آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ

و «الإخوان» جمع أخ، ويجمع إخوة، وهذان أشهر الجمع فيه، على أن سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع، وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخوانا، والأخ في النسب يجمع إخوة: هكذا كثر استعمالهم.
قال القاضي أبو محمد. وفي كتاب الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات: ١٠] وفيه، أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ [النور: ٣١]، فالصحيح أنهما يقالان في النسب، ويقالان في الدين، و «الشفا» حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى، كقوله شَفا جُرُفٍ [التوبة: ١٠٩] وإلى الأسفل كقوله شَفا حُفْرَةٍ، ويثنى شفوان، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقذهم الله بالإسلام، والضمير في مِنْها عائد على النار، أو على «الحفرة»، والعود على الأقرب أحسن، وقال بعض الناس حكاه الطبري: إن الضمير عائد على «الشفا»، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث، فالآية كقول جرير:

رأت مرّ السنين أخذن منّي كما أخذ السّرار من الهلال
إلى غير ذلك من الأمثلة.
قال القاضي: وليس الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة، إلا لو لم تجد معادا للضمير إلا «الشفا»، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها، وقوله، لَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة: «ولتكن» بكسر اللام على الأصل، إذ أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري وغيرهما: أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب الرسول، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي: فعلى هذا القول «من» للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالما، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى: ولتكونوا كلكم أمة يدعون، «ومن» لبيان الجنس قال: ومثله من كتاب الله، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ

صفحة رقم 485

الْأَوْثانِ
[الحج: ٣٠] ومثله من الشعر قول القائل: [البسيط]

أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر
قال القاضي: وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى: مِنَ الْأَوْثانِ ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرا بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
قال القاضي: والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم»، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: ١٧] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: ١٠٥] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء: «المعروف» التوحيد، والْمُنْكَرِ الكفر، والآية نزلت في الجهاد.
قال الفقيه القاضي: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولا بد، الْمُفْلِحُونَ الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم.
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق النصارى، ومجيء الْبَيِّناتُ هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وأسند الفعل دون علامة إلى الْبَيِّناتُ، من حيث نزلت منزلة البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله: عَذابٌ عَظِيمٌ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من

صفحة رقم 486
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية