آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

«تَبْغُونَها»
سبيل الله الموصلة إليه «عِوَجاً» بكسر العين أي الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى، أما الجدار والعصا وغيرهما مما تراه العين فيفتح العين راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة في ج ٢، «وَأَنْتُمْ شُهَداءُ» بأن الدين الحق ما عليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وأن ما أنتم عليه ضلال «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (٩٩) من إلقاء الشبه بقصد تشكيك الناس لصدهم عن الإيمان بمحمد واتباع دينه القويم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» (١٠٠) فاحذروهم وتباعدوا عنهم
ثم أتى بما ينم بالتعجب من طروء الكفر على الإيمان بقوله «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» بالله ورسوله استفهام تعجب يليه جملة حالية أي كيف يكون منكم ذلك «وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» قائم بين أظهركم، أي لا يليق بكم ذلك بل لا يتصور وقوعه منكم وأنتم على ما أنتم عليه من العقل والدراية «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ» ويتمسك بدينه ويتبع رسوله «فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (١٠١) بوصله إلى الجنة لأن من يعصمه الله يقيه من الوقوع في الآفات ويدفع عنه كل شر.
مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم:
ولما رأى شاس بن قيس اليهودي ألفة الأوس والخزرج في الإسلام بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان قال والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر من يذكّرهم بوقائعهم يوم بعاث وما جرى فيه من القتل بينهم والسلب ليوقع بينهم الشحناء ويثير الضغائن الكامنة في قلوبهم، والفتنة قائمة لعن الله من أيقظها ولا سيما والناس كانوا قربي عهد بالإسلام، فذكروهم ولا زالوا يثيرون بينهم ما وقع منهم زمن الجاهلية، حتى استفز أوس بن قبطي من بني حارثة الأوسي وجبار بن صخر من بني سلمة الخزرجي، فتفاخروا وتمارون بما أغضب الفريقين، وحملهما على حمل السلاح وخرجا إلى الحرة ليتقاتلا، قاتل الله اليهود ما ألعنهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ المهاجرين وخرج إليهم، فقال أجاهلية وأنا بين

صفحة رقم 373

أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع أمرهم عنكم، وألف بينكم، أترجعون إلى الكفر! الله الله، فوقع كلامه فيهم موقعا بعيدا وزاح عنهم ما بينهم وعرفوا أنها نزعة شيطانية قام بها أعداؤهم اليهود، فألقوا السلاح وتعانقوا، وتباكوا ورجعوا مع حضرة الرسول سامعين مطيعين. قال جابر فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، وأنزل الله الآية المارة وأعقبها بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (١٠٢) وهذه الآية محكمة لأن من التقوى قيام العبد بأداء ما يلزم بقدر طاقته لا أنه يأتي بكل ما يجب عليه لله ويستحقه، لأنه مما يعجز البشر عنه، ولذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية التغابن عدد ١٦ وهي قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بل هذه الآية مفسرة لها لا ناسخة ولا مخصصة، فمن اتقى الله جهده فقد اتقاه حق تقواه فضلا عن أنه يوجد من الكاملين من يتق الله حق تقواه، إذ يصرف كل زمنه في عبادته والتفكر بآلائه ومصنوعاته ويتداوى بعبادته ويقول فيها:

إذا العبادة لم تنقذك من وصب كلا لعمري لم تشفك الأطباء
قال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» الموصل إليه وهو القرآن الآمر بالألفة والمودة والمفضي لدخول الجنة «جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» كاليهود والنصارى الآن وكما كنتم زمن الجاهلية على اختلاف ألوانكم وأجناسكم «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» كما كنتم قديما لأن أوس وخزرج أخوان شقيقان، فلما تناسلوا وكثروا وقع بينهم الخلاف فتعادوا بسبب حسد بعضهم بعضا ووضع بينهم العداء، وإذا وقع الخصام بين الأقارب كان قويا ولهذا قيل:
وظلم أولي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ولهذا يذكر الله تعالى بحالتهم الأولى وما آبوا إليها بقوله «وَكُنْتُمْ» قبل الإسلام اشتد بينكم الخصام حتى صرتم «عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم «فَأَنْقَذَكُمْ» الله «مِنْها»

صفحة رقم 374

بسبب إيمانكم به واتباعكم رسوله، إذ ألف بينكم الإسلام ونجاكم من الوقوع بالكفر «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٠٣» قال مقاتل بن حبان: افتخر ثعلبة بن غنم الأنصاري من الأوس فقال منا خزيمة بن ثابت ذر الشهادتين، وحنظلة غسيل الملائكة، وعاصم بن ثابت ابن أفلح حمى الدين (واعلم أن «أفلح» اسم تفضيل من أفلح وهو خاص بمن هو أشرم الشفقة السفلى، ويقال لأشرم العلياء «أعلم» وللفرجة التي بين الشاربين تحت ضلع الأنف «نثرة» قف على هذا فقل من يعرفه) وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ورضي الله بحكمه في بني قريظة، فرد عليه سعد بن زرارة الخزرجي فقال منا ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الذين أحكموا القرآن، وسعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم (قيل إن سعدا هذا بال في جحر فقتله الجن وقالوا فيه:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده. ضربناه بسهم فلم تخطئ فؤاده ولهذا كره الفقهاء البول في الجحر خوفا من حيوان يؤذي أو يؤذى) وتفاخروا فيما بينهما، وتناشدوا الأشعار، وقاموا إلى السلاح، فأتاهم رسول الله فأصلح بينهم، وأنزل الله هاتين الآيتين المتقدمتين على هذه الآية، والأول الذي ذكرناه آنفا في سبب النزول وهو قصد إيقاع الفتنة من اليهود بينهما أولى وأوفق في مناسبة سياق الآية ولفظها، لأن الحوادث التي ذكرت في تفاخرهم من حكم سعد وموته وشهادة خزيمة وموت حنظلة لم يقع قبل نزول هذه الآيات ولا في زمنها حتى يكون سبب النزول مسوفا إليها، وعلى القول بأنها متأخرة بالنزول فكذلك لا يستشهد بها على ذلك. جاء في افراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله هو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، الحديث.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به. وروى مسلم حديث ابن أرقم بأطول من ذلك، وفيه وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها مرتين.

صفحة رقم 375

واعلم أن سبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم هو أن سويد بن الصامت الذي كان شريفا في قومه ويسمى بينهم الكامل لجده وحسبه ونسبه، قدم مكة بعد مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع به ودعاه للإسلام فقال له إن معي مجلد لقمان يعني كلمته وسيرته، فقال له الرسول اتلها علي فتلاها، فقال هذا حسن، وما معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي نورا وهدى، وتلا عليه مما كان قد نزل، فقال هذا القول حسن وانصرف إلى المدينة، وقتل يوم بغاث، فقال قومه قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الحبس أنس بن رافع وأياس بن معاذ مع فتية من بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال لهم هل لكم إلى خير مما جئتم به قد بعثني الله إلى العباد رسولا أدعوهم بعدم الشرك وأنزل علي الكتاب، وتلا عليهم منه، فقال أياس أي قوم والله هذا خير، فضربه أبو الحبس بخفنة من الحصباء وقال ما لهذا جئنا، وانصرف رسول الله ورجعوا إلى المدينة، وهلك أياس في واقعة فيما بينهم، ثم خرج الرسول إلى الموسم يدعوا الناس إلى الله كعادته لعله يجد من يأخذ عنه دينه فيهتدي به أو يستحسنه فيذكره لغيره كسويد بن الصامت وأياس بن معاذ المذكورين آنفا، فلقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر بن باني، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، فجلس إليهم وتلا عليهم قرآنا ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبيا يخرج آخر الزمان ويقولون إنهم يتبعونه ويقتلونهم معه وقال بعضهم لبعض لنسبقن اليهود عليه، وقالوا للرسول سندعوا قومنا إلى اتباعك وعسى الله أن يجمعهم عليكم فلا يكون أعزّ منك، ولما دخلوا المدينة ذكروا حضرة الرسول ورغبوا أتباعهم في الإسلام، فأسلموا، وفشا الإسلام بالمدينة لما رأوا من حسن تعاليمه القيمة وعملوا بما بلغهم عنه من المذكورين، وفي الموسم الآخر قدم من المدينة اثنا عشر رجلا زكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويمر بن مساعدة من الأوس، والستة الأول، فبايعوا حضرة الرسول

صفحة رقم 376

في العقبة الأولى على صيغة وصفة بيعة النساء المبينة في الآية ١٣ من سورة الممتحنة الآتية، وقال لهم الرسول إن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن أسعد بن زرارة وصاروا يجلسون في حائط بني ظفر، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن صفير انطلق إلى هذين الرجلين- يريد مصعبا وأسعد- فازجرهما لئلا يسفها ضعفائنا، فلولا أن أسعد ابن خالتي لكفيتكه، فأخذ حربته وتوجه نحوهما، فلما رآه سعد قال لمصعب هذا سيد قومه، فلما وصلهما قال لهما اعتزلا عنا، فقال له مصعب أو تجلس فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا كف عنك ما تكره، قال أنصفت، فركز حربته فكلمه بما يتعلق بالإسلام من آداب وأخلاق وتوحيد الإله وتفنيد الشرك وقرأ عليه القرآن، قالا والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فقال لهما ما أحسن هذا وكيف الدخول في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين، فقال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وأخذ حربته وأقبل على نادي سعد، فقال سعد لمن عنده أحلف لكم إنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به فقال يا أسيد ما فعلت؟ قال ما رأيت بهما بأسا وقالا لا نفعل إلا ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه تحقيرا لك لأنهم عرفوه
ابن خالتك، فقام مغضبا وأخذ حربته، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا أراد ذهابه إليهما ليسمع منهما، فقال أسعد لمصعب هذا والله سيد قومه، فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رغبت قبلت وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، قال أنصفت، فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام، قالا فعرفنا الإسلام فى وجهه والله قبل أن يتكلم، فقال وكيف الدخول في دينكم؟ قالا له مثل ما قالا لأسيد وأن مبنى هذا الدين على العفو والسماحة والغيرة والشهامة من كل ما يؤثر في قلب الكريم أمثاله، فقبل ذلك، فقام واغتسل وطهر ثيابه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته وذهب، فلما أقبل على الناس قال أسيد والله إنه رجع بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال يا بني

صفحة رقم 377

عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقية، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني الأسهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة، وأمر مصعبا بتلقينهم الإسلام وتعاليمه وتحبب إليهم بالطرق التي تمرن عليها رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، ثم صار مصعب وأسعد يدعوان الناس إلى الإسلام علنا حتى لم يبق في المدينة بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية ابن زيد وخطمة ووائل إذ كان فيهم أبو قيس الأسلت فوقف بهم عن الإسلام وكان شاعرا مشهورا. واعلم أن كلمة الأنصار لم تعرف قبل هجرة الرسول إلى المدينة وإنما كانوا يسمون بقبائلهم، وإنما لقّبوا بها لتشرفهم بموالاة حضرة الرسول ونصرتهم له. هذا، وفي الموسم الثالث خرج مصعب وأسيد ومعهم سبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأم عمارة أسماء بنت عمرو أم منيع إلى مكة وأخذوا معهم أبا جابر والتقوا برسول الله بالعقبة، وكان معه العباس ولم يسلم بعد، فقام خطيبا وقال يا معشر الخزرج (وكانوا يطلقون هذه الكلمة على الأوس والخزرج) إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبي إلا الانقطاع إليكم والحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وافون إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة، فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما شئت، فبدأ صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا- أي ظهرنا ويطلق على القوة والضعف فهو من الأضداد- فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وعهودا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك

صفحة رقم 378

وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال صلّى الله عليه وسلم أخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن ثعلبة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتوه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، ثم قالوا فما لنا بذلك يا رسول الله إن وفينا؟ قال الجنة، قالوا ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده
البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمع قط (يا أهل الحباحب، هل لكم في مذمم والصياة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال صلّى الله عليه وسلم هذا عدو الله إبليس هذا أرنب العقبة أي شيطانها، اسمع عدو الله والله لأفرغنّ لك) ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انفضوا، فقال العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق لئن شئت ليملن عليهم أي على أهل منى بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلم لم تؤمن؟؟ بذلك (ومن هنا يعلم أن هجرة رسول الله لم تكن عن ضعف وخوف كما أشرنا إليه في بحث الهجرة آخر الجزء الثاني لأنها متصورة قبل اجتماع قريش في دار الندوة على الصورة المارة في بحث الهجرة المذكور. وهذه الحادثة قبلها بسنة وستة أشهر) وما كانت إلا لظهور الإسلام وعلوه وفاقا لما هو عند الله أزلا بأن الإسلام يفشو بالمدينة قبل مكة بسنتين، ومن هنا يظهر قول عيسى عليه السلام (ألحق أقول لكم أن لا يكون نبي في قومه) فرجعنا إلى مضاجعنا وكان وقت السحر من اليوم الثاني من ذي الحجة سنة ٥٢ من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة العظيمة، فصابحوهم أجلة قريش وقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم بايعتم صاحبنا على حربنا، وإنا والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم،

صفحة رقم 379

قال كعب بن مالك فانبعث بعض المشركين من قومنا يحلفون بالله ما كان شيء من هذا وما علمناه أبدا، فصدقوا لأنهم لم يعلموا بالمبايعة، ولو علموا لما اعتذروا لأنهم لا يخافون من قلة عدد أو وهن عدد، قال وكان بعضنا ينظر إلى بعض، فقاموا ورجعوا ووقانا الله من الكلام، ولولا أن سخّر الله بعض مشركيهم وحلفوا على نفي ما سمعوا وهم صادقون لصدقوا ما سمعوا به ولوقع ما وقع.
وهذا أول خير رأوه من بيعة حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وأظهروا فيها الإسلام. وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله، فقال لهم حضرة الرسول إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة، وأول من هاجر أبو أسامة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر ابن ربيعة، ثم عبد الله بن جحش، ثم تتابعوا حتى هاجر رسول الله على الصورة المبينة في الآية ٤٤ من سورة العنكبوت في ج ٢، ودخل المدينة يوم الاثنين في ١٢ ربيع الأول سنة ١٣ من البعثة، وجمع الله شملهم، وأزال الضغائن من بينهم بسببه صلّى الله عليه وسلم وذلك قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) بعد حروب دامت مئة وعشرين سنة بين الأوس والخزرج.
مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث:
قال تعالى «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «أُمَّةٌ» جماعة «يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ» الطائفة التي هذه صفتها «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١٠٤) الفائزون بنعيم الدنيا والآخرة «وَلا تَكُونُوا» أيها المؤمنون «كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا» في أمر دينهم كأهل الكتابين والصابئين «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على الوحدة في الدين ولم الشعث والألفة بأن يكونوا يدا واحدة فاختلفوا «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ١٠٥» في الآخرة لا يتصورونه عدا ما ينالهم في الدنيا من الذل والهوان والصغار والعار والخزي والخسار وما يصيبهم من قتل وأسر وسبي وجلاء.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى

صفحة رقم 380

منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. لأنه لم يأخذ بالعزيمة، فعلى الرجل الحازم أن يغير المنكر ما استطاع بيده إذا كان مرتكبه من هو تحت ولايته كابن وزوجته لأنه لا يعذر بإقرارهم عليه لكونه مسؤلا عنهم عند الله. قال صلّى الله عليه وسلم. كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته.
فالرجل راع في أهله، والزوجة راعية في بيت زوجها، فإذا قصّرا سئلا، لأن كلّا منهم قادر على إزالة ما يقع من المنكر، وإلا فله أن يطلق زوجته ويطرد ابنه إذا لم يمتثل، فهذا شأن المسلم وطريق جماعة المسلمين. وأخرج أبو داود عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. والربقة الحبل الذي فيه العرى وتشد فيها الغنم، والمراد بها هنا عقد الإسلام وعهده. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة أي وسطها- فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ- أي الواحد-. وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار. وأخرج عن أنس: مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله. وأخرج البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا خرقا في نصيبنا لم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا. والأمر في هذه الآية للوجوب الكفائي، أما في قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية ١٣٢ من سورة طه في ج ١ فهو للوجوب العيني بدليل قوله تعالى هنا (مِنْكُمْ) أي بعضكم فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإلا فالكل آثم لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه. وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درّة بنت أبي لهب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خير الناس؟ قال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم. وروى الحسن

صفحة رقم 381

عنه صلّى الله عليه وسلم: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله ورسوله وخليفة كتابه. وقد ذكر الله تعالى في صدر هذه الآية ما هو الحسن والخير ثم أتبعه بنوعيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة في البيان. والمعروف كل شيء يعرف بالعقل حسنا ويحسنه الشرع، والمنكر عكسه أي كل شيء يعرف بالعقل منكرا ويقبحه الشرع. الحكم الشرعي: يجب وجوبا كفائيا على من آنس في نفسه الكفاية أن يتصدر لأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر على أن يكون رحب الصدر لا تصده كلمة متكلم ولا يغضبه نهر ناهر ولا يترك من أجل متعند أو متعنت لأن الترك بهذه الأسباب لا تخلصه عند الله إذا كان متعينا عليه.
قال الحسن البصري والأكمل أن لا يعيب الناس بعيب هو فيه، وأن يأمر بإصلاح عيوبهم بعد أن يصلح عيبه، وإلا فليشتغل بخاصة نفسه، وعلى الناس أن يأخذوا بقوله ولو لم يقم هو بما يأمر، ولا حجة لهم عليه بقوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) الآية الثانية من سورة الصف الآتية لأن المراد منها نهيه عن عدم الفعل لا عن القول، ولا بقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الآية ٤٤ من سورة البقرة المارة لأن التوبيخ فيها على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، ولا يمنعه عدم أخذ الناس فيما يأمرهم وينهاهم، وإنما عليه القيام بالأمر والنهي فعلوا أم أبوا ليخلص عند الله وتكون الحجة عليهم، وإذا قام بعض الأمة في هذا سقط عن الإثم عن الباقين وآمنوا من الوعد والوعيد الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلى كريمكم ولا يرحم صغيركم، ويدعوا خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون.
قال تعالى واذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» من المؤمنين يوم القيامة فيسرون ويتباهون على رءوس الأشهاد «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين فيه فيتحسرون على ما وقع منهم في الدنيا ويفتضحون في ذلك الموقف العظيم «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» فيقال لهم على ملأ الناس «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بالله يوم أعطيتموه العهد والميثاق في عالم الذر «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (١٠٦) فيه ولنقضكم العهد الذي عاهدتم عليه

صفحة رقم 382

ربكم «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ» بإيفائهم العهد وقيامهم بما أمروا به واجتنابهم لما نهوا عنه «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (١٠٧) لا يتحولون عنها أبدا، والمراد بالرحمة هنا الجنة «تِلْكَ» حالة الفريقين يوم القيامة هي «آياتُ اللَّهِ» القاضية بذلك «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» كما أنزلت بالحق لتتلوها على قومك ليأخذوا بها ويحفظوا أنفسهم من عاقبة يوم القيامة فيقوها من الظلم بالدنيا «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» (١٠٨) بإركاسهم في النار وإنما هم يسببوه لأنفسهم ويريدون ظلم غيرهم بإعراضهم عن الأخذ بآيات الله «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (١٠٩) فيقضي بها وحده بالعدل. واعلم أن اسوداد الوجه يحصل للكافر من شدة ما يلاقي من الهول، قال الشاعر:

ومن الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا
إلى أن قال:
فرد شعورهن السود بيضا وردّ وجوههن البيض سودا
كما أن ابيضاض وجه المؤمنين يحصل من السرور العظيم الذي يرونه فتبتهج وتنبسط، وقيل في المعنى:
وتنبسط الوجوه لأمر خير كما تغبر من شر تراه
وقال غيره:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وفي هذا البيت اكتساب المضاف التأنيث من المضاف اليه كما في قوله:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وقد يكتسب التذكير أيضا كما في قوله:
انارة القلب مكسوف بطوع هوى وقلب عاص الهوى يزداد تنويرا
تحذر هذه الآية الناس عاقبة أمرهم إذا هم لم يقوموا بأوامر الله تعالى بما ذكر ألا فليقلع الناس عما هم عليه قبل حلول الأجل وليزداد الطائعون طاعة لينالوا ما وعدهم الله به من الخير. هذا ولما قال مالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا اليهوديان

صفحة رقم 383

لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة نحن أفضل منكم، أنزل الله تعالى على رسوله خطابا له ولأمته قوله جل قوله:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» ولهذا وصفتم بالأخيرية على غيركم من الأمم «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ» كإيمانكم بمحمد وكتابه «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» من الإصرار على ما هم عليه الذي يؤدي بهم إلى شر العاقبة وليس كل أهل الكتاب على ضلال «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كالنجاشي وأصحابه من النصارى الذين آمنوا قبلا وعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود المتوقع إيمانهم، لأنهم يصدقون الرسول ويؤمنون بكتابه ويميلون للإسلام، وهؤلاء آمنوا بعد نزول هذه الآيات كما سيأتي في الآية ١٧ من سورة النساء «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (١١٠) ويدخل في هذا الخطاب جميع الأمة المحمدية أولها وآخرها إلى قيام الساعة بحسب معناها على أنه إذا كان المخاطب به محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فهو على حد قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية ١٤ من البقرة ونحوه فإنه خطاب عام يشمل الكل وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين فقط، روى نهر بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) إلخ قال أنتم تتممون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- أخرجه الترمذي- وفي حديث آخر افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي وهنا سبعون باعتبار بعض الأمم تضم فرقا أخرى، وكان هنا ناقصة تدل على تحقيق الشيء بصفته في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق، وتحمل تارة على الانقطاع كما في قولك كان التمر موجودا، والرجل قائما، وطورا على الدوام كقولك كان البر محمودا، وكان ربك رحيما، ومنه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الآية، ولها ارتباط بالآيات قبلها، وقد سبق بيان المعروف الذي تتسابق إليه النفوس الطيبة وتتسارع له ذوو المروءات والشهامة، وملاك الأمر فيه محصور في قوله صلّى الله عليه وسلم: (التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله) لأنه إما أن يكون لواجب الوجود لذاته وهو الله جل شأنه ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته والخضوع لأمره

صفحة رقم 384

والخشوع لجنابه والاقنات لباب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص أو للمكنى بذاته، وهو إما أن يكون حيوانا فيجب إظهار الشفقة عليه بغاية ما يقدر عليه إنسانا كان أو غيره، وإذا كان جمادا فعلى العاقل أيضا أن ينظر إليه بعين التعظيم من حيث أنه مخلوق لله، لأن كل ذرة من ذرات الوجود فيها سرّ وحكمة لله تعالى ودليل على وجوده وبرهان على توحيده، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية ٤٥ من الإسراء في ج ١ وقال أمية بن الصلت:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ففعل المعروف لكل بما يناسبه معروف عند الله وتسر النفس بفعله إذا كانت طيبة طاهرة، ولله در القائل:
ويهتزّ للمعروف في طلب العلا... لتذكر يوما عند سلمى شمائله
هذا إذا فعله لسلمى، فكيف إذا فعله لربها، فإنه يذكره في ملئه الأعلى، وشتان بين هذا وذاك، فالسعيد من يصرف عمله وماله وجاهه في مرضاة الله، والشقي من يعكس، وكل ميسر لما خلق له، قال:
ولست أرى السعادة جمع مال... ولكن التقي هو السعيد
هذا إذا رافقته عناية الله، وإلا فكما قال:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت... ظنون مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر... وموسى الذي رباء فرعون مرسل
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرني (أي الزمن الذي هو فيه وهو ما بين الثلاثة والثلاثين سنة والمائة) ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم ان بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. زاد في رواية: ويحلفون ولا يستحلفون. ورويا عن ابن مسعود خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم تجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته وذلك لقلة يقينهم

صفحة رقم 385
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية