
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ تَحْذِيرٌ وَتَنْفِيرٌ مِنَ النَّارِ وَمَا يُوقِعُ فِيهَا، بِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ لِلْكَافِرِينَ وَإِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ. عَدْلٌ مِنَ الله تَعَالَى وَحِكْمَة لأنّ ترتّب الْأَشْيَاءِ عَلَى أَمْثَالِهَا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْحِرْمَانَ مِنْ رَحَمَاتِهِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَرْضَوْنَ بِمُشَارَكَةِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ يُوجِبُ كَرَاهِيَةَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْكُفْرِ. وَذَاكَ تَعْرِيضٌ وَاضِحٌ فِي الْوَعِيدِ عَلَى أَخْذِ الرِّبَا.
وَمُقَابِلُ هَذَا التَّنْفِيرِ التَّرْغِيبُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: ١٣٣]، وَالتَّقْوَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ.
وَتَعْرِيفُ النَّارِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْوَصْفُ لِلنَّارِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التَّحْرِيم: ٦]، وَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: ٩١] الْآيَةَ.
[١٣٣، ١٣٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٣٣ إِلَى ١٣٤]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ سارِعُوا دُونَ وَاوِ عَطْفٍ.
تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ سارِعُوا.. مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، لِجُمْلَةِ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ مُسَارَعَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَلِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَة والجنّة يؤول إِلَى الْأَمْرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ جَازَ عَطْفُ الْجُمْلَة على الْجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، فَلِذَلِكَ قَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ وَسارِعُوا. بِالْعَطْفِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُنْبِئُنَا بِأَنَّهُ يجوز الْفَصْل والوصل فِي بَعْضِ الْجُمَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ.
وَالسُّرْعَةُ الْمُشْتَقُّ مِنْهَا سَارِعُوا مَجَازٌ فِي الْحِرْصِ وَالْمُنَافَسَةِ وَالْفَوْرِ إِلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةُ حَقِيقَةً، وَهِيَ سُرْعَةُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد عِنْد النفير كَقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»

وَالْمُسَارَعَةُ، عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَعْلِيقُهَا بِذَاتِ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ عَلَى إِرَادَةِ أَحْوَالِهَا عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالذَّاتِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، مُجَرَّدَةً عَنِ مَعْنَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، قَصْدَ الْمُبَالِغَةِ فِي طَلَبِ الْإِسْرَاعِ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِمَا يَدُلُّ فِي الْوَضْعِ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّأْكِيدَ وَالْمُبَالَغَةَ دُونَ التَّكْرِيرِ، وَنَظِيرُهُ التَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤].
وَتَنْكِيرُ (مَغْفِرَةٍ) وَوَصْلُهَا بِقَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ مَعَ تأتّي الْإِضَافَةِ بِأَنْ يُقَالَ إِلَى مَغْفِرَةِ رَبِّكُمْ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَوَصْفِ الْجَنَّةِ بِأَنَّ عَرْضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ.
وَالْعَرْضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الطُّولَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاتِّسَاعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْعَرِيضَ هُوَ الْوَاسِعُ فِي الْعُرْفِ بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَيْرِ الْعَرِيضِ فَهُوَ ضَيِّقٌ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعُدَيْلِ:
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي | بِسَاطٌ بِأَيْدِي النَّاعِجَاتِ عَرِيضُ |
رُوِيَ: الْعَرْشُ سَقْفُ الْجَنَّةِ
. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقِ الْآنَ وَسَتُخْلَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الظَّاهِرِيُّ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ تُخْلَقَ فِي سَعَةِ الْفَضَاءِ الَّذِي كَانَ يَمْلَؤُهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَوْ فِي سَعَةِ فَضَاءٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَفِي حَدِيثِ رُؤْيَا رَآهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِيِِ صفحة رقم 89

فِيهِ
قَوْلُهُ: «إنّ جِبْرِيل وميكاييل قَالَا لَهُ:
ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعَ فَإِذَا فَوْقَهُ مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَا: هَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ».
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤).
أَعْقَبَ وَصْفَ الْجَنَّةِ بِذِكْرِ أَهْلِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يزِيد التّنويه بِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُقَلَاءُ يَتَخَيَّرُونَ حُسْنَ الْجِوَارِ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
مَنْ مَبْلَغٌ أَفَنَاءَ يَعْرُبَ كُلِّهَا | أَنِّي بَنَيْتُ الْجَارَ قَبْلَ الْمَنْزِلِ |
وَقَدْ أَجْرَى عَلَى الْمُتَّقِينَ صِفَاتِ ثَنَاءٍ وَتَنْوِيهٍ، هِيَ لَيْسَتْ جِمَاعَ التَّقْوَى، وَلَكِنَّ اجْتِمَاعَهَا فِي مَحَلِّهَا مُؤذن بأنّ ذَلِك الْمَحَلَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا قَدِ اسْتَكْمَلَ مَا بِهِ التَّقْوَى، وَتِلْكَ هِيَ مُقَاوَمَةُ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعِ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: الْإِنْفَاقُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْإِنْفَاقُ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَإِعْطَاءُ الْمَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالسَّرَّاءُ فَعْلَاءُ، اسْمٌ لِمَصْدَرِ صفحة رقم 90