سورة المائدة الآتية وفي الآية ١٦ من سورة النساء أيضا فراجعهما. وان قول عمر رضي الله عنه في الأثر الأول (وأبواب من أبواب الربا) يفيد أن
اشتباهه لم يكن مداره القلة والكثرة في تحريم الربا ولكن فيما لم يعهد إليهم فيه عهد منه مما لم يتبيّنه ولم ينته إليه علمه من غير الأمور الستة التي كانت متعارفة في المدينة ولم يقل صلّى الله عليه وسلم لا ربا في غيرها ليكمل الاحتجاج به إلى عموم الآية وهي (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي بجميع أنواعه وأصنافه من كل ما فيه زيادة تأمل. هذا واعلم أن قوله في الأثر الثاني (إن آخر القرآن تنزيلا هو آية الربا) كما ألمعنا إليه في الآية ٢٧٥ من البقرة المارة، أي إن الآية التي هي من آخر ما نزل من القرآن هي آية البقرة وقد علمت أنها تمنع القليل والكثير. ومما يدل على أن المراد بآية البقرة ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير أنه قال:
من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يقسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، أي كل ما يشك به من الربا. ولو أن عمر رضي الله عنه كان مدار اشتباهه في الآية على عدم التمييز بين الربا القليل الذي هو حلال، والربا الكثير الذي هو حرام، لكانت آية آل عمران هذه هي محل الاشتباه، ولو كان
في هذه الآية لديهم من ريبة لسألوا عنها حضرة الرسول لأنها نزلت قبل وفاته بكثير، لأن آية قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ٤ من المائدة، نزلت بعدها، وقد عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ولم ينزل بعدها إلا آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية ٢٨٠ من البقرة المارة، فراجعهما.
هذا وقد علمت مما تقدم أن الأثرين حجة عليه لا له، وإن تذرعه بالاجتهاد مردود عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وممنوع إذ يصادم قوله تعالى (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلم وان ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، مما يدل دلالة صريحة على أن آخر آية في الربا نزولا هي آية البقرة المذكورة. واعلم أن القصد من معارضة هذا المعارض إرادته إباحة إنشاء المصارف (البنوك) وأخذ الناس منها بربا يسير أقل من ربح البايع فيما يبيعه، وهذا لمن يتكلم بحق إرادة الباطل مثل دعاة السفور وهم يريدون الخلاعة لا غير، وإذا بحثنا في هؤلاء الذين يأخذون من المصارف تجدهم إنما يأخذونه لغير حاجة ماستة لأنهم إما يريدون تكثير زراعتهم إن كانوا مزارعين، وتجارتهم إن كانوا تجارا، أو زواجا أو بناء أو ملكا ما أو بذخا ليساووا من هو فوقهم وأكبر منهم وأغنى، أو طمعا بربحه اليسير وإعطائه بأضعاف ريحه لمن لا يقدر أن يأخذ من المصرف ليكاثر وينامي غيره به ومع هذا إنا نرى الذين تعاطوا هذا لم يتيسر لهم ما أملوه، فلم تمض مدة حتى ترى الملاك حجزت أملاكه، ولتاجر أعلن إفلاسه، والمزارع صار يستلف على زراعته لأداء ما عليه منه، والآخر أصبح فقيرا معدما، وهذا هو السر في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) فكان الأحسن لهذا والأجدر به أن يكون داعيا إلى الله موصيا الناس بالقناعة بما في أيديهم، ويحث الأغنياء على زكاة أموالهم لكفاية الفقراء، ويحبذ لهم القرض لمن يأمنوا على أدائه لهم وجواز إعطاء الفقير بما دون حد الغنى من الزكاة، فلو أعطى هؤلاء وأقرض الآخرون لقدر الفقراء على تأمين معيشتهم من البيع والشراء بالأشياء العادية من الخضروات وشبهها مما هو من حوائج العامة فيغنيهم الله من فضله ويبارك لمن ساعدهم ويعطى هذا المحبذ للمصارف والأخذ منها أكثر مما يعطونه أهلها، لأن
عطاء الله ممدود، وعطاءهم مقصور محدود، فيتكل على الله ويمنع أولئك من الأخذ من المصارف والاشتغال بما في أيديهم فهو أنفع لهم من الازدياد بما يوجب دمارهم، ويعلمهم بأن أخذ بعضهم من بعض سواء كان بطريق القرض أو التجارة أو الصدقة أبقى للرابطة بينهم، واحفظ لمادة التفاضل، قال صلّى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت.
وقال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية ٧٢ من سورة النحل، وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية ٢٥٣ من البقرة المارة، ولهذا فإن نظام العالم لا يقوم ولا يدوم إلا بهذه الصورة. وإذا أنعمت نظرك علمت أن الربا لا يجوز بوجه من الوجوه، لأن المال الذي يعطيه الغني إلى الفقير هو مقدار ما بذل من جهود إلى الهيئة الاجتماعية فلا يستحق عليها مزيدا، ولأنه ليس سلعة معينة بيد الآخذ ينهكها العمل ويؤثر فيها الاستعمال حتى يستحق تعويضا في نظيرهما، ولأن كل ما حصله الآخذ بواسطتها إنما يكون بجهوده، وهو المستحق لثمرة حصلت بها دون سواء، ولأن الزائد الذي يدفعه إلى المرابي إنما هو زيادة أخذها من جهوده فوق ما قدم للوجود من جهود، فأخذه لها من غير استحقاق ظلم بحت ومعاملة مخالفة للنظامه الفطري الذي هو التعاون الموجب للتوادد والتحابب بين الناس، لأن معاملة الربا تؤدي للتنازع والتفرقة والبغض والحقد، وكل هذا مما يضر بالمجتمع ويرهقه ويضعف مادة التناصر المجبولة عليها الفطر السليمة، فضلا عن أنه فيه قلب لوضع الذهب والفضة لأنهما بعد أن وضعا مقياسا للأشياء ووساطة في نظام التبادل أصبحا سلعا يقصد بها الربح الربوي مما يسبب تعطيلا للأيدي العامة اتكالا على ما يدره إليها من ربح الربا فيجعل مجهود العامل لغيره وليس له حق فيه أو بينه وبين المرابي، وهذا مما ينهكه أيضا ويضاعف جهوده على حساب غيره فلا يستطيع القيام بأعباء الحياة. وإن هذه الطريقة تجعل المال دولة بين الأغنياء إرهاقا للفقير بأخذ مجهوده ليتنعم الغني ويبلس الفقير، ومن هنا تنشأ العداوة والضغائن وتقع التفرقة والبغضاء، وتضعف الروح المعنوية بين المجتمع الإنساني، فتحصل الأضرار التي لا تتلافى حتى يعقد الفقير في قلبه التربص للانتقام من الغني أو الانتحار لنفسه، ولأنه يؤدي لاحتكار النقدين لقصد التعامل بالربا فقط فيقلان في أيدي الناس
وهم محتاجون إليها، فيشق عليهم التعامل مع غيرهم الذي وضع للتسهيل والتيسير، فيخل نظام الفطرة الاجتماعية في وجوه الكسب، فيقع تحت براثنه ضحايا من الناس هم أحوج في حياتهم لأقل قليل من مجهوداتهم، ولأن فيه مخاطرة من جهة الآخذ إذا ألزم نفسه أن يدفع كسبا المرابي محققا في نظير ما يؤمل كسبه، إذ قد يخيب ظنه فيخسر فيشق عليه أداء الزيادة للمرابي، ولأنه يعود الناس الطمع بما في أيدي الغير، فتقسو قلوب بعضهم على بعض فيفقدون ملكة التعاون والتراحم والتعاطف بعضهم على بعض، فتنقطع بينهم عرى المساعدة حالة الشدة، ويحرمون من الثناء والحمد، وتنهال عليهم المذمة والدعاء والشتم في الدنيا فضلا عن حرمانهم في الآخرة الثواب المعين للقرض الذي هو أفضل من الصدقة، ولقائهم عذاب الله الأليم.
فهذه اثنتا عشر خصلة كل واحدة منها كافية للقول بحرمة الربا على القطع، وفي كل منها مفسدة كافية للقول بمنعه، فما بالك إذا تحلقت جميعها، فهل تهد قوى الأمة وتنقص فضلها وتحطم كمالها وتقطع بينها مادة التواصل أم لا؟ قل بلى، ولا يقولها إلا موفق من يوم قالوا بلى لله القائل «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (١٣٣).
أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه إنك كنت تدعو إلى جنّة عرضها السموات والأرض فأين النار؟
فقال صلّى الله عليه وسلم فأين الليل إذا جاء النهار؟ أي أن القادر على إذهاب الليل قادر على أن يخلق النار حيث يشاء، أو أنها بعرض هذه السموات والأرض المرئية الآن، لا اللّتين تبدلان، راجع الآية ٤٨ من سورة إبراهيم في ج ٢، وفي خبر لأبي هريرة مما يؤيد هذا، وما قاله بعضهم بأن عرضها ثخنها بحيث لو عرضت لبلغ ثخنها ثخن السموات والأرض فليس بشيء وهو خلاف الظاهر وبعيد عن المعنى وعن المأثور، وهذه الآية تؤيد وجود الجنة كما بيناه في الآية ١٣١ المارة.
مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها:
ثم بين هؤلاء المتقين بقوله «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أموالهم فيما خلقت لها ابتغاء مرضاة الله بلا منّ ولا أذى ولا طريق محرم «فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» أي في
حالتي العسر واليسر، فلا يتركون الإنفاق سواء كانوا في عرس أو حبس.
«وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» الجارعين مضضه عند امتلاء نفوسهم منه فلا يظهرونه بقول ولا فعل بل يصبرون ويسكتون، لأن الكظم حبس الشيء عند امتلائه، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
وعليه قول ابن الوردي:
اتق الله فتقوى الله ما | جاررت قلب امرئ إلا وصل |
ليس من يقطع طرقا بطلا | إنما من يتق الله البطل |
وذلك أن شفاء الغيظ بالبطش والانتقام، وقد حالت التقوى والحلم دونه، ونعم الحائل والمانع. ولهذا قالوا: كن من العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الجاهل إن عاشرته، ومن الفاجر إن خاصمته، ومن الكريم إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته على حذر. روى سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيّره في أي الحور شاء- أخرجه الترمذي وأبو داود «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» إذا جنوا عليهم فلم يؤاخذوهم وقد يحسنون إليهم بالعطاء فضلا عن إحسانهم بالعفو «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٣٤) عامة ومحبة الله أعظم درجات ثوابه وخاصة لمثل هؤلاء، لأن من يعفو وهو قادر فقد تذرع بالصبر وعرف أن ذلك من قضاء الله وقدره فلم يتبرم ولم يسخط فكان من الصادقين الذين إذا قالوا صدقوا وإذا عاهدوا وفوا وإذا ائتمنوا أدّوا، فيكون من القانتين الذين سلمت أعمالهم من الرياء وأقوالهم من السمعة طلبا لما عند الله، وهذا كله من حسن الخلق الذي منّ الله عليهم به، قال محمد بن ثور الهلالي:
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت | فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا |
فإذا رزقت خليقة محمودة | فقد اصطفاك مقسّم الأرزاق |
فالناس هذا حظه مال وذا | علم وذاك مكارم الأخلاق |
والمال إن لم تدخره محصنا | بالعلم كان نهاية الإملاق |
والعلم إن لم تكتنفه شمائل | تعليه كان مطية الإخفاق |
لا تحسبن العلم ينفع وحده | ما لم يتوج ربه بخلاق |
التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه. واعلم أن في إعداد النار للكافرين في الآية ١٣ المارة وإعداد الجنة للمتقين في هذه الآية بشارة عظيمة على تقوية رجاء المؤمنين المتقين المتصفين بالصفات المذكورة برحمة الله تعالى لدخول الجنة المهيأة لهم، وتباعدهم عن النار المعدة لغيرهم إذا لم يسلكوا طريقها، قال القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها | إن السفينة لا تجري على اليبس |
من استعان بغير الله في طلب | فإن ناصره عجز وخذلان |
ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا (أي ما يقارب ملئها) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقد ألمعنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٤٣ من سورة الشورى في ج ٢ فراجعه.
قال تعالى «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (١٣٦) في هذه الدنيا الجنة عند الله تعالى والأمن من العقاب وحسن الثواب على عمله الصالح وتوبته النصوح. هذا وقد ذكرنا أن هذه الآيات من آية الربا إلى هنا معترضة بين قصة أحد لمناسبات وأسباب ذكرت خلالها. ثم ذكر الله تعالى ما فيه تسلية لحضرة الرسول وأصحابه عما وقع لهم في حادثة أحد بقوله «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» طرق وعادات في الأمم الماضية بإهلاك العصاة وإثابة الطائعين أيها المؤمنون (قد تأتي الأمة بمعنى السنة والسنن بمعنى الأمم) كما قيل:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم | ولا رأوا مثلكم في سالف السنن |
إن آثارنا تدل علينا | فانظروا بعدنا إلى الآثار |